Esraa Hussein Forum
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
عزيزي الزائر اهلا وسهلا بكم في منتدي اسراء حسين ، إذا كنت زائر يسعدنا ويشرفنا ان تسجل في المنتدي وتكون من ضمن اعضاؤه ، اما إذا كنت عضوا فتفضل بالدخول ، شكرا لزيارتكم لمنتدانا
دمتم برعاية الله وحفظه
مع تحياتي،
اسراء حسين
Esraa Hussein Forum
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
عزيزي الزائر اهلا وسهلا بكم في منتدي اسراء حسين ، إذا كنت زائر يسعدنا ويشرفنا ان تسجل في المنتدي وتكون من ضمن اعضاؤه ، اما إذا كنت عضوا فتفضل بالدخول ، شكرا لزيارتكم لمنتدانا
دمتم برعاية الله وحفظه
مع تحياتي،
اسراء حسين
Esraa Hussein Forum
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

Esraa Hussein Forum



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولدخول
المواضيع الأخيرة
» صناعة الخرائط عبر التاريخ
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالخميس 20 يوليو 2017, 10:04 pm من طرف محمدسعيدخير

» بطاقات القوانين الصفية للطلاب مهمة جدا جدا
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالأربعاء 19 أكتوبر 2016, 8:12 pm من طرف تلميذة سيبويه

» برنامج الأرشفة الإلكترونية/ مجانا 100% برنامج أرشيف التعاميم والوثائق
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالإثنين 10 أكتوبر 2016, 9:36 pm من طرف alialneamy

» المكتبة الألمانية النازية (مكتبة كتب عن تاريخ المانيا النازية) من تجميعى الشخصى حصريا على منتدانا
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالجمعة 24 يوليو 2015, 11:48 pm من طرف هشيم النار

» جامعة المدينة العالمية
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالثلاثاء 16 يونيو 2015, 4:42 pm من طرف BI744

» جامعة المدينة العالمية
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالثلاثاء 16 يونيو 2015, 4:41 pm من طرف BI744

» جامعة المدينة العالمية
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالثلاثاء 16 يونيو 2015, 4:40 pm من طرف BI744

» جامعة المدينة العالمية
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالثلاثاء 16 يونيو 2015, 4:40 pm من طرف BI744

» جامعة المدينة العالمية
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالثلاثاء 16 يونيو 2015, 4:40 pm من طرف BI744

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
Esraa Eman Hussein{Admin}
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_rcapالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_voting_barالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_lcap 
Dr.Emanis
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_rcapالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_voting_barالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_lcap 
أبلة حكمت
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_rcapالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_voting_barالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_lcap 
البروفوسور
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_rcapالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_voting_barالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_lcap 
mony moon
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_rcapالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_voting_barالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_lcap 
zinab abd elrahman
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_rcapالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_voting_barالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_lcap 
نهى
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_rcapالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_voting_barالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_lcap 
nihal noor eldin
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_rcapالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_voting_barالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_lcap 
heba mohammed fouad
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_rcapالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_voting_barالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_lcap 
super mada
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_rcapالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_voting_barالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_vote_lcap 
أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر
لا يوجد مستخدم
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم
التوقيت
Free Clock

 

 التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
????
زائر




التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق Empty
مُساهمةموضوع: التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق   التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالأحد 18 أبريل 2010, 4:01 am

:بسم الله زرقاء



التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق

د. إبراهيم عبد الرحمن رجب

مقدمة

على الرغم من حداثة العهد بحركة أسلمة العلوم الاجتماعية أو التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، إلا أن الشعور بالحاجة إلى إصلاح تلك العلوم من منظور إسلامي قد كان أمرا يشغل بال الكثيرين منذ وقت طويل، ولقد مرت هذه الجهود المباركة منذ إرهاصاتها الأولى قبل خمس وعشرين سنة بمجموعة من التطورات المهمة التي تستحق الرصد، ولقد يكون من المفيد اليوم الوقوف أمام هذه التطورات لإلقاء نظرة فاحصة عليها استجلاء لمعالم الطريق واستشرافا لآفاق المستقبل.
والهدف من هذه الدراسة تتبع الاتجاهات العامة التي سارت فيها هذه الجهود إلى الوقت الحاضر، مع محاولة الإشارة إلى بعض الخطوط المحتملة للسير في المستقبل كلما كان ذلك واردا. ولقد كان من الضروري أن نبدأ هدا العرض بلمحة تاريخية نأمل أن تلقي الضوء على بعض المعالم المهمة على طريق حركة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، ثم نتبع ذلك بمحاولة لرصد التطورات التي طرأت على المفهوم والمصطلح، قبل أن نركز اهتمامنا على القضايا المتصلة بمنهج التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، إلى أن ننتهي بمناقشة التطورات التي استجدت في نطاق البحوث التأصيلية وفي مجال الممارسة العلمية المنطلقة من التطور الإسلامي.
ونود أن نشير هنا إلى أننا لم نقصد بأي حال حصر الإسهامات أو الجهود المؤسسية أو الفردية التي بذلت في إطار حركة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية في مختلف أرجاء العالم الإسلامي وفي نطاق العلوم الاجتماعية بفروعها المختلفة إلى اليوم أو تناولها بطريقة نقدية، فذلك أمر يخرج بكل تأكيد عن نطاق بحثنا. ولكننا سنكتفي في هذا البحث برصد التطورات المعرفية التي برزت خلال تلك الفترة بالإضافة إلى العقد السابق لها مباشرة، ذلك الذي شهد عددا من التطورات التي مهدت أمامها السبيل، ونشير إلى أهم القضايا المطروحة في الميدان في الوقت الحاضر، في محاولة لتركيز المناقشة حولها ما أمكن، بما نأمل له فتح الباب أمام التعامل معها بفاعلية بإذن الله. ومن هنا فإنه لا مناص من أن يطبع البحث بصبغة انتقائية، نأمل من قارئنا الكريم أن يكون متسامحا في قبولها بالنظر إلى الأهداف المحدودة. وفي معظم الأحوال فإن الإشارة إلى أعمال بعينها لم يقصد بها أكثر من إعطاء أمثلة يظهر بها المقصود، كما أن معظم الأمثلة التي سقناها قد جاءت مستقاة من علم النفس، أو علم الاجتماع، أو الخدمة الاجتماعية، دون غيرها من فروع العلوم الاجتماعية أو مهن المساعدة الإنسانية، مع أن جهود التأصيل في تلك الفروع الأخرى قد لا تقل-إن لم تزد في بعض الحالات- عما وصفناه في التخصصات التي اقتصرنا عليها.

لمحة تاريخية

على الرغم من أن اتجاه التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية قد يبدو لنا أحيانا وكأنه قد كان يعيش معنا و نعيش معه منذ أمد بعيد -حتى إن الكثيرين قد أصبحوا اليوم يستبطئون ظهور نتائجه أو يستعجلون بلوغه غاية منتهاه- إلا أن عمر هذا الاتجاه لا يزيد على خمس عشرة سنة في صورته المؤسسية الناضجة، أو خمس وعشرين سنة منذ بدء ظهور إرهاصاته الأولى على أكبر تقدير، وهي فترة تعد في حساب العمر الزمني للإصلاحات الفكرية قصيرة جدا.
ولعل السبب في ذلك الشعور الذي يساورنا يرجع إلى أن معايشة القضية ومعاناة همومنا لم تكن في حقيقة الأمر بالشيء الجديد على الكثيرين من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية أو المعنيين بهموم الأمة، كما أن بعض إرهاصات الإصلاح الفكري المبكرة كانت قد سبقت بوقت طويل ظهور أي كتابات محددة تحت مسمى "التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية" أو غيره "كأسلمة العلوم"، أو "إعادة صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية". غير أن روافد هذه الإرهاصات لم يكتب لها أن يتجمع بعضها مع بعض لتكون ما يشبه هذا التيار المحدد الذي نعايشه اليوم إلا منذ وقت قريب.
والحق أن الكثيرين من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية -من ذوي التبصر والنظر- قد تولد لديهم منذ وقت طويل شعور واضح بالتناقض الكبير بين الأسس والمسلمات التي يقوم عليها بناء العلوم الاجتماعية الحديثة التي درسوها والتي يقومون بتدريسها من جانب، والتصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وما يترتب على ذلك التصور من فهم للعلاقة والنظم الاجتماعية من جانب آخر.
ولكن الواقع الأليم لعجز الأمة وتخلفها مقارنا بأحوال الأمم الأخرى المتقدمة صناعيا، وما خلفته تلك الفجوة الحضارية بيننا وبين غيرنا من تصدع في وجدان الأمة، ومن شعور عام بالهزيمة بالنظر إلى الذات، وانبهار بالانتصارات العلمية والتكنولوجية "الحديثة" بالنظر إلى الآخر، كل هذا قد نتج عنه اضطرار المشتغلين بالعلوم الاجتماعية إلى التسليم بالأمر الواقع في تلك العلوم على مضض، كما أن ضغط الواقع على أنفسهم قد حال دون تحديدهم لموقف واضح ومحدد وأصيل من ذلك التناقض الصارخ بين التوجه العام لتلك العلوم الاجتماعية الحديثة (المتأثر بالظروف التاريخية للمجتمعات الغربية) وما يشير إليه التصور الإسلامي لمحتوى تلك العلوم من طريق ينبغي أن تسير فيه.
إلا أن عوامل عديدة قد تجمعت وتقاربت منذ منتصف هذا القرن، فتضافرت -بتقدير الله- على تغيير هذا الموقف تغييرا جذريا، وكان من بين هذه العوالم ما يتصل بتطورات الأوضاع في الدول الإسلامية ذاتها (كالتخلص من الاستعمار، والحصول على الاستقلال السياسي؛ وظهور الفشل الذريع للنظم السياسية والاقتصادية"الحديثة" المستوردة، والشعور بوطأة التبعية للدول المسماة بالعظمى وآثارها، ومحاولات البحث عن الذات والشعور بالهوية الإسلامية)، كما كان منها ما يتصل بأوضاع الحياة في الدول المتقدمة صناعيا (كالتقلبات الاقتصادية والسياسية العنيفة، وظهور الآثار المدمرة للتصنيع على البيئة والإنسان، والتنمية الاقتصادية الانتهازية وما ترتب عليها من سوء التوزيع ومشكلات الفقر المزمن، وانتشار الجريمة والعنف، والتفكك الأسري، والإضطرابات النفسية)؛ وكان منها ما يتصل بالاكتشافات العلمية الرائعة (نظرية النسبية، نظرية الكم، مبدأ عدم التيقن، تطورات علوم الأعصاب الحديثة، فلسفة العلم الجديدة) التي أظهرت خطأ -بل خطيئة- النـزعات المادية المجدبة التي سادت العلوم وفلسفتها منذ القرن التاسع عشر، تلك الاكتشافات التي اقتضت إعادة نظر جذرية في الطريقة التي يرى بها العالِم العالَم، كما اقتضت إعادة نظر جذرية في مناهج البحث التي يصطنعها العلماء للبحث عن الحقيقة.
ولقد نشأ عن تفاعل هذه العوامل جميعها، وعن بدء تشربها في الوجدان المسلم، شعور بضرورة المراجعة الجذرية للمواقف الانهزامية والدفاعية التي أملتها معايشة واقع الهزيمة والخذلان المر الذي عاشه المسلمون على مدى قرنين من الركود والتخلف والقهر، كما ترتب عليها التخفف من وطأة الشعور بانعدام الحيلة التي سادت ردحا من الزمن، فشّلت القدرات الابتكارية لدى أبناء الأمة وقادتها المثقفين. ولعل من الأمور ذات الدلالة الخاصة في هذا الصدد أن ذلك الشعور المتجدد بالهوية الإسلامية، وتلك الرغبة العارمة، في إزاحة كابوس التخلف من خلال التركيز على إصلاح الفكر والمنهج فيما أصبح يعرف بإسلامية المعرفة، قد كان أكثر لدى طلائع من أبناء الأمة المثقفين الذين كانوا يدرسون أو يدرّسون في الدول المتقدمة صناعيا، فجعلهم ذلك في موقع التماس أو الاحتكاك بين الحضارتين، فأعطاهم بصرا واضحا ومتوازن بواقع الحال دونما انهزامية لا مسوِّغ لها أو انبهار لا معنى له. وقد انبثق من هذا كله تيار فكري محدد المعالم، ظهر في عدد من الكتابات والمؤتمرات والمؤسسات التي أعطت القضية بعدا جديدا وانطلاقة جديدة على الوجه الذي نراه ونعايشه اليوم في إطار حركة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية.
وعلى الرغم من الأمة لم تعدم في أي وقت من الأوقات -بفضل الله- أن تجد من بين أبنائها مفكرين ذوي بصر ثاقب ورؤية واضحة مستقيمة، يدركون الحاجة إلى تصحيح المنهج و إصلاح الفكر من أمثال سيد قطب ومحمد قطب، ومالك بن نبي، ومحمد الغزالي، وغيرهم، إلا أن معظم هؤلاء قد جاءوا أفذاذا غير مجتمعين على تيار واحد في أغلب الأحوال، كما أنهم لم يعنوا بإنشاء مؤسسات محددة، تستطيع أن تستوعب رؤاهم، وأن تخرجها إلى حيز الواقع من خلال جهود جماعية قابلة للتراكم. وحتى أولئك الذين تمكنوا من إقامة تلك البناءات كان توجههم إلى العامة -بدلا من التوجه المحدد إلى المتخصصين للعمل معا على إصلاح الفكر والمنهج- قد اضطرهم إلى خوض المطالبات السياسية القريبة التي استنفذت طاقات كان يمكن أن توجه بشكل أكثر فاعلية إلى بناء القواعد العلمية والفكرية والمنهجية التي لا يتم بدونها إصلاح.
فإذا رجعنا إلى قضية تحديد نقطة البدء لحركة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بوصفها أحد أوجه حركة أسلمة المعرفة أو أسلمة العلوم بصفة عامة، فإن بوسعنا أن نشير هنا إلى عدد من التطورات المهمة التي يمكن أن نعدَّ أية واحدة منها بمنـزلة نقطة الانطلاق في التأريخ لهذه الحركة وهي:
1. تأسيس جمعية العلماء الاجتماعيين المسلمين من قبل اتحاد الطلبة المسلمين بالولايات المتحدة وكندا بناء على اقتراح من عبد الحميد أبو سليمان في عام 1392ﻫ/1972م، تلك الجمعية التي جدَّت في البحث عن سبل الإصلاح من منطلقات فكرية وتخصصية وعلمية أصيلة، كما قادت الجهود الرائدة التي بذلت في هذا الاتجاه، تلك التي ظهرت ثمارها في التطورات التالية.
2. انعقاد أول مؤتمر عالمي للاقتصاد الإسلامي -بناء على توصيات المؤتمر الثاني للندوة العالمية للشباب الإسلامي– في جامعة الملك عبد العزيز عام 1384ﻫ/1974م. وقد كان الموضوع الرئيسي لهذا المؤتمر البحث في إسلامية علم الاقتصاد وإمكانية إنشاء مركز لأبحاث الاقتصاد الإسلامي.
3. انعقاد المؤتمر العالمي الأول للتربية الإسلامية في مكة المكرمة (بدعوة من جامعة الملك عبد العزيز بجدة) عام 1397ﻫ/1977م. وقد حضره عدد كبير من قيادات التعليم العام والجامعي في العالم الإسلامي، وتضمنت بحوثه ومناقشاته نظرة نقدية رصينة لنظريات العلوم الاجتماعية الغربية ومناهجها، ثم انتهت مداولاته إلى الدعوة -وبصورة واضحة تماما- إلى معالجة هذه العلوم (وغيرها) من وجهة "النظر الإسلامية."4
4. انعقاد الندوة العالمية الأولى للفكر الإسلامي في لوجانو بسويسرا عام 1397ﻫ/1977م، حيث انتهت إلى الدعوة إلى إنشاء "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" لقيادة جهود "إسلامية المعرفة" التي كانت قد توضحت أبعادها الرئيسية خلال الندوة، حيث كان هناك اتفاق كبير في الرؤية بين المشاركين من كبار القيادات الفكرية من مختلف أرجاء العالم الإسلامي على أهمية تلك الجهود وعلى أصالة فكرة إسلامية المعرفة.
5. إنشاء المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1401ﻫ/1981م، حيث تأسس المعهد قانونا وإن لم يبدأ فتح مكاتبه الدائمة للعمل إلا في عام 1404ﻫ/1984م. وقد تولى منذ ذلك الحين قيادة جهود إسلامية المعرفة بالتنسيق مع مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحوث في مختلف مناطق العالم الإسلامي.
6. سلسلة اللقاءات العالمية لمؤتمرات إسلامية المعرفة حيث كانت الندوة الثانية تحت مسمى "ندوة إسلامية المعرفة" في إسلام آباد (باكستان) عام 1402ﻫ/1982م5. وقد أسفرت أبحاثها ومداولاتها بوجه خاص عن الاتفاق على "خطة عمل" التي نشرت في كتيب مهم باللغة الإنجليزية بعنوان "أسلمة المعرفة" بتحرير إسماعيل الفاروقي، وقد عرض الكتيب أفكار المعهد الأساسية وخطة عمله6.
7. نشر الترجمة العربية للمقال المذكور (الذي كان قد قدم ضمن أوراق أعمال مؤتمر إسلام آباد متضمنا عرضا وتلخيصا لفكر المعهد حتى ذلك الوقت) في مجلة المسلم المعاصر عام 1402ﻫ/1982م. وقد كان لهذا المقال صدى واسع لدى كثيرين من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية في العالم العربي، لما تميز به ذلك المقال من وضوح في الرؤية وعمق في التحليل، شعر معه أولئك المتخصصون أن هذا الفكر يعبر بصدق عما تكنه ضمائرهم، وعما كانوا يتطلعون إليه على مدار السنين.
8. نشر كتاب "إسلامية المعرفة: المبادئ العامة -خطة العمل- الإنجازات" الذي عبر عن فكر المعهد ورجاله وخطة عمله. وقد قام إسماعيل الفاروقي يرحمه الله بتحرير طبعته الإنجليزية، وحرر عبد الحميد أبو سليمان نسخته العربية المعدلة الأولى في عام 1406ﻫ/1986م، وقد عدَّ الكتاب دليل عمل منذ ذلك الوقت.
ومن الواضح أن عام 1402ﻫ/ 1982م يبدو كواسطة العقد بين هذه المعالم البارزة على طريق جهود أسلمة المعرفة بصفة عامة وأسلمة العلوم الاجتماعية بصفة خاصة، وذلك يسمح باعتبار بداية القرن الهجري الخامس عشر (بداية العقد التاسع من القرن العشرين الميلادي) بالنسبة لجمهور المثقفين بوجه عام بدء هذه الحركة في صورتها المؤسسية الناضجة من حيث وضوح أبعادها وبدء انتشارها على نطاق واسع.
ولقد توازى مع هذه التطورات في الوقت ذاته، وفي مختلف أرجاء العالم الإسلامي، شعور الجامعات الإسلامية -التي تضم كليات للعلوم الاجتماعية أقساما لفروعها- بأنه ليس من المقبول أن يتم في إطار تلك الكليات والأقسام نقل نظريات العلوم الاجتماعية -المنطلقة في جملتها من تصورات مادية أو إلحادية صارخة- وتدريسها لطلابها، بدون إخضاعها للتمحيص والنقد الصارم، خصوصا أن الهدف من إنشاء تلك الكليات والأقسام في جامعات إسلامية كان إصلاح توجهات تلك التخصصات. فبدأت تلك الجامعات في ذلك الوقت بجهود نشطة لتنقية المواد والمراجع التي تدرَّس فيها مما يخالف التصور الإسلامي مخالفة واضحة، ثم انتهت إلى تبني سياسات واضحة تستهدف بذل جهود مؤسسية منظمة لتحقيق "التأصيل الإسلامي" للعلوم الاجتماعية، وهو اصطلاح تم صوغه في تلك الجامعات-وخصوصا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالمملكة العربية السعودية- والتي شارك في وضع خطة كلياتها للعلوم الاجتماعية ممثلون لكل من جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين والمعهد العالمي للفكر الإسلامي بطلب من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وقد اعتبر مصطلح تأصيل المعرفة تأصيلا إسلاميا بديلا أو مرادفا لمصطلح إسلامية أو أسلمة المعرفة، عودا إلى الأصول وتخفيفا لما قد يتوهم من اهتمام زائد وغير مسوغ بالمصادر الغربية.
ثم إن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واتحاد الجامعات الإسلامية والجامعات الأعضاء فيه، وخصوصا جامعة الأزهر وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كل أولئك نظموا عددا من المؤتمرات والندوات، وقاموا بطباعة عدد من الكتب والبحوث والمقالات التي أسهمت في إيصال الفكرة إلى أعداد كبيرة من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية.
أما مجلة المسلم المعاصر فقد قامت أيضا بعمل رائد في نشر المقالات والبحوث التي تخدم قضية التأصيل الإسلامي للعلوم، خاصة الاجتماعية منها باللغة العربية. كما قامت المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية American Journal of Islamic Social Sciences (AJISS) الصادرة عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي وجمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل ذاته باللغة الإنجليزية. وهذا أدى في النهاية إلى تبني القضية من جانب أعداد لا حصر لها من الأفراد المشتغلين بالعلوم الاجتماعية في كل الجامعات العربية وغيرها من جامعات الدول الإسلامية تقريبا، حتى تلك الجامعات التي لم تتبنَّ الفكرة بشكل مؤسسي بعد، ولعل أحدث الجهود في هذا المجال هو إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي مجلة عربية متخصصة في قضايا إسلامية المعرفة وتحمل الاسم نفسه.

المفهوم والمصطلح



لقد مرت المناقشات والكتابات حول مفهوم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وما ارتبط بذلك المفهوم من مصطلحات، بثلاث مراحل متمايزة نسبيا وان تداخلت فيما بينها، بدءا من مرحلة التعدد والتنوع الشديد، وانتقالا إلى مرحلة ثنائية التوجه، وانتهاء بمرحلة التبادل والتقارب. وقد اتسمت المرحلة الأولى بالعمومية في صياغة المفهوم وفي التعريف به، وارتبط بهذا التعدد في الاصطلاحات التي أطلقت على ذلك المفهوم (أو تلك المفاهيم). أما في المرحلة الثانية فقد بدأ يتبلور رأيان محددان في تناول القضية ارتبط كل منهما بمفهوم ومصطلح مختلفين، أقصد بذلك رأي من التزموا استخدام اصطلاح (أسلمة العلوم الاجتماعية). ورأي من التزموا استخدام اصطلاح (التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية) بمعنى خاص مخالف للاستخدام الشائع اليوم. أما في المرحلة الثالثة فإننا نستطيع أن نلاحظ تقاربا فعليا في الرأي ونوعا من الوحدة في التعبير عن المفهوم واستخدام الاصطلاح، على ما نوضحه بعد قليل.


المرحلة الأولى: عمومية الصياغات وتعدد المصطلحات
لقد اتسمت الكتابات الأولى حول الحاجة إلى الإصلاح المنهجي للعلوم الاجتماعية وحول ضرورة إعادة صياغتها من وجهة إسلامية، بالعمومية والتركيز على الأهداف أكثر منها على تحديد المنهج وتوصيفه. ويبدو هذا أمرا طبيعيا ومتوقعا في ضوء تركيز الاهتمام في تلك المرحلة على إبراز أهمية القضية، وعرض مسوغاتها، وبيان الخطوط العامة للحل المنشود على وجه الإجمال.
وقد ارتبط "بالاستجابة العامة" للفكرة عند الكثيرين ظهور اجتهادات فردية كثيرة التعدد فيما يتصل بالمضمون (أو المفهوم). وكما سبق أن أشرنا، فإن الكثيرين قد كانوا بالفعل يشعرون منذ وقت طويل بحاجة العلوم الاجتماعية إلى نوع من الإصلاح المبني على أساس التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والكون، مما أعطى كل مشارك بجهد في هذا السبيل شعورا طبيعيا بملكيته لفكرة الأسلمة والتأصيل التي لم تبد غريبة عن أي منهم. ولعل هذا أن يكون أقوى شهادة على أصالة الفكرة، وعلى عمق جذورها في نفوس المشتغلين بالعلوم الاجتماعية من المسلمين وعقولهم، ولكن حصل أن ترتب عن هذا من جهة أخرى أن بعض تلك الاجتهادات قد جاء بالفعل مرتبطا إلى حد كبير "بالدعوة العامة" للأسلمة، ولكن بعضها الأخر قد جاء متأثرا بخلفيات أصحابها ومشاربهم على اختلافها وتنوعها، ومرتبطا بدرجة كمال وعيهم بالقضية أو خلطها بغيرها مما قد يقترب منها أو يبتعد عنها.
ومن هنا فقد رأينا كل مشارك بجهد في هذه المرحلة يقدم لنا "تصوره" للمفهوم الذي يدافع عنه بقوة الاقتناع (الذي حرم أحيانا من سعة الإطلاع!)، بل ويحاول أن ينحت لنفسه اصطلاحا يظنه أقرب للتعبير عن هذا التصور، فوجدنا إلى جوار اصطلاح أسلمة المعرفة أو إسلامية المعرفة (الذي كان أسبقها في الوجود) اصطلاحات أخرى مثل التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وإعادة صياغة العلوم الاجتماعية من وجهة إسلامية، والتوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وبناء العلوم الاجتماعية على منهج الإسلام، وتأسيس العلوم على الأصول الإسلامية...الخ. حتى أن الكثيرين ضاقوا ذرعا بهذا التعدد في المصطلحات وفي التصورات الضمنية الكامنة وراء كل منها، ورأوا فيه توقفا عند اللفظيات والعموميات دون تحقيق أي تقدم حقيقي في فهمنا للقضية الأساسية، ودون أي تراكم للجهود العلمية التي تبذل في بحثها. وظل الأمر كذلك إلى أن بدأت الجهود التأصيلية تتجه صوب بحث المنهجية التفصيلية، حيث أسفرت المناقشات التي دارت حول تلك الجوانب الأكثر تحديدا عن شيء من التضييق لنطاق الخلاف. عن ظهور اتجاهات محددة في النظر للمفهوم، كما أسفرت عن ظهور تقارب في اختيار المصطلح كما سنرى في الصفحات الآتية.


المرحلة الثانية:رأيان في تناول القضية


بدأ يتحدد في هذه المرحلة رأيان واضحان في تناول القضية وقد استخدم أصحاب كل من الرأيين اصطلاحا بعينه ليكون علما على اتجاههم. وقد عبر عن هذين الرأيين اصطلاح الأسلمة (أو الإسلامية) واصطلاح التأصيل الإسلامي (أو التوجيه الإسلامي). والحق أنه قد يكون باستطاعتنا تفسير الاختلافات بين الفريقين في ضوء اعتبارات تاريخية أو جغرافية بعينها، ولكننا في الوقت ذاته ندرك الآن أيضا أن للقضية إبعادها النظرية والمنهجية... فمن الممكن أن لفظ الأسلمة مثلا كان اسبق في الظهور تاريخيا، وأنه قد شاع استخدامه على نطاق واسع بين المهتمين بالقضية في دول غير إسلامية كالولايات المتحدة، أو دول غير عربية مثل باكستان (التي تبنت برنامجا طموحا "لأسلمة" كل جوانب الحياة فيها)، في حين أن اصطلاح التأصيل قد ظهر في فترة لاحقة في الدول الإسلامية والعربية منها خصوصا وهكذا... ولكن لا يبدو أن هذه الاعتبارات التاريخية أو الجغرافية كافية وحدها لتفسير الخلاف الذي ظهر بين أصحاب الرأيين، وهذا يوجهنا للبحث عن الأبعاد التصورية التي يبدو أنها كانت تكمن وراءه.
من المعلوم أن هناك اتفاقا يشبه الإجماع –بين المهتمين بإصلاح العلوم الاجتماعية وبزيادة فعاليتها من خلال إعادة صياغتها في ضوء التصور الإسلامي- على أمور ثلاثة على وجه الإجمال، هي:
1. أن مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها، والمسلمات الأساسية التي تقوم عليها تلك العلوم في صورتها الراهنة، تتضمن كثيرا مما يتعارض أو يتناقض مع التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والمجتمع والوجود.
2. أنه قد ترتب على هذا القصور والاختلال المعرفي عجز تلك العلوم، أو على الأقل قصورها حتى الآن، عن التوصل إلى تفسيرات مرضية للسلوك الفردي، أو للظواهر الاجتماعية، لا في المجتمعات الإسلامية وحدها وإنما في غيرها من المجتمعات كذلك.
3. أن هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر في تلك المناهج والنظريات والمسلمات بطريقة جذرية في إطار التصور الإسلامي.
أما فيما وراء هذا الاتفاق العام فإن المناقشات في هذه المرحلة قد أسفرت عن وجود بعض الاختلافات حول نقطة البدء في الإصلاح المنهجي المنشود، حيث بدأ يظهر نوع من التمايز بين نظريتين مختلفتين أو توجهين لا يصل اختلافهما إلى مستوى تكوين مدرستين محددتين (وذلك بالنظر إلى الاتفاق العام على المسلمات الأساسية السالفة الذكر).
1. التوجه الأول: وقد فضل أصحابه استخدام اصطلاحات أسلمة العلوم الاجتماعية، أو إسلامية العلوم الاجتماعية، للدلالة على المهمة المتفق –إجمالا- عليها من الجميع، ألا وهي صبغ العلوم الاجتماعية بالصبغة الإسلامية الصحيحة. والغالب أن معظم أصحاب هذا الاتجاه هم من المتخصصين في العلوم الاجتماعية، الذين يرون أن جوهر المهمة الإصلاحية المطلوبة إنما يتمثل أصلا في تصحيح مسار هذه "العلوم الاجتماعية"، وذلك من خلال نقدها نقدا شديدا في ضوء التصور الإسلامي، واستبعاد مالا يصمد منها للنقد، واستبدال ما يصح في ضوء الكتاب والسنة به، مع استكمال ما هو صحيح منها كخطوة مبدئية لابد منها نحو تطوير مستقل أصيل لقضايا المعرفة الإنسانية من منظور إسلامي ينبع من الكتاب والسنة ويفيد من التراث الإسلامي وما صلح –وفقا للمعايير الإسلامية- من إنجازات العلوم الغربية الحديثة. ولا يرى أصحاب هذا الرأي عادة أي غضاضة في استخدام ألفاظ قوية كالأسلمة للتعبير عن هذا المعنى، إذ أن الكثيرين منهم يعيشون في مجتمعات غير عربية، أو مجتمعات غير إسلامية ذات اتجاهات عدائية نحو عقيدة التوحيد.
2. التوجه الثاني: ويفضل أصحابه استخدام اصطلاحات كالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، أو التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية ويغلب أن يكون هؤلاء أقرب إلى المتخصصين في العلوم الشرعية ممن يرون أن نقطة الانطلاق للتحقيق الإصلاح المنشود ينبغي أن تكون البدء من الكتاب والسنة، والمصادر الإسلامية المتفرعة منها، مع عدم الاعتداد بما وصل إلينا من هذه العلوم الاجتماعية الحديثة التي لا يرون فيها خيرا، بسبب ما بنيت عليه توجهاتها الأساسية من استبعاد للوحي مصدرا للمعرفة، وبسبب ما شاع فيها من معادات للدين. ويظهر هذا في تعريفهم للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بأنه "إبراز الأسس الإسلامية التي تقوم عليها هذه العلوم، من خلال جمعها أو استنباطها من مصادر الشريعة وقواعدها الكلية وضوابطها العامة، ودراسة موضوعات هذه العلوم في ضوئها، مع الاستفادة مما توصل إليه العلماء المسلمون وغيرهم مما لا يتعارض مع تلك الأسس."7 ولا يرى أصحاب هذا التوجه معنى لاستخدام اصطلاح "الأسلمة" في مجتمعات مسلمة أساسا ومطبقة لشرع الله، حتى لو كانت العلوم الاجتماعية فيها وافدة من مجتمعات علمانية تستبعد الدين من توجيه الحياة.
ولا يسع المنصف إلا التسليم بأن العلوم الاجتماعية الحديثة، وان اشتملت على الكثير مما يعترض عليه بقوة، إلا أنها في الوقت ذاته تتضمن الكثير مما يمكن أن يستفاد منه وخصوصا في الجوانب التالية:
1. ما ليس له تعلق شديد أو استناد مباشر إلى المسلمات المتصلة بوجهة النظر عن الحياة والوجود والكون، أو المسلمات المتصلة بالمعرفة ومصادرها المرفوضة إسلاميا، ومثالها ما يتصل بدراسة الآليات (أو الوظائف) النفسية كدراسة الإدراك والتذكر، أو العمليات الاجتماعية كعملية التنظيم الاجتماعي "في جوانبها الإجرائية" وغير ذلك مما تمكن فيه الاستفادة من جهود رجال العلوم الاجتماعية الحديثة مع شيء من التعديل المحدود.
2. ما يتعلق مباشرة بتلك المسلمات المعرفية وتلك المتصلة بوجهة النظر عن الوجود، ولكنه ليس تعلق تعارض أو تناقض مع المنظور الإسلامي، وإنما يتضمن فقط إهمالا أو استبعادا لبعض الجوانب التي يمكن استكمالها في ضوء بصائر التصور الإسلامي، دون أية حاجة إلى تدميرها أو إنكارها كليا. وتلك هي الحالة التي تقابلنا مثلا عندما نحاول إصلاح المنهج العلمي للبحث في العلوم الاجتماعية عن إضافة الوحي مصدرا للمعرفة، بما يستكمل ويتوج عمل الحواس (والعقل) التي أسرفت النظرات الوضعية والتجريبية (الإمبيريقية) المتطرفة وغالت في الاعتماد عليها وحدها.
ولا يمكن والحال كذلك أن نلقي وراءنا ظهريا بكل ما أسفرت عنه جهود كثير من العلماء والباحثين على مدى السنين في أطار هذه العلوم الاجتماعية الحديثة بكل ما نتج عنها من خير أو ما بها من وهن، تخوفا من أن يتسرب إلينا ما في بعض تلك النتائج من أخطاء. وهذا يرتب علينا بالضرورة مسؤولية كبرى تتمثل في الإدراك الصحيح للمسلمات التي تكمن وراء أكثر المفاهيم براءة في الظاهر، حذرا من الوقوع في إسار الفئات الفكرية الغريبة عن المنظور الإسلامي، الشائعة في إطار تلك العلوم. وهذا أمر لابد من النهوض بتبعاته بقوة وثقة بالله سبحانه وتعالى ذلك أن التخوف والتقوقع والتردد لا يمكن أن يأتي بشيء إيجابي أو ابتكاري يعين على الحياة، بل إن ذلك الموقف في الحقيقة أكبر معوق للنمو والتقدم، فالأمر يتطلب إقداما وعملا إيجابيا في ظل وعي صادق واثق يؤمَن معه التهور والزلل. فإذا أضفنا إلى ذلك إمكانية التصحيح الذاتي التي يقوم بها العلم الحديث، فإنه يتبين لنا أن أي ابتعاد عن الجادة، أو وقوع في الأخطاء، نتيجة العمل العلمي الإيجابي، يمكن -بالنقد والتمحيص الذي يقوم به الباحثون الآخرون- معالجته و تصحيحه ولو بعد حين.
المرحلة الثالثة: التبادل والتقارب: يبدو أننا قد وصلنا اليوم إلى مرحلة يوشك أن يتحقق فيها ما يشبه الإجماع على الاصطلاح والمفهوم، على وجه يتضمن شيئا من التكامل بين التوجهين السابقين أو التبادل بينهما على الصورة الآتية:
1. لقد أصبح التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية الذي كان يفضله أصحاب التوجه الثاني يحضى بقبول غالبية المهتمين بالقضية في الكتابات باللغة العربية، مع اعتبار ذلك الاصطلاح في الوقت ذاته مرادفا لاصطلاحIslamization of the Social Sciences في الكتابات الأجنبية.
2. ومع ذلك فإن هذا الاصطلاح: "التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية" قد أصبح اليوم يستخدم بدلالة "المفهوم" الذي كان يدعو إليه أصحاب التوجه الأول (أسلمة أو إسلامية العلوم الاجتماعية). وهذا يعني أن جوهر المهمة التأصيلية وفق هذا المفهوم إنما يتمثل في تصحيح مسار "العلوم الاجتماعية" القائمة أكثر من أن يكون إنشاء فروع جديدة من "العلوم الشرعية" التقليدية تكون مختصة بدراسة الظواهر الاجتماعية، وذلك في ضوء اقتناع متزايد بأن مناهج العلوم الشرعية قد كانت تركز تقليديا على الاستنباط من النصوص أكثر من تركيزها على الدراسة الواقعية الميدانية، مما يجعل استخدام تلك المناهج الأصولية التقليدية -التي أثبتت الأيام كفاءتها الكبرى في الوصول إلى الأحكام التكليفية- غير ملائم للقيام بتلك المهمات الجديدة، اللهم إلا بإعادة نظر وإضافات كثيرة.
وعلى العكس من ذلك، فإن استكمال النقص في مناهج العلوم الاجتماعية، أو تغيير بعض مكوناتها، يبدو أقرب وأيسر كثيرا من تطوير مناهج العلوم الشرعية من حيث قدرتها على الاضطلاع بهذه المهمة الجديدة، وذلك مع إدراك كامل بأن هذا لا يعني بأي حال إضفاء أي نوع من الأفضلية أو الأسبقية للعلوم الاجتماعية الحديثة في ذاتها من حيث "توجيه" نتائج العلوم الاجتماعية المؤصلة، كما أنه لا يعني استخدام نتائج الدراسة الميدانية (الإمبيريقية) للواقع الاجتماعي مصدرا معياريا للتوجيه المجتمعي، أو حكما على مسيرة الحياة الاجتماعية، فذلك أمر يتنافى أصلا مع التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود الذي هو محور الجهود التأصيلية.
هذا هو الموقف كما يبدو للمتابع لجهود التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية أو إسلامية المعرفة اليوم. ولا يعني هذا أن ما أشرنا إليه من تقارب ووحدة نسبية في المفهوم والمصطلح يمثل خاتمة المطاف للاجتهادات في هذا المجال (بالنسبة للمفهوم والمصطلح)، بل إن الأولى أن تبقى آفاقنا مفتوحة دائما لتتسع لكل اجتهاد أصيل يثري ويدعم الجهود المبذولة في هذا السبيل.


تعريف التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية


يبدو لنا مما سبق أنه من الممكن تعريف التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية على الوجه التالي، وهو تعريف نظن أنه يعبر بشكل مقبول عن الصورة الراهنة لإدراكنا لهذا المفهوم:
"التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية عبارة عن عملية إعادة بناء العلوم الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وذلك باستخدام منهج يتكامل فيه الوحي الصحيح مع الواقع المشاهد بوصفهما مصدرين للمعرفة، بحيث يستخدم ذلك التصور الإسلامي إطارا نظريا لتفسير المشاهدات الجزئية المحققة والتعميمات الواقعية (الإميبريقية)، وفي بناء النظريات في تلك العلوم بصفة عامة".
ولعل تحقيق قدر كاف من الاتفاق حول المفهوم والاصطلاح في هذه المرحلة أن يكون إيذانا بالخروج من مرحلة الحديث "عن" التأصيل أو "حول" التأصيل إلى مرحلة البحث "في التأصيل"، بمعنى التحول من تناول القضايا التي تدور حول ماهية التأصيل ومسوغاته إلى القيام ببحوث تأصيلية محددة، أي التركيز على عملية التأصيل ذاتها، وصولا إلى نتائج عملية مؤصلة، تطبيقا لمنهجية التأصيل.


المنهـج


لا شك في أن قضية التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، أو إسلامية المعرفة كما نراها ويراها كثير من المفكرين، وكما يركز عليها المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الأدبيات الصادرة عنه -في جوهرها- قضية منهج في المقام الأول، ويترتب على ذلك حقيقة أن التقدم في بقية الجوانب الأخرى للقضية كالبحوث والممارسة وإعداد الكتب الجامعية المؤصلة إنما هو رهين بتحقيق التقدم في مسألة المنهج أولا.
ولكن المتتبع لكتابات التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية لا يملك إلا أن يلاحظ ندرة الإسهامات التي تصدت بصورة مقصودة وتفصيلة لقضية المنهجية، فأدى ذلك ضرورة إلى ضعف الإسهامات في مجال البحوث التأصيلية والممارسات المؤصلة، والواقع أن هناك عددا من الأسباب والعوامل التي يمكن أن نعزو إليها ندرة الإسهامات التي قدمت في خدمة موضوع المنهجية منها ما يأتي:
1. ما سبق أن ذكرناه من إنفاق الكثير من الوقت والجهد في تناول قضية المفهوم والمصطلح وما دار حولها من خلافات في المراحل السابقة.
2. عمومية التناول في معظم الكتابات حول التأصيل في المراحل السابقة أيضا، وتركيز تلك الكتابات على ما يتصل ببيان الأهداف النبيلة للمشروع (وهذا موضوع مأمون العواقب يندر الخطأ فيه!)، مع الإشفاق في الوقت نفسه من التعرض للتفصيلات التي يتطلبها الخوض في مسائل المنهج، تحسبا من الوقوع في المخالفات لما هو متعارف عليه في العلوم الشرعية، أو الوقوع في الأخطاء فيما هو متعارف عليه في العلوم الاجتماعية الحديثة.
3. الصعوبة الحقيقية في طرق موضوع لم يتعرض له السابقون، ولم تبذل فيه محاولات جادة من اللاحقين، ألا وهو ابتكار طرق صحيحة لإيجاد "تكامل" بين منهجين قد انفصل كل منهما عن الآخر ردحا طويلا من الزمن، واختط كل منهما لنفسه طريقا مستقلا لا يكاد يرى غيره، وأعني بذلك مناهج العلوم الشرعية ومناهج العلوم الاجتماعية الحديثة.
وينبغي أن ندرك أن هذا الانفصال والاستقلال -غير المشروع عقلا وشرعا- بين هاتين المنهجيتين وبين الرجال الذين يحملون همهما ويمثلون رموزهما (منهجية العلوم الشرعية ومنهجية العلوم الاجتماعية الحديثة) قد ترتب عليه أن كل فريق من الفريقين -حتى بعد أن يصل إلى الاقتناع بضرورة التكامل بين المنهجيتين أساسا للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية- يحاول جذب المفهوم والاصطلاح (كما رأينا من قبل) في اتجاهه وصوب تخصصه، مع تفاوت بين الباحثين في درجة تشبثهم يألفون وإنكارهم لما لا يعرفون. وقد ظهر أثر ذلك بوضوح في ل المحاولات القليلة التي تناولت قضية منهجية التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية.
اتجاهان في قضية المنهج
لقد أشرنا في غير هذا الموضع 8 إلى وجود تفاوت واضح في وجهات النظر حول " مركز الثقل في المنهج" الذي يظهر في بروز اتجاهين متمايزين يبرزان مرحلة الثنائية التوجه وهما:
الاتجاه الأول: وهو اتجاه يرى أصحابه اتخاذ العلوم الشرعية نموذجا للتأصيل، حيث لا يخرج التأصيل في جوهره عندهم عن كونه "استخلاصا واستنباطا من المصدرين الأساسيين للشريعة: القرآن والسنة". ومن هنا يصبح التركيز في منهجية التأصيل وفق هذا التصور على "الاستنباط من النصوص"، ويصبح المحك الرئيسي في الحكم على صدق النتائج أو خطئها هو مدى "صحة الاستنباط من المصادر الشرعية وسلامتها"، بدون أية إشارة إلى درجة تطابق النتائج مع الواقع. ولقد عبر أحد المهتمين بقضية التأصيل من كبار المتخصصين في العلوم الشرعية عن هذا المعني بقوله: "إن المطلوب هو وضع منهج للتأصيل على غرار منهج الأصوليين والحديثيين"، ويمكن الرجوع إلى ما عرضه أحد الباحثين مما يشبه ترجمة لهذا الاتجاه في شكل خطوات إجرائية محددة إلى الورقة المشار إليها آنفا.
الاتجاه الثاني: وهو اتجاه يرى أصحابه الانطلاق من نموذج العلوم الاجتماعية الحديثة، مع القبول بإجراء "بعض" التعديلات على ذلك النموذج في ضوء ما يوجه إليه من "نقد من الداخل"، وذلك على أساس أنه لا تعارض في رأي أصحاب هذا الاتجاه بين ما تدعو إليه المنهجية العملية الحديثة والتوجه الإسلامي من حيث الاعتماد فيهما على الدراسات الواقعية التي تستهدف "الوصف" الدقيق تعرفا على آيات الله في الخلق، كما تستهدف "التفسير" كشفا عن سنن الله في مخلوقاته، وخاصة إننا نستخدم في الوصف والتفسير ما زودنا الله به من نعم وخاصة "الحواس والعقل" على حد تعبير احد أساطين ذلك الاتجاه.
ولعل من الأمور التي تستوقف الانتباه هنا أن الكثيرين من الباحثين الجادين ممن قد يرون وجها أو آخر من هذه التوجهات لا يبدون مهتمين بالتفاعل بشكل كاف مع أصحاب الرأي الآخر، أو بالتعامل الرصين مع ما يسوقه الآخرون من حجج لدعم آرائهم، سواء بتفنيدها أو قبولها، مع بقاء كل فريق قانعا بما لديه، راضيا بما ترضى عنه المؤسسة العلمية التي ينتمي إليها، أو الجمهور المحدود الذي يخاطبه، فأسهم ذلك في تعطيل مسيرة البحث المجدي لتطوير منهجية سليمة للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية على وجه يمكن أن تتكامل فيه على الحقيقة كل من مناهج العلوم الشرعية ومناهج العلوم الاجتماعية الحديثة.
وعلى أي حال فإنه يبدو أن الكثيرين قد بدأو اليوم يدركون انه لا مناص للجميع من التسليم بأن أي منهج صحيح للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية لا يمكن أن يقف على ساق واحدة أبدا، وأن علينا أن نبذل الجهود التعاونية لابتكار تلك الصورة الفريدة التي يتم فيها الجمع بين المنهجيتين على وجه يتناسب تحديدا مع طبيعة الضوابط الإنسانية والاجتماعية.
تعريف منهج التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية
ومن هنا، وفي ضوء تعريف التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية الذي أوردناه في المبحث السابق، وفي ضوء التقارب الحديث في الآراء فإنه قد يكون من الممكن تعريف "منهج" التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية على أنه:
"الطريقة المنظمة للبحث التي تستخدم في دراسة الظواهر الاجتماعية من التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود على وجه يجمع بين المناهج الأصولية المعتمدة في الاستنباط من نصوص الكتاب والسنة، ومناهج البحث الواقعية (الميدانية) المعاصرة بصورة تكاملية".
ويتضمن هذا التعريف تلك العناصر أو الأبعاد الآتية التي نوردها على وجه الإجمال:
1. تحديد أبعاد التصور الإسلامي الشامل للإنسان والمجتمع والوجود، استخلاصا من المنابع الرئيسية للمنهج الإسلامي التي تتمثل في الكتاب والسنة الصحيحة، مع الاستفادة من اجتهادات علماء المسلمين من السلف والمعاصرين، المستمدة من تلك المنابع الرئيسية والملتزمة بها؛ وتحديد ما يتضمنه هذا التصور فيما يتصل بالمجال العام الذي تشمله اليوم العلوم الاجتماعية الحديثة.
2. حصر نتائج "البحوث العلمية الموثقة" في نطاق العلوم الاجتماعية الحديثة، وحصر "نظرياتها"، وتحليلها، وإخضاعها للتمحيص والنقد في ضوء مقتضيات ذلك التصور الإسلامي سواء من حيث الموضوع أو المنهج.
3. بناء نسق علمي متكامل، يضم ما صح من نتائج العلوم الحديثة، وما صمد للتمحيص والنقد من نظرياتها، ثم يربط بينها وبين ما توصل إليه علماء المسلمين من حقائق وتعميمات برباط تفسيري مستمد من التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود.
4. استنباط فروض مستمدة من ذلك النسق العلمي المتكامل الذي تم التوصل إليه فيما سبق، وإخضاع تلك الفروض للاختبار في أارض الواقع، للتحقق من صدق الاجتهاد البشري المتضمن بالضرورة في عملية بناء أي نسق علمي نظري.


الإجراءات المنهجية للتأصيل


لعله من الممكن ترجمة هذه العناصر المجملة إلى إجراءات تفصيلية محددة يمكن إتباعها من جانب الباحث في التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، في صورة مجموعة من الخطوات العملية كما يأتي:
أولا: تحديد أبعاد التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، ليكون بمنـزلة الإطار المرجعي العام والمعيار الأساس الذي يحتكم إليه عند القيام بالخطوات اللاحقة وبصفة خاصة فيما يلي:
1. عند النقد والتقويم لمفاهيم العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها.
2. عند وضع الأطر النظرية المفسرة لأي ظاهرة أو قطاع من الظواهر الاجتماعية المترابطة.
ويتم التوصل إلى ذلك التصور المرجعي العام -بطبيعة الحال- عن طريق تطبيق المناهج المستخدمة في علوم الدين الإسلامي، وخصوصا أصول الفقه (مع تطويره ليناسب القيام بهذه المهمة الإضافية المتمثلة في استنباط الأطر التصورية العامة بدلا من الاقتصار على المهام التقليدية المتصلة باستنباط الأحكام التكليفية الجزئية).
ثانيا: حصر حقائق ونظريات العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها المتصلة بالموضوع المراد بحثه، ثم إخضاعها للتمحيص الصارم، وتقويمها لاستنقاذ ما يصمد منها للنقد في ضوء:
أ‌. تحليل الأصول التاريخية التي تطورت عنها إسهامات هذه العلوم الحديثة، وفهم العوامل التي أثرت على مسيرتها حتى وصلت إلينا على الصورة التي نجدها بين أيدينا اليوم.
ب‌. معطيات التصور الإسلامي العام للإنسان والمجتمع والوجود (المشار إليها في أولا).
ثالثا: استجلاء موقف الإسلام وعلماء المسلمين من الظاهرة أو القضية موضوع الدراسة رجوعا إلى القرآن الكريم وتفسيره، والى السنة الصحيحة وشروحها، وإلى إسهامات علماء المسلمين من القدامى والمحدثين المتصلة بالموضوع، وذلك باستخدام المناهج المعتمدة في الاستنباط من النصوص (على الوجه المبين في أولا).
رابعا: بذل الوسع لبناء نسق علمي متكامل على ما يأتي:
أ‌. ما صمد للنقد والتمحيص من نتائج العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها (التي انتهينا إليها في ثانيا).
ب‌. ما تم التوصل إليه استنباطا من المصادر الشرعية حول موضوع الدراسة (ثالثا أعلاه).
ويربط بين هذين العنصرين برباط تفسيري مستمد من التصور الإسلامي العام للإنسان والمجتمع والوجود (الموصوف في أولا)، وذلك باستخدام القواعد المنطقية والشرعية المناسبة.
خامسا: استنباط فروض علمية مستمدة من ذلك النسق المتكامل (الموصوف في رابعا)، وإخضاع تلك الفروض للاختبار في أرض الواقع (بمعناه الشامل المتضمن لما يمكن مشاهدته بالحواس، ولما تظهر آثاره في عالم الشهادة مما ليس خاضعا في ذاته للإدراك الحسي) وذلك بهدف التحقق من صحة اجتهادات الباحثين (المتضمنة بالضرورة في صياغتهم لأبعاد الأطر التصورية العامة، وفي إسقاطهم للتفسيرات على المشاهدات الجزئية الواقعية)، وذلك باستخدام مناهج البحث العلمي المطبقة في العلوم الاجتماعية الحديثة (مع تعديلها أيضا بما يناسب القيام بالمهمة الجديدة المتصلة بالتعامل مع الجوانب الروحية والعوامل الداخلية غير المحسوسة بدلا من التعامل مع المحسوسات وحدها في النموذج التقليدي).
سادسا: النظر في نتائج اختبار الفروض في أرض الواقع ومراجعتها للتوصل إلى أكبر قدر ممكن من التوافق بين الأطر التصورية والنتائج الواقعية وهذا قد يتضمن:
أ‌. المراجعة المتأنية والفاحصة للإجراءات المنهجية التي اتبعت في البحوث الواقعية للتحقق من صدقها الداخلي والخارجي، وإعادة النظر فيها لتلافي أوجه قصورها.
ب‌. إجراء التعديلات المناسبة في الأطر التصورية التي استمدت منها الفروض، لمعالجة ما يمكن أن يكون قد وقع فيه المنظرون من أخطاء في الاستنباط، خصوصا عند ضم النصوص بعضها إلى بعض، توصلا إلى الأطر التفسيرية العامة. مع ملاحظة أنه يستحيل وجود أي تناقض حقيقي بين وحي صحيح يقيني الدلالة يقيني الثبوت وبين نتائج المشاهدات الواقعية الممحصة الشبيهة باليقين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
????
زائر




التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق Empty
مُساهمةموضوع: رد: التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق   التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالأحد 18 أبريل 2010, 4:01 am




البحـوث


لقد تبين لنا من العرض السابق أنه من الممكن القول بوجود قدر معقول من الاتفاق اليوم حول ماهية منهج التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وكذا حول ترجمة هذا المنهج إلى إجراءات تفصيلية محددة على وجه يتحقق فيه التكامل بين الوحي والعقل والحواس بوصفها مصادر لمعرفتنا بالإنسان والمجتمع، ولعله أن يكون قد تبين لنا بصفة خاصة من استعراض تلك الإجراءات المنهجية أن جوهرها في نهاية المطاف يدور حول إجراء البحوث الواقعية لاختبار الأطر التصورية المستمدة من فهمنا للوحي في الواقع الكلي (الذي يشمل الظواهر الإمبريقية وغير الإمبريقية في الوقت ذاته) لضمان التأكد من مطابقة تلك الأطر التصورية للواقع.
فإذا صح ما ذهبنا إليه، فإن السؤال الذي ينبغي أن يثار هنا الآن يتعلق بالمدى الذي وصلت إليه البحوث التأصيلية من حيث التطبيق الفعلي لهذه المنهجية أو غيرها في أرض الواقع، ذلك أن كل المناقشات حول المفهوم والمصطلح أو حول الإجراءات المنهجية لا تخرج في الحقيقة عن كونها نوعا من التمهيد الضروري لقيامنا بالمهمة الأصلية، ألا وهي إجراء البحوث التأصيلية التي تسهم في بناء نظريات في العلوم الاجتماعية تنطلق من التصور الإسلامي، ولكنها في الوقت ذاته تستوعب الصحيح من الحقائق والتعميمات التي توصل إليها العلماء في فروع تلك العلوم إلى اليوم، وبما يؤدي فوق هذا كله إلى إضافة إنتاج علمي جديد مؤصل على وجه غير مسبوق.
غير أنه قد يكون من المناسب، قبل أن نتطرق للحديث عن الحالة الراهنة لمثل تلك "البحوث التأصيلية أو التطبيقية" المحددة، التعرض لقضية أسبق منها منطقيا ألا وهي التعرف على الحالة الراهنة لما يمكن أن نسميه ببحوث البنية الأساسية، أو "البحوث التأسيسية"، وذلك على أساس أن التقدم في البحوث التطبيقية إنما يتوقف أيضا على تحقيق التقدم في هذا النوع من البحوث. وستقتصر مناقشتنا في هذا البحث على الجانب التأسيسي آملين أن نفرد جانب البحوث التأصيلية التطبيقية بدراسة مستقلة.


البحوث التأسيسية


إن ما نقصده بالبحوث التأسيسية هو تلك البحوث والدراسات، التي وإن لم ينتج عنها بذاتها نتائج محددة تمثل تأصيلا "لمحتوى" أي فرع من فروع العلوم الاجتماعية، أو تأصيلا "لمادة" أي مبحث من مباحث تلك الفروع، إلا أنها تعد في الوقت ذاته بمنـزلة الشرط الضروري أو الأساس الذي لا غنى عنه لأي إسهام تأصيلي ذي بال، وسنتحدث تحت هذا العنوان عن ثلاثة أنواع من هذه البحوث التأسيسية:
1. بحوث تتعلق ببلورة التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود.
2. بحوث تتصل بتكشيف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإسهامات التراثية التي تتصل بأي فرع بعينه من فروع العلوم الاجتماعية.
3. بحوث تتصل بإصلاح منهجية العلوم الشرعية ومنهجية العلوم الاجتماعية لتكون في خدمة المنهجية التأصيلية.
أولا: البحوث حول التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود
لما كانت بلورة "التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود" تعد الأساس الذي يقوم عليه بناء التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، باعتبار أن ذلك التصور هو بمنـزلة النظرية العامة للعلوم الاجتماعية، أو بمنـزلة الإطار المرجعي لتلك العلوم، والذي يكون بهذه المنـزلة هو المعيار الذي يحتكم إليه في تقويم نتائج العلوم الاجتماعية الحديثة، فإن البحوث المتصلة ببلورة هذا التصور، واستجلاء أبعاده، وصياغته في شكل نسق استنباطي يمكن استعماله مباشرة لأداء تلك الوظائف، يصبح من المهمات التي لا يمكن تحقيق أي تقدم ذي بال في عملية التأصيل دون تحقيق تقدم كاف فيها. وأقصد بالنسق الاستنباطي هنا صياغة هذا التصور في شكل مجموعة من القضايا المترابطة منطقيا، بحيث يمكن استنباط القضايا الدنيا من العليا في مستوى التجريد، وبحيث يمكن أن تستنبط منها بشكل منطقي فروض جديدة مبنية عليها ومشتقة منها، بما يمكننا من الحكم على صدق أي مكون من مكونات النسق الاستنباطي باختبار تلك الفروض في أرض الواقع. وبالتالي اختبار صدق النسق الاستنباطي كله وتعديله باستمرار في ضوء هذا الاختبار الواقعي، ومعنى ذلك أن تكون صياغة القضايا التي يتضمنها النسق الاستنباطي، والمفاهيم التي يتضمنها، وتعريفات تلك المفاهيم، أن تكون جميعا واضحة ومحددة. وهذا أمر يختلف كل الاختلاف عن مجرد الكتابات الأدبية أو الدعوية أو البلاغية المعتادة في تناول قضايا التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود (والتي تخدم أهدافا أخرى مرغوبة تماما، إلا أنه لا ينبغي الخلط بينها وبين أهداف البحث العلمي المحددة).
والذي يظهر لنا أن هذا النوع من البحوث التأسيسية لم يلق حتى الآن ما يستحقه من اهتمام على الرغم من أهميته المحورية وبوصفه أساسا لجهود التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية جميعها. فالإسهامات في هذا السبيل لا تخرج في ما يبدو عن بعض المحاولات الجزئية المتناثرة، التي تجيء في بعض الأحيان مقدمات لمحاولات أخرى لتأصيل المحتوى لبعض مباحث العلوم الاجتماعية أو فروعها، فتأتي في هذا السياق وكأنها لم تكن مقصودة. أما أن يقصد الباحثون قصدا لخدمة هذه القضية المحورية التي تخدم جميع فروع العلوم الاجتماعية فتلك مهمة لا تزال تنتظر من يقوم بها. ويبدو أن الحرص على الوقوف عند حدود التخصص يحد كثيرا من انطلاق كثير من الباحثين الذين يخشون الاتهام "بالخروج عن التخصص" في هذا المجال، في حين أن التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود يتطلب بطبيعته جهدا متعدد الأبعاد والتخصصات، أما عن غموض الصياغات وعدم الاهتمام بصبها في قالب القضايا المحددة والمترابطة منطقيا والتي يمكن إدخالها في أنساق إسنباطية منتجة فحدث عنه ولا حرج.
ثانيا: تكشيف آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية والإسهامات التراثية
لقد وجهت جهود كبيرة -حسنة المقصد- نحو تكشيف آيات القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية أو إسهامات علماء المسلمين، التي تتصل ببعض فروع العلوم الاجتماعية. وكان الهدف من عملية التكشيف تلك تيسير المصادر الإسلامية لتكون أمام أنظار الباحثين في قضايا التأصيل الإسلامي، خاصة من المتخصصين في العلوم الاجتماعية، ممن ليست لهم ألفة كبيرة سابقة بتلك المصادر. وبطبيعة الحال لم يكن يتوقع أحد أن تسفر هذه الجهود عن نتائج سريعة، لأن الجميع كانوا يدركون -ولا شك- عظم حجم ما يتطلبه إنجاز تلك الأعمال من إمكانيات مادية وبشرية ومن مراحل زمنية تقصر أو تطول في حدود تلك الامكانات.
ولكن النتائج التي تم التوصل إليها لم تجئ على الوجه الذي كان يأمله الكثيرون، مما أدى إلى نوع من الشعور بالإحباط لدى القائمين بالإشراف على تلك الأعمال، وتبع ذلك اتجاه لإعادة النظر في السياسة المتبعة إلى الآن نحوها. ولعل الحماس الأصلي لإنجاز أعمال تفيد أكبر قطاعات ممكنة من الباحثين المتخصصين في فروع العلوم الاجتماعية المختلفة، إضافة إلى توفر الخبرات الممتازة في فنون المكتبات والمعلومات التي قد لا ترى في التكشيف إلا عملية فنية هينة في رأيهم، قد غطى على حقيقة مؤداها أن عملية تكشيف آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية وإسهامات المسلمين قد لا يكون لها الأولوية المطلقة التي تبدو للناظر للوهلة الأولى. بل إن الباحث المتريث قد يتبين له أن عملية التكشيف لا يمكن أن تجيء من الناحية المنهجية عملا قبليا للتأصيل، ولكنها لا تكون إلا تسجيلا بعديا لما يتم التوصل إليه من نتائج في الربط بين المفاهيم القرآنية والحديثية والتراثية من جانب ومفاهيم العلوم الاجتماعية الحديثة من جانب آخر، وليس العكس.
فعملية التكشيف إذا أجريت في خدمة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية فإنها تكون ذات طبيعة خاصة تختلف عن عملية التكشيف المعتادة في غير ذلك السياق. فالتكشيف في حالتنا يتم في سياق مهمة إيجاد التكامل بين نوعين من المعارف طال بينهما التباعد والتدابر قرونا طويلة، حتى أصبح القدر المشترك بينهما ضئيلا، وهذا يجعل الجوانب الفنية والآلية للتكشيف أمرا هامشيا مقارنة بالممهمات الفكرية والتصورية التي لابد أن تسبق تلك الجوانب الفنية. وسنشير لاحقا إلى اثنين من هذه المهمات الفكرية التصورية التي يقوم عليها التكشيف في سياق جهود التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية:
أ. الاتفاق على المصطلحات: لا يمكن أن يبدأ التكشيف بشكل فعال دون وجود قدر كاف من الاتفاق بين المتخصصين على ما يشبه الحصر الشامل لمصطلحات الفرع الذي يراد تكشيف موضوعاته أو مفاهيمه، والتي يراد بيان مواقع ورودها في النصوص، وهذا يثير بادئ ذي بدء قضية أي مصطلحات نعتمد:
1. المصطلحات أو المفاهيم المشتقة من الأطر التصورية للعلوم الاجتماعية الحديثة.
2. المصطلحات أو المفاهيم المشتقة مباشرة من الكتاب والسنة وكتابات علماء المسلمين.
3. الجمع بين المصدرين السابقين.
وعلى الرغم من البراءة البادية لهذا الحل الأخير وعلى الرغم كذلك من جاذبيته، إلا انه يثير قضية كبرى، ألا وهي كيفية الجمع بيت تلك المصادر، وهل المقصود بذلك مجرد وضع المصطلحات المستمدة من المصدرين في تجاوز مكاني أم أن المقصود تحقيق التكامل بينهما في نسق واحد. وهذا الاختيار الأخير -مرة أخرى- محمَّل بالمعاني، يسهل قوله ويصعب فعله، وأقصد بذلك أن هذا الاختيار (التكامل بين المصدرين وضمهما في نسق موحد) إنما يتطلب أمرا لا يقل بحال عن عملية تأصيل تامة لهذا الفرع أو ذاك من فروع العلوم الاجتماعية بالفعل! وتلك صورة من أقسى صور المصادرة على المطلوب! ومن هنا فقد كان ممكنا أن يحدث ماحدث، وأن ننتهي إلى الصورة التي تواجهنا الآن، حيث نجد أن القائمين بعمليات التكشيف أو إعداد فهارس المصطلحات قد اضطروا للعمل في حدود ما تسمح به معرفتهم (أو معرفتنا جميعا) الحالية، لا وفق ما يتطلبه القيام بمثل ذلك العمل من تكامل معرفي، فجاءت النتيجة على غير ما يشتهي الجميع.
ب. تنـزيل النصوص على المصطلحات: وحتى لو سلمنا جدلا بأننا قد اسطتعنا التوصل إلى قائمة متفق عليها من المصطلحات، تستغرق الفرع المراد تكشيف موضوعاته (بالرغم مما رأيناه من الصعوبات الكبرى التي تواجه تحقيق هذا الأمر)، فإن المهمة الكبرى التي تلي ذلك هي النظر في النصوص، وفهمها على وعي وبصيرة، لتنـزيلها على المصطلحات الفنية أو العلمية المختارة، على وجه يتناسب مع مراد الشارع منها دون تعسف أو التواء، وتلك مهمة نحتاج التدليل على دقتها وصعوبتها المتناهية نظرا لما تحتاجه من أمور لابد من توافرها جميعا، إذ لا بد من توافر:
1. علم كاف بالقرآن، والسنة، ومصطلح علماء المسلمين، مع قدرة فكرية على تجاوز الفجوة التي حدث خلال المدة الزمنية المنقضية منذ توقف عطاء المسلمين، وقدرة على النظر إلى التفاسير والشروح بنظرة مؤلفيها الأصليين لو أنهم كانوا يعيشون بين ظهرانينا اليوم.
2. علم كاف بالعلوم الاجتماعية الحديثة وبالفرع المقصود تكشيف النصوص في خصوصه، مع قدرة على التحرر من التجاوزات التي تلبست بتلك العلوم في مراحل تطورها المختلفة، حتى وصلتنا اليوم بصورتها الحاضرة (في غياب كامل لعطاء المسلمين في فترة التوقف المشار إليها).
ولا يخفى على أحد أن توافر هذين الأمرين بشروطهما المذكورة في فرد واحد يعتبر من أندر النادر بسبب طبيعة النظم التعليمية التي تنوء بعبئها الأمة إلى اليوم، هذه النظم القائمة على التمييز بين نوعين من التعليم: ما يسمى بالتعليم الديني، وما يسمى بالتعليم العام أو العلماني. ولقد أدى هذا إلى القناعة بإنصاف الحلول أو أرباعها أو ما هو أقل من ذلك، على أساس أن ما لا يدرك كله لا يترك جلٌّه، كما أن محاولات جمع أصحاب الخبرة الجزئية في شكل لجان أو فرق عمل تضم ممثلين لكل من الفريقين، لعدم وجود أية أرضية مشتركة في الغالب بينهما.
وكانت النتيجة أن جاءت بعض محاولات التكشيف تضم اجتهادات بغير اجتهاد! تضم أخطاء فادحة في الربط بين النصوص والمصطلحات الحديثة بأوهى الروابط التي يعسر تصورها، فتجد بعضهم وكأنه يرى أن كل شيء في الوجود مرتبط بكل شيء آخر فيه، وأنك بإمعانك النظر تستطيع ربط كل شيء بكل شيء آخر تقريبا! وهكذا ينتهي بالمطلع على مثل تلك المحاولات إلى رفضها جملة وتفصيلا، لأن الأعمال المرجعية بطبيعتها تفترض تسليما مسبقا بدقة إمدادها حتى تقبل دون مراجعة أو تمحيص أو إعادة تدقيق من القارئ، وإلا فقدت مصداقيتها كلها إذا ثبت ورود القليل من الأخطاء فيها. ولقد وصل الأمر ببعض ذوي الغيرة على قضية التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية إلى الدعوة للتوقف تماما عن محاولات التكشيف مستندا إلى الآية الكريمة التي تشير إلى أولئك ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ (الحجر:91). فأصحاب رد الفعل هذا يرون أن التكشيف ليس إلا تقطيعا للقرآن الكريم، وبترا لآياته من سياقها بدون إدراك جامع للمرامي الكلية للقرآن، ومن هنا جاءت استعارة صاحب ذلك الرأي للفظة "عضين" أي أعضاء من القرآن الكريم. وصاحب هذا الرأي* خالف في تفسيره (جعلوا القرآن عضين) ما قاله ابن كثير من أن المقصود هو أنهم فرقوه وجعلوه أعضاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعض.
ومع ذلك فإنه من الممكن القول بأنه لم يكن من المحتمل أن نصل إلى استبصار بالموقف على الصورة التي وصلنا إليها الآن دون أن نخوض لجة التكشيف بهذه الصورة القاصرة، لكي نسبر أغواره، ولنتعرف على مواطن القصور فنتجنبها. ولعله لازال بإمكاننا أن نستفيد من تلك التجربة على الرغم من كل هذه الصعوبات من خلال إعادة النظر في تلك المحاولات السابقة بشكل جذري على الأسس التالية:
1. التخلي عن محاولة الاستقصاء الكامل لكل النصوص المتعلقة بكل المصطلحات الفنية في هذه المرحلة، والقناعة بمحاولات جزئية محدودة تتوقف عند حدود علمنا في الوقت الحاضر دون زعم الاستغراق لكل المصطلحات في أي فرع.
2. التزام النـزاهة العلمية التي تقضي باستبقاء المصطلحات والإحالات التي يثبت من عرضها على جمهرة المتخصصين أن لها بالفعل ما تستند إليه من فهم النصوص وفقهها، ومن علم بالمصطلحات والمفاهيم التي تشير إليها في بيئتها العلمية الطبيعية بشكل طبيعي ودون تعسف.
ثالثا: البحوث في محيط الإصلاح المنهجي
لقد تبين لنا مما سبق أن المنهج الصحيح للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية يتطلب الجمع بطريقة تكاملية بين المناهج الأصولية للاستنباط من النصوص (وهي المناهج المستخدمة في العلوم الشرعية عادة) ومناهج البحوث والدراسات الواقعية (الميدانية) المستخدمة في العلوم الاجتماعية الحديثة، ولكننا قد أشرنا أيضا إشارة عابرة في سياق العرض إلى أن كلا من النوعين من المناهج لا يمكن استثماره لخدمة قضية التأصيل إذا ظل على الصورة الحالية نفسها، وذلك حتى يستطيع المركب منها -بعد التجديد والتطوير- القيام بالمهمة المرجوة جمعا بين الوحي والوجود في إطار منهجي متكامل على النحو المطلوب.
ولقد بذلت في السنوات الأخيرة بعض الجهود التي حاولت التعامل مع هذه القضية الدقيقة ومواجهتها بشكل فعال، وفيما يلي نشير إلى الاتجاهات العامة لتلك الجهود:
1. الكتابات المتصلة بإصلاح مناهج العلوم الشرعية
لقد أوضح طه جابر العلواني -وهو من المتخصصين في العلوم الشرعية- أن منهج أصول الفقه قد تأسس في الأصل لمعالجة القضايا الفقهية، وهي قضايا تختلف بطبيعتها عن الظاهرة الاجتماعية، خصوصا من النواحي التالية:
أ‌. أن القضايا الفقهية تتسم بالجزئية في الغالب؛ أما الظواهر الاجتماعية أو الإنسانية فإنها تتسم بالتعميم.
ب‌. أن القضايا الفقهية يطلب فيها تبين الحكم الشرعي التكليفي، في حين أن الظاهرة الاجتماعية يطلب فيها تبين القوانين والسنن والعلاقات.
ويبين العلواني أنه لهذه الأسباب فإن هناك حاجة لتطوير المناهج الأصولية لتصلح للاستخدام في دراسة الظواهر الاجتماعية، ثم يضيف إلى ذلك قوله: "... لا أتوقع أن أصول الفقه في وضعه الذي أعرفه قادر على أن يستجيب لهذه الحاجة"9 يقصد بذلك استخدام المناهج الأصولية في دراسة الظواهر الاجتماعية.
ويشير جمال الدين عطية إلى هذا المعنى بوضوح في قوله: "... علم أصول الفقه قد وضع أصلا لضبط التكاليف (افعل ولا تفعل) واستنباط الأحكام المتعلقة بهذه التكاليف من النصوص. وبالتالي هو لم يوضع أصلا لتفسير الظواهر الاجتماعية وبيان العلاقات السببية بينها أو التوصل إلى القوانين التي تحكمها! ومن الظلم أن نحمله ما لا يحتمل."، ويعطي بعد ذلك مثالا لبعض ما أهمل تقليديا على الرغم من أهميته الكبرى، فيقول: إن علم المقاصد الشرعية قد أهمل كثيرا في الماضي، مع أن تطبيقه في العلوم الاجتماعية يمكن أن يضبط لنا فلسفة هذه العلوم ومقاصدها10.
ويحدد العلواني جوانب ثلاثة يرى أنها تستحق إعادة النظر فيما يتعلق بالمناهج الأصولية لتكون لها فاعليتها في بناء مناهج العلوم الاجتماعية في العصر الحديث:
أ‌. إعادة النظر في تعريف الأصوليين للإجماع، الذي يعرفونه تقليديا بأنه "اتفاق جميع مجتهدي أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) في عصر من العصور على أمر من الأمور). وهذا أمر يرى استحالة تحقيقه، وينقل –تصديقا لمقولته- ما نسب إلى الإمام أحمد بن حنبل أنه قال "من ادعى الإجماع فهو كاذب".
ب‌. إعادة الاعتبار للعقل المتشرع في فهم النصوص بدلا من التوقف المبالغ فيه عند حدود الفهم اللغوي أو عند أراء السابقين11، وقد يفيد في توضيح معنى العقل المقصود هنا ذكر التفرقة التي أوردها جمال الدين عطية في بيانه أن المطلوب "إعمال العقل منهجا" وليس مصدرا للأحكام.12
ﺟ. إعادة النظر في شروط الاجتهاد التي يبدو من المستحيل معها "أن تجد مجتهدا"13 في حين أن الأئمة الكبار لم يشترطوا هذه الشروط المعجزة عندما قرروا قواعد الاجتهاد.
أما عبد الحميد أبو سليمان فإنه يشير -في الاتجاه نفسه- إلى الحاجة إلى منهج أصولي يستجيب بجرأة وفاعلية لحاجات الواقع المتغير، سائر في حدود التوجيه الإلهي ومنضبط به، حتى لا نترك مجالا لمساحات خالية من حياة المجتمعات المسلمة تغيب عنها شمس المنهجية الإسلامية الحية14.
ومن جهة أخرى حاول علي جمعة في بحث عنوانه "قضية تجديد أصول الفقه" القيام بحصر جميع المحاولات التي تناولت هذا الموضوع في صورها المختلفة السوي منها والشاذ، ثم وصف في ضوء ذلك ما يرى أنه بمنـزلة خطة لتجديد أصول الفقه نجتزئ منها ما يتصل بموضوعنا في الجوانب التالية:
1. إدخال علوم المقاصد، والقواعد والفروق، والتخريج، في علم أصول الفقه لإضفاء جانب التطبيق عليه.
2. جعل المقاصد الشرعية مظلة للإفتاء يرجع إليها، لتكون ضابطة وحاكمة ومعدلة لعملية الإفتاء بوصفها جزء من آليات التخريج والإلحاق وشروطه.
3. تحويل الإجماع والاجتهاد إلى مؤسسات.
وقد اهتم الكاتب المذكور في إطار مناقشته بأن يضع في اعتباره مسألتين لكل منهما دلالتها بالنسبة لموضوعنا، وهما كما ذكر في نهاية بحثه:
1. استخدام منهج أصول الفقه في العلوم الاجتماعية.
2. استخدام مناهج العلوم الاجتماعية في أصول الفقه15.
تلك بصفة عامة هي الخطوط التي سارت عليها المناقشات المتعلقة بإصلاح مناهج العلوم الشرعية -وخصوصا أصول الفقه- لكي تكون قادرة على القيام بعملها الحيوي بوصفها مكونا أساسيا من مكونات منهج التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية. ويلاحظ أننا لا زلنا في مرحلة التعرف على الخطوط العامة للإصلاح، أو مجرد الدعوة إليها، ولما نبدأ بعد في جهود محددة لإحداث التغيرات المطلوبة، انتظارا -فيما يبدو- لتحقيق قدر كاف من الاتفاق بين المتخصصين في العلوم الشرعية من ذوي الإدراك الكافي للهموم المعاصرة للأمة.
والصعوبة الكبرى التي تواجه البحوث في هذا الاتجاه تكمن في تهيب الكثيرين من الباحثين الجادين من مخالفة ما انتهى إليه علماء الإسلام المتقدمون، أو من تجاوزه، في ضوء اختلاف ظروف الزمان والمكان. وتلك أمور لم يتهيبها المتقدمون أنفسهم، ولم تقف عائقا أمامهم عن ابتكار الحلول للمواقف المتجددة التي واجهتهم، في ضوء الالتزام الكامل بما شرعه الله لعباده. ولما كان المعوَّل في الأمور كلها على أن الأعمال بالنِّيات، ولما كان علم الله عز وجل لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض، وانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإنه ينتج عن ذلك أن كل من عرف نفسه تجردا وصدق نية (دون توهم كاذب أو تزيين شيطان)، ثم أحجم عن الشهادة، وعن بيان ما يظنه حقا، فإنه يكون من المقصرين على أقل تقدير. وأما من عرف من نفسه غير ذلك، ثم أقدم بنشر باطله، فإنه يعلم أيضا مصير المفترين على الله ورسوله. ومن هنا فالذي يبدو لي أنه لا مجال للتحرج والتهيب في طرح الأمور التي يبدو أنها تخالف مألوفا لمجرد الخوف من الناس، فالله تعالى أحق أن نخشاه إن كنا من المؤمنين الصادقين، وإيثار السلامة ليس من خلق المسلمين، ولن يغنينا فتيلا عندما نقف أمام رب العالمين، كما أن التفكير الموغل في الاعتذارية والتردد والتحرج يوشك أن يغلق أبواب النماء والقوة أمام الأمة، بل يوشك –والعياذ بالله- أن يخنقها خنقا ويتركها فريسة للأمم تتداعى عليها.
ولعله من المناسب في إطار هذا التوجه العام أن نشير إلى طرح عرضه مؤخرا طه جابر العلواني في كتيب بعنوان إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم. فقد ذكر في سياق حديثه عما اعتبره من المحاور الأساسية لإسلامية المعرفة ما يلي:
أ. بناء منهج التعامل مع القرآن العظيم: يرى العلواني أن تعاملنا مع القرآن يحتاج إلى وقفة إذا أردنا أن يكون الكتاب الكريم موجها وهاديا لعملية أسلمة المعرفة، ويرى أن الأمر قد يقتضي إعادة بناء علوم القرآن المطلوبة وتركيبها لهذا الغرض [أي إسلامية المعرفة] وتجاوز الكثير من الموروث في هذا المجال من العلوم التي أدت وظيفتها في خدمة النص القرآني. [حيث] كانت العقلية البلاغية اللغوية وما توحي به من اتجاه نحو تجزئة النص وملاحظة معاني المفردات هي العقلية السائدة [في الماضي].أما في المرحلة الراهنة فإن العقلية السائدة هي عقلية الإدراك المنهجي للأمور، والبحث عن [العلاقات] بطرق تحليلية ونقدية، توظف الأطر العلمية المختلفة، وتربطها بموضوعات حضارية متشعبة..."16
ب. بناء مناهج التعامل مع السنة النبوية المطهرة: يرى الكاتب أن السنة تكشف لنا عن خصائص الواقع الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل معه ويتحرك فيه. وهو واقع مغاير للواقع الذي نحياه في تركيبته وعقليته ويدفعنا ذلك إلى استنباط منهج فقه التنـزيل على الواقع، من خلال تطبيقات النبي المعصوم –صلى الله عليه وسلم- لا من خلال النـزوع إلى التقليد والمحاكاة في الجزئيات والتفاصيل كما يضن الكثيرون، فمنهج التأسي والاتباع غير منهج التقليد."17
وكأن العلواني يدعو إلى ما لا يقل عن عملية مراجعة وإعادة نظر شاملتين في مناهجنا المتبعة في التعامل مع الكتاب والسنة، على وجه يعتقد أنه يعيد للفكر الإسلامي حيويته وقوته دون أي تنازل عن أسسه ودعاماته. وتلك لعمري دعوة بعيدة الأثر، ينبغي أن تأخذ ما تستحقه من الدراسة المتأنية والمناقشة الجادة حتى تتضح أبعادها ونتائجها من كل الوجوه. ذلك أن العرض الذي قدمه المؤلف في ذلك الكتيب لتلك النقاط قد جاء مقتضبا -في حدود السياق الذي جاء فيه- كما أن الأمثلة التي أعطيت لا تبدو كافية بالنظر إلى جدية الموضوع واتساع نطاق تطبيقاته.
3. البحوث المتعلقة بإصلاح مناهج العلوم الاجتماعية
لقد بينا فيما سبق أن منهجية التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية تقوم في جوهرها على إيجاد نوع من التكامل بين المناهج الأصولية للاستنباط من النصوص، ومناهج البحوث الواقعية الميدانية للعلوم. واشرنا أيضا إلى أن كلا من هذين النوعين من المناهج يحتاج أولا إلى قدر من التطوير والإصلاح ليكون مؤهلا للقيام بوظيفته بصورة سليمة في تلك المنهجية المتكاملة، منهجية التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية. ولقد انتهينا في الفقرات السابقة من استعراض بعض أهم البحوث التي تعرضت لقضية التطوير لمناهج العلوم الشرعية، ويبقى أن ننتقل الآن للحديث عن قضية تطوير مناهج العلوم الاجتماعية وما يتصل بها من بحوث.
لقد أصبح من المتفق عليه اليوم أن أهم أوجه النقد التي صوبت إلى التوجهات التجريبية (الإمبريقية) الوضعية التي سادت العلوم الاجتماعية حتى الآن تتمثل في أمرين أساسين وما يتفرع عنهما:
الأمر الأول: الاقتصار على دراسة الظواهر المحسوسة، واستبعاد كل ما لا يمكن مشاهدته بالحواس من مجال الدراسة العلمية المشروعة.
الأمر الثاني: اعتماد الحواس وحدها مصدرا للمعرفة العلمية الصحيحة. ولقد ترتب على هذا الانحياز المادي الحسي لمناهج العلوم الاجتماعية التقليدية نتيجتان:
1. استبعاد الجوانب الروحية (بل والعقلية عند بعض المدارس) للإنسان موضوعا للدراسة العلمية.
2. استبعاد الوحي الصحيح مصدرا للمعرفة العلمية.
لقد سبق أن بينا في غير هذا الموضع18 أن هذه النظرة الاختزالية تكمن وراء ما هو مشاهد من اضطراب في فهم الإنسان والمجتمع في نطاق المنظور التقليدي لدراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية، كما اشرنا إلى أن الخروج من هذه الدائرة الاختزالية المعيبة يتطلب الاعتراف بالعوامل العقلية والروحية موضوعات للدراسة العلمية الجادة، كما يتطلب الرجوع إلى الوحي مصدرا لفهم تلك العوامل التي تنتمي في جوهرها الفعال إلى عالم الغيب.
ولما كانت العلوم الاجتماعية التقليدية قد تقدمت تقدما كبيرا فيما يتعلق ببلورة المناهج البحثية القادرة على توجيه البحوث الواقعية، التي تنصب الدراسة فيها على الظواهر المحسوسة كالمنهج التجريبي والتصميمات شبه التجريبية والدراسات البعدية، ونحوها، كما أنها تقدمت تقدما كبيرا في بلورة أدوات البحث الموجهة نحو الملاحظة الخارجية للظواهر المحسوسة، فإن هذه المناهج وتلك الأدوات البحثية لا تكفي وحدها ولا شك، عند ما يراد -في ضوء منهج التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية- دراسة الواقع الكلي (Total Reality) المتضمن للظواهر المحسوسة وغير المحسوسة (إذا صحت تسمية الأخيرة بالظواهر أصلا).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
????
زائر




التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق Empty
مُساهمةموضوع: رد: التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق   التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق I_icon_minitimeالأحد 18 أبريل 2010, 4:03 am

والواقع أن تقدم بحوث التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية مرتهن بالتقدم الذي يتم على جبهة ابتكار المنهجيات و الأدوات البحثية القادرة على سبر أغوار الحقيقة الواقعية في كليتها، أي الجوانب المحسوسة منها وغير المحسوسة، المادية منها وغير المادية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. والحق أنه لم تكد تبذل إلى الآن أي جهود جادة في هذا السبيل، ولعل هذه الفجوة بذاتها يمكن أن تفسر لنا السبب الرئيسي لعدم إحراز تقدم كبير في البحوث التأصيلية كما نأمل أن نوضح ذلك في دراسة أخرى. بل لعلها تفسر لنا الشعور الذي يتبادر إلى أذهان بعضهم من أن جهود التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية لم تتحقق النتائج المأمولة منها في المرحلة الماضية.
ولقد يخطر ببال بعض الناس أن مهمة ابتكار مناهج وأدوات بحثية جديدة قادرة على استكشاف الجوانب غير المحسوسة من هذا الوجود، أو تلك التي تتصل بعالم الغيب، مهمة غاية في الصعوبة لأنه لم يسبقنا إليها أحد، وأن هذا قد يفسر تقاعسنا إلى الآن عن التعامل مع هذه القضية. ولكن الواقع غير ذلك، فقد يندهش الكثيرون عندما يرون أن هناك بالفعل جهودا جيدة قد بذلت في هذا السبيل عند غيرنا، وأقصد بذلك عند الباحثين من أصحاب التوجهات النقدية للمنظور التقليدي للعلوم الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، فلقد أبلى هؤلاء بلاء حسنا في نقد الطرق والأدوات البحثية الحالية، ثم في ابتكار طرق وأدوات جديدة جديرة بأن ننظر فيها بجدية، سواء استفدنا منها مباشرة أو بطرق غير مباشرة.
ويمكننا التمييز في تلك الجهود النقدية الإنشائية بين اتجاهين: أحدهما رافض متشدد للتوجهات الوضعية التجريبية (الإمبريقية) دون مساومة، ويمثله "أصحاب التوجه الجديد في البحث"New Paradigm Research. والثاني معتدل يقبل كلا من المناهج والطرق الكمية والكيفية معا، ويطلق عليه أصحابه اتجاه التوجه المنهجي Methodological Diversity. وفيما يأتي نبذة تبين موقف أصحاب كل من التوجهين (أنظر: إبراهيم رجب، 1994):
1. التوجه الجديد في البحث New Paradigm Research:
ينادي أصحاب هذا الاتجاه باستعادة المناهج أو الطرق الكمية في البحث Quantitative Methods بالكلية وإحلال الطرق الكيفية في البحث Qualitative Methods محلها، ويشنون هجوما شديدا على من يستخدمون الطرق الكمية، ويحبذون استخدام المداخل الظاهراتية Phenomenological Approaches والمداخل التفسيرية Hermeneutical Approachesالتي يرون أنها تقربنا إلى الوصول إلى الحقيقة في فهم الإنسان من خلال النفاذ إلى "المعاني" التي يضيفها المبحوثون على سلوكهم، وعلى الواقع الذي يعايشونه ويدركونه. ولقد جمع بيتر ريزون وجوان روان19 عددا كبيرا من الإسهامات التي تصف أو تقدم نماذج تطبيقية للطرق والأدوات البحثية المنطلقة من هذا التوجه، مثل طريقة البحث بالمشاركة Endogenous Research والمنهجية الباطنيةParticipative Research والمنهجيات الخبراتيةExperiential Methodologies والمنهجية الحوارية Dialogical Research إلى غير ذلك من الطرق والأدوات التي تحاول النفاذ إلى الحياة الداخلية الذاتية للإنسان توصلا إلى تعميمات موضوعية، واتخاذ ذلك بديلا لطرق الملاحظة الخارجية التي (رغم غلو الوضعيين) تعجز عن الوصول إليها أصلا.
2. اتجاه التنوع المنهجيMethodological Diversity:
وهو اتجاه لا يقوم على استبعاد المناهج والطرق الكمية، ولكن على استكمالها بالطرق الكيفية، حتى يمكن تغطية كل جوانب الحقيقة الواقعية، كما يقرر ذلك بولكنجهوزن20، ويرى لأصحاب هذا التوجه أن هدفنا هو الوصول إلى الموضوعية، وبوسعنا -كما يقول جرجن21- أن نستخدم أية منهجية كانت، طالما أنها تمكن الباحث من الوصول إلى الحقيقة، سواء جاءت قوة تلك المنهجية من البحوث التي تستخدم عينات كبيرة [كما هو الحال في المنهجيات التقليدية]، أو جاءت قوتها من حساسيتها للفروق الدقيقة، أو قدرتها على النفاذ إلى العمق [كما هو الحال في المنهجيات الجديدة]، ويلخص فورد 22رأي أصحاب تلك التوجهات الحديثة، فيقرر بأنهم يركزون على المتغيرات التي تتعلق "بالخبرات الخاصة للأشخاص الذين تجري عليهم الدراسة، والتي لا يمكن أن يلاحظها إلا هم أنفسهم، ولما كان المبحوثون بشرا "قادرين على توجيه سلوكهم بأنفسهم فإنهم يقررون ماذا يفشون ، وماذا يخفون، وماذا يحرفون، في تعبيرهم عن تلك الخبرات، ولذلك فإن إجراءات جمع البيانات ينبغي أن تصمم وتنفذ تعاونيا collaborative بين الباحث والمبحوث، إذا أردنا الحصول على بيانات صادقة"، وينتهي إلى التأكيد أنه لابد لنا من ابتكار طرق بحثية جديدة تلائم طبيعة الظواهر الإنسانية التي ندرسها.
ومن هذا يتبين لنا بوضوح أننا لسنا وحدنا الذين نرى أن المناهج التجريبية والأدوات التي تركز على الملاحظة ليست كافية وحدها في دراسة الإنسان بكل جوانبه المادية والروحية، وأن هناك بدايات يمكن الاستفادة منها لمناهج وأدوات تحاول النفاذ إلى حقيقة الحياة الداخلية، وخصوصا الجوانب الروحية للإنسان، بما يمكن أن يخدم أهداف التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية على الوجه الذي نأمله، ولكن هذا يتطلب أيضا بذل جهود مكثفة ومنظمة لاختبار هذه المنهجيات والأدوات وتطويرها في الاتجاهات التي تتمشى مع الثورة العلمية التي يراد تحقيقها من خلال الجهود التأصيلية.


--------------------------------------------------------------------------------

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: معالم على الطريق
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
Esraa Hussein Forum :: العلوم الإجتماعية :: علم الإجتماع :: منتدى علم الاجتماع والانثربولوجي-
انتقل الى: