مراحل تهويد القدس
إن تهويد القدس ليس وليد القرن العشرين كما يظن البعض، وليس أيضا من بنات أفكار اليهود وحدهم، وإنما هو مخطط قديم، وضعه الغرب وعمل على تنفيذه، وكان اليهود هم أداته في هذا المخطط، حيث تلاقت عقيدة الغرب وأطماعه مع عقيدة اليهود، فكانت المأساة في حين كان المسلمون في غفلة لا ندري متى سيفيقون منها.
ونحن هنا نستعرض مراحل التهويد، بداية من عهد الدولة العثمانية، ومرورا بفترة الانتداب البريطاني ثم في النهاية نختم بتهويد القدس في ظل الاحتلال الصهيوني.
أولا: في عهد الدولة العثمانية:
بدأ الاهتمام بالقدس منذ فترة الحكم المصري لبلاد الشام (1831-1940)، وكانت نقطة التحول البارزة في هذا الاهتمام، حين أخذت الكفة تميل لصالح الدولة العثمانية حيث حاول محمد علي باشا شق صف التحالف الدولي المناهض لاحتلاله بلاد الشام عن طريق استمالة بريطانيا، فسمح لها بفتح قنصلية في مدينة القدس، لتكون بذلك أول قنصلية تفتح أبوابها هناك. وعكست الإجراءات والأوامر الصادرة عن محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا والهيئات الإدارية التابعة لهما في القدس المأزق الصعب الذي أخذ يعاني منه الحكم المصري في القدس، فبعد أن استجاب محمد علي باشا لمطلب القنصل البريطاني بشراء بيت للسكن متجاوزا القواعد الشرعية، ازدادت الضغوط يوما بعد يوم من جانب قناصل الدول الأوروبية لتملك العقارات، بل تعدى بعضهم على الأراضي أو قام بشرائها وبناء البيوت ودور العبادة عليها دون الحصول على إذن مسبق من السلطة المصرية، وأسوة بغيرهم من الطوائف لم يلتزم اليهود بنصوص أوامر الترميم والبناء. وعندما انسحب محمد علي خلف للدولة العثمانية تركة ثقيلة وضعتها أمام إشكالية سياسية واقتصادية واجتماعية في منتهى الصعوبة والتعقيد.
ومع انطلاقة عجلة النشاط الثقافي والديني والاقتصادي، سارعت الدول الأوروبية إلى تعيين قناصل لها في القدس، وهو ما أدى إلى كثرة التدخل الأجنبي في شؤون مدينة القدس، وعجزت الدولة العثمانية عن وقف نشاط الإرساليات الأجنبية والقنصليات في القدس بعد عودتها لحكم بلاد الشام في العام 1840، وليس هذا فحسب بل حصلت الدول الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا، وإيطاليا) على امتيازات كثيرة كان من أبرزها التدخل في شؤون الدول العثمانية الداخلية وفرض الوصاية على الطوائف والأقليات الدينية باعتبار أن تلك الدول تعتبر نفسها الحامي والمدافع عنها.
الوضع العام لليهود في القدس:
شأن سائر الأقليات الدينية داخل الدولة العثمانية تمتع اليهود بقدر كبير من الاستقلال الذاتي والإداري والطائفي، واتسم الموقف الرسمي منهم بالتسامح، فخلال الحكم العثماني، لم تتخذ أية إجراءات رسمية تستحق الذكر تناهض اليهود كطائفة أو تميز بينهم وبين سائر السكان -في ذات الوقت لاقى العديد من اليهود في معظم الدول الأوروبية ألوانا متعددة من الاضطهاد والتنكيل والتشريد والمذابح- فكان الحاخام باش أو الحاخام الأكبر هو ممثل اليهود في كل أمر من أمام الحكومة، كما سمح لأفراد الطائفة بحرية اختيار رؤسائهم الروحيين، وفرض الضرائب، وحل الخلافات فيما بينهم، وكانت المحكمة اليهودية تحكم بينهم حسب الشريعة اليهودية، ولم يحدث أدنى تدخل بالأموال التي تجمع لمؤسساتهم الخيرية والتعليمية وتمتعت مدارسهم الطائفية باستقلال ثقافي وذاتي. ويشير إحصاء أجرته الإدارة المصرية في بلاد الشام 1839 أن تعداد اليهود في فلسطين بلغ آنذاك (6500) نسمة نصفهم كان يقيم في القدس.
وفي عهد محمد علي باشا والي مصر الذي أعلن انفصاله عن الحكم العثماني، واستيلائه على مدينة القدس وبلاد الشام في عام 1931 تحسنت أوضاع اليهود في فلسطين، فقد أعفاهم من الضرائب والمغارم التي كان الباشا العثماني قد فرضها على زعمائهم. كما سمح الحكم المصري لليهود بترميم كنيسهم في بيت المقدس بشرط ألا يزيدوا شيء على المباني القديمة وعدم تبليط ما حول حائط البراق، وإن كان قد سمح لهم بزيارته والصلاة فيه والبكاء عنده، دون أن يترتب عن ذلك أي حق قانوني وفي مقابل مبلغ من المال يدفع سنويا لوكيل الأوقاف نظرا لأن الرصيف القائم أمام الحائط تعود ملكيته للأوقاف منذ عهد صلاح الدين الأيوبي.
وكان لمحمد علي موقف مشرف من أطماع اليهود حيث صادق على قرار مجلس الشورى في بيت المقدس الذي رفض السماح لليهود بشراء الأملاك والأراضي والزراعية وممارسة الحراثة والفلاحة وبيع الأغنام والأبقار في المدينة، وإن كان قد سمح لليهود بممارسة العمل بالتجارة فقط.
بعد خروج محمد علي من فلسطين، استمرت أوضاع اليهود في التحسن في القدس، حيث حصل موسى مونتفيوري على فرمان من السلطان عبد المجيد في نهاية أكتوبر من عام 1940 يكفل حماية اليهود واعتراف الدولة العثمانية بالحاخام السفاردي الأكبر رئيسا للطوائف اليهودية في الدولة، ومنحه صلاحية الموافقة على انتخاب حاخام سفاردي أكبر ليهود فلسطين ويمارس صلاحيات إدارة شؤونهم الدينية والدنيوية إضافة إلى صلاحيات واسعة في المجالين القضائي والسياسي وتنفذ الدولة العثمانية قراراته. وقد شكل هذا الفرمان ما يشبه الحكم الذاتي لليهود في القدس وفلسطين.
نتيجة لاضطهاد اليهود في أوروبا الشرقية ازدادت هجرة اليهود إلى القدس وفلسطين حتى وصل تعدادهم عام 1895 إلى 28 ألفا.
الدور الأوروبي في تشجيع الهجرة اليهودية:
كانت بريطانيا من أوائل الدول الأوروبية التي اهتمت باليهود حيث أنشأت فيها عدة جمعيات دينية في الربع الأول من القرن التاسع عشر تهدف إلى مساعدة اليهود في الهجرة والاستيطان في فلسطين وبيت المقدس، أشهرها جمعية التوراة عام (1802) وجمعية فلسطين عام (1805) وجمعية لندن للتبشير بالمسيحية بين اليهود عام (1825). وآمنت هذه الجمعيات بأن اليهود جماعة دينية يمكن تنصيرها وتوطينها في فلسطين لخدمة المصالح التجارية البريطانية. وناشدت الصهيونية غير اليهودية بإنشاء مستوطنات اليهودية في فلسطين تمهيدا لإقامة كومنولث يهودي تحت الحماية البريطانية.
ولحقت فرنسا بالمشاريع البريطانية حين أعدت خطة في عام 1798 لإقامة كومنولث يهودي في فلسطين في مقابل تقديم اليهود قرضا للحكومة الفرنسية التي كانت تعاني من أزمة مالية خانقة، ووفقا للخطة الفرنسية أصدر نابليون فور وصوله الإسكندرية في يوليو 1798 نداء حث فيه جميع اليهود في آسيا وأفريقيا على الالتفاف حول رايته "لإعادتهم" إلى القدس وإعادة بناء هيكلهم من جديد في مقابل مساعدتهم له في غزو فلسطين عبر إشعال الفتن والفوضى في المناطق التي يرتادها الجيش الفرنسي..
ويمكن اعتبار عام 1938 بداية الاهتمام الأوروبي الرسمي باليهود في فلسطين حيث أقامت بريطانيا قنصلية لها في القدس لرعاية مصالحها في فلسطين، ومن ضمنها "تقديم الحماية إلى اليهود عامة"، وهو ما أصبح عملا رئيسا للقنصلية لفترة طويلة. وقبل مرور عقد من الزمن على هذا التاريخ، كانت كل الدول الأوروبية الهامة (ألمانيا 1842، وفرنسا 1843، والنمسا 1849، وأسبانيا 1854 وروسيا 1861 مضافا إليها الولايات المتحدة الأمريكية قد أنشأت قنصليتها في القدس.
ومما يؤكد المخاطر التي ترتبت على الدور الأوروبي الجديد ما كتبته صحيفة تايمز اللندنية يوم 17 أغسطس 1840 تحت عنوان (سوريا وبعث اليهود) حيث جاء فيها "إن اقتراح توطين اليهود في بلاد أجدادهم تحت حماية الدول الخمس لم يعد بعد الآن محل جدل بل أصبح موضع دراسة جادة".
أسست بريطانيا صندوق استكشاف فلسطين، وحصلت في عام 1869 على فرمان بواسطة السفارة البريطانية في إسطنبول للتنقيب عن هيكل سليمان في منطقة الحرم الشريف بعد التعهد بعدم إلحاق أضرار بالمسجد الأقصى وقبة الصخرة من جراء الحفريات. وقام العاملون في الصندوق بدور كبير في توجيه أنظار اليهود إلى فلسطين عن طريق تزويدهم بالمعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسية التي كانوا يحتاجونها.
كما تنافست القنصليات الأوروبية بالقدس في مساعدة اليهود على الهجرة إلى فلسطين ودخول القدس، مما أدى إلى تغيير لا يستهان به في أوضاع الطائفة اليهودية ويتمثل هذا التغيير في المقام الأول بأن كل زيادة في النفوذ الأوروبي رافقها ارتفاع لعدد السكان اليهود في القدس بحيث بلغ مع منتصف الخمسينات من القرن التاسع عشر نحو 5000 نسمة، أي ما يقارب نصف عدد اليهود في فلسطين آنذاك. كما ارتفع إلى 13.920 نسمة عام 1876. في حين بلغ عددهم في عام 1904 إلى أربعين ألف نسمة.
وبجوار هذه المساعدات من القنصليات الأوروبية، كانت هناك جهود الاستيطان الفردية تمثلت في جهود عائلة روتشيلد الثرية، وجمعية الأليانس الفرنسية، والثري اليهودي البريطاني حاييم موشى مونتفيوري الذي كان من أثرى الشخصيات اليهودية في العالم يومئذ وأكثرهم نفوذا وحظوة لدى الحكومة البريطانية.
استطاع مونتفيوري الحصول على فرمان عام 1855 سمح له بموجبه بشراء مساحة من الأراضي خارج سور البلدة القديمة تقع إلى الغرب من بوابة يافا وبالقرب من باب الخليل خصصت لإقامة مستشفى عليها، ولكن مونتفيوري عدل خططه بعد ذلك بناء على نصيحة وجهاء اليهود في القدس الذين اقترحوا إقامة مساكن شعبية بدلا من المستشفى نظرا لازدحام الحي الذي يسكنه اليهود داخل السور، وحين حاولت السلطات العثمانية عام 1859 إيقاف أعمال بناء المساكن لأنها تخالف تعليمات الفرمان تدخل القنصل البريطاني ثم السفير في إسطنبول وانتهى الأمر بالسماح باستمرار البناء. وبهذا العمل يكون مونتفيوري قد وضع أساس أول حي سكني يهودي في القدس، أصبح نواة للحي اليهودي من المدينة وعرف فيما بعد باسم (حي مونتفيوري).
بداية مشاريع الاستيطان المنظم:
يعتبر الفرمان الذي حصل عليه مونتفيوري وإقامة الحي الذي يحمل اسمه على أول أرض يمتلكها اليهود في القدس منذ نحو ألفي عام هو الخطوة الأولى من مخططات الحركة الصهيونية لمحاصرة مدينة القدس وتحقيق أكثرية سكانية فيها. إذ لم تمض سوى فترة قصيرة من الزمن حتى أخذ البناء يمتد وينتشر على امتداد الطرق المؤدية إلى بوابات المدينة الغربية والشمالية والجنوبية، فمن بوابة يافا إلى بوابة دمشق (باب الخليل وباب العمود) أقيمت أحياء يهودية على أراضي استطاعت المؤسسات اليهودية أولا ثم الحركة الصهيونية فيما بعد شراءها، بالتحايل على القانون الذي يمنع بيعها لليهود، وبمساعدة القنصل البريطاني.
وجاء قانون تملك الجانب الذي أصدرته الدول العثمانية عام 1867، نتيجة للضغوط الخارجية الأوروبية وتنافس الدول الأوروبية فيما بينها على ممارسة النشاط القنصلي والديني والثقافي ومطالبات سفرائها بالسماح لرعاياهم بتملك الأراضي والعقارات ليفتح الباب على مصراعيه لرعايا الدول الأجنبية والحركة الصهيونية لشراء الأراضي. وتضمن القانون كذلك اعترافا رسميا بما جرى شراؤه بطريقة غير شرعية طوال الفترة التي سبقت إعلانه.
وكان لهذا التحول في الإجراءات من جانب الحكومة العثمانية دور كبير في التأثير على بنية الملكية في المدينة المقدسة وشكل أحد المنافذ التي ولجت منها الحركة الصهيونية للقيام بمشاريع استيطانية ضخمة قبل أن يتسنى لها بناء مستوطنات بشكل منفرد في الأراضي الأميرية الصالحة للزراعة خارج أسوار المدينة، فقد أخذ المهاجرون اليهود ممن يحملون جنسية الدول الأوروبية وينضوون تحت حمايتها بتشييد الأحياء وشراء الأراضي لأغراض البناء دون الحاجة لأخذ الموفقات. وكانت الأموال تتدفق إلى القدس من الخارج على هيئة تبرعات للجمعيات والأثرياء دون أن يوجهها أي عوائق أو عراقيل لدفع أثمان الأراضي وبناء المستوطنات وتعزيزها بالمدارس الدينية والمشافي والجامعات لصهر الثقافات وإحياء اللغة العبرية.
واستنادا إلى سجلات محكمة القدس الشرعية وخارطة المهندس النمساوي "شيك" الذي شارك في تنظيم الأحياء والمستوطنات اليهودية فإن المستوطنات التي غزت شمال غرب المدينة وصلت إلى 36 مستوطنة حتى عام 1918. وتراوح عدد اليهود في القدس في عام 1913 بين 46.000،و62.000 مستوطن.
هذا غير النشاط الاستيطاني في الأرياف المحيطة بالقدس والتي تتبع متصرفية القدس.
السياسة العثمانية تجاه الاستيطان اليهودي وتهويد القدس:
النجاح الذي حققته الحركة الصهيونية من امتلاك اليهود لأول قطعة من الأرض في القدس ثم صدور قانون تملك الأجانب، لتنطلق بعد ذلك عجلة الاستيطان وشراء الأراضي وبناء المستوطنات وامتدادها داخل وحول البلدة القديمة، وما صاحبها من تحولات جذرية في بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية، ولد شعورا لا يستهان به من عدم الاطمئنان وساهم في كشف أهداف ونوايا اليهود الحقيقية لدى الحكومة العثمانية التي كانت حتى عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) تتبع سياسة التسامح الديني والعطف الإنساني. وإزاء ذلك تبلورت اتجاهات ومواقف متباينة في إسطنبول والقدس، على الصعيدين الرسمي والشعبي، ظهر بجلاء في فرمانات وأوامر الباب العالي وتعليمات متصرفي القدس، حيث شددت الحكومة رقابتها واتخذت موقفا حازما لكبح جماح مخططات ومشاريع التغلغل الصهيوني في الأراضي والتخفيف من وتيرة وحدة حركة الشراء والاستيطان.
سجلت السياسة العثمانية الجديدة تجاه هجرة اليهود إلى القدس وشرائهم الأراضي طابعا جديا وحاسما ابتداء من أبريل 1882، حين طلبت جمعية (محبو صهيون) في أوديسا من القنصل العثماني العام هناك منح المهاجرين اليهود الهاربين من الاضطهاد من روسيا القيصرية سمات دخول إلى الدولة العثمانية بغرض الاستيطان في القدس، وإذا لفت عدد المهاجرين الكبير انتباه القنصل العثماني، جاء الرد من الباب العالي بالسماح لليهود في الاستيطان بأي من ولايات الدولة باستثناء فلسطين.
وتشدد السلطان عبد الحميد في موقفه، معبرا عن شعور لا يستهان به من عدم الاطمئنان للهجرة اليهودية الواسعة إلى القدس وما رافقها من حقوق وامتيازات لليهود كرعايا أجانب، فأصدر فرمانا يقضي بعدم السماح لليهود الذي يحملون جنسيات روسيا ورومانيا وبلغاريا من الدخول إلى القدس وشراء الأراضي. وباشرت سلطات ميناء يافا بوضع صعوبات أمام اليهود المهاجرين، غير أنه وأمام ضغط الدول الأوروبية، وبخاصة بريطانيا، عدل السلطان من تعليماته وسمح لليهود بدخول فلسطين من أجل زيارة الأماكن المقدسة ولمدة 31 يوما فقط. ومع استمرار ضغط الدول الأوروبية وافقت الدولة العثمانية عام 1887 على تمديد إقامة اليهود بقصد الحج إلى ثلاثة أشهر شريطة تسليم جوازات سفرهم إلى سلطات الموانئ أو متصرفية القدس واستبدالها بورقة حمراء سارية المفعول لمدة ثلاثة أشهر لضمان عودتهم إلى بلادهم. وهذه الإجراءات انطبقت حتى على اليهود المقيمين في أملاك الدولة العثمانية كمصر وسوريا والعراق.
ولكن الورقة الحمراء لم تضع حدا لتيار الهجرة، فقد دخل المستوطنون أراضي المتصرفية بطرق غير مشروعة، إلى جانب تراجع الدولة العثمانية أمام ضغوط بريطانيا وفرنسا، فاضطرت إلى التصريح في أكتوبر 1888 بأن القيود الجديدة لن تطبق إلا بحق المهاجرين بأعداد كبيرة وليس بحق الذين يأتون فرادى. وتشجعت القنصلية البريطانية في القدس بهذا التصريح، فمنحت حمايتها في عام 1893 لأكثر من 200 عائلة يهودية.
وعلى الرغم من رفض القناصل الأوروبيين التعاون مع الدولة العثمانية لتسهيل مهمة إخراج اليهود الأجانب الذين انتهت مدة الإقامة الممنوحة لهم، فقد استمرت السلطات المحلية بالقدس بتطبيق إجراءات تقييد الهجرة اليهودية، إلى جانب رفض سلطات ميناء يافا السماح بدخول اليهود الذين لم يحصلوا مسبقا على سمات دخول من القنصليات العثمانية في بلادهم. وتشكلت لجنة خاصة في القدس لتطبيق قيود حظر الهجرة بصرامة. كما سعت الدولة العثمانية لدى الحكومة البريطانية في أواخر عام 1898 لتعديل المادة الأولى من معاهدة الامتيازات الإنجليزية لعام 1675، والمادة الأولى من معاهدة 29 أبريل 1861، والمادة 62 من معاهدة برلين 13 يونيو 1878، وهي المواد المتعلقة بالتسهيلات الممنوحة للرعايا الإنجليز في الإقامة والسفر إلى الدولة العثمانية. ولكن وزارة الخارجية البريطانية رفضت ذلك معللة رفضها بأنه من غير المعقول التمييز بين الرعايا الإنجليز، وكان الموقف الفرنسي مماثلا للموقف البريطاني، حيث أجاب السفير الفرنسي في إسطنبول بأن القانون الفرنسي لا يستثني طوائف بعينها ويعترف بالحقوق نفسها لجميع الفرنسيين إلى أي مذهب انتموا، وبما أن للفرنسيين الحق في المرور والإقامة في الولايات العثمانية، فإن هذا الحق لا يمكن أن يكون موضوع مناقشة بالنسبة لليهود الفرنسيين باعتبارهم مواطنين فرنسيين. ويبدو أن المساعدات التي حصل عليها المستوطنون اليهود من خلال استغلال نظام الامتيازات كانت مهمة لدرجة دفعت مؤرخ الهاجاناه إلى تقييمها بقوله: "إننا لا نبالغ إن قلنا أنه لولا نظام الامتيازات، لما استطاع الييشوف الجديد الصمود في البلاد، ولما خرج حتى الييشوف القديم عن كونه طائفة شرقية على غرار يهود إيران وأفغانستان".
الحكومة العثمانية تمسكت بموقفها، واتبع الباب العالي سياسة منع دخول جميع اليهود الأجانب القادمين إلى القدس وفلسطين بقصد الاستيطان، وتشبثت السلطات المحلية في القدس بتطبيق التعليمات والقيود لمنع هجرة اليهود دون تمييز بين جنسياتها وأوضاعهم المالية، وبذل متصرف القدس رؤوف باشا جهودا كبيرة لمنع انتقال الأراضي إلى اليهود، إلا أن خلفه لم يتشدد مثله، وحال فساد الإدارة العثمانية وانتشار الرشوة التي كانت متفشية بين مختلف موظفي الدولة دون فعالية القيود والتعليمات العليا، فاندفع اليهود إلى شراء الأراضي، ودخل فلسطين والقدس عدد كبير من اليهود دون تسليم جوازات سفرهم بعد رشوة الموظفين.
وقد أثارت كثرة أعداد اليهود وازدياد عمليات شرائهم الأراضي حفيظة وجهاء القدس، فرفعوا عريضة إلى السلطات العثمانية مطالبين بمنع الهجرة اليهودية وبيع الأراضي لليهود، وصدرت أوامر الباب العالي المشددة إلى متصرف القدس عام 1892 بمنع بيع الأراضي الأميرية وحظر شراء العقارات في القدس من قبل اليهود. كما وضع السلطان عبد الحميد المزيد من القيود على زيارة اليهود للقدس.
بعد نشأة المنظمة الصهيونية العالمية، سعى الصهاينة لتنفيذ قراراتهم بإقامة وطن قومي في فلسطين بشتى الوسائل. وفي سبيل ذلك، اتصل هرتزل بالسلطان عبد الحميد، وعرض عليه أن يستوطن اليهود في فلسطين مقابل مغريات مالية كبيرة يقدمها اليهود للدولة العثمانية التي كانت تعاني في ذلك الوقت من ضائقة مالية كبيرة، غير أن السلطان عبد الحميد رفض بحسم، وأعلن عدم استعداده تسليم أي شبر من أراضي الدولة الإسلامية لليهود.
وعندما أدرك القادة الصهاينة استحالة أهدافهم ما دام السلطان عبد الحميد على رأس السلطة، فقد عملوا على إسقاطه وإقامة حكم يستطيعون من خلاله تنفيذ ما يصبون إليه، وتمكن حاييم وايزمان، خليفة هرتزل من تنفيذ الأهداف الصهيونية بواسطة أقطاب حزب الاتحاد والترقي الذين انقلبوا على السلطان عام 1908 ثم عزلوه عام 1909 فقد كانوا من يهود الدونما أو من تلاميذهم وحملة آرائهم، والمنفذين لمخططاته. وهكذا لم يستمر التشدد الذي ألفناه عن ولاه القدس ومتصرفيها بشأن المشروع الصهيوني، إذ تعزز النفوذ اليهودي في الدولة التركية خلال الفترة الوقعة بين عام 1908، و1914، وتأسست وكالة صهيونية في إسطنبول وأصبح الحاكم العام للقدس أداة طيعة بيد الحركة الصهيونية لدرجة أن بعض المتصرفين عبروا عن مواقفهم المؤيدة للمشروع الاستيطاني علانية في جولاتهم الميدانية على المستوطنات. وفتحت أبواب الهجرة على مصراعيها، وسُهلت عمليات نقل الراضي بعد أن تسرب الفساد إلى الدوائر الإدارية الخاضع لإشراف المتصرف. مما أدى إلى تدفق الهجرة بأعداد هائلة فوصل عددهم في القدس إلى 45 ألفا في عام 1910 من أصل 70 ألف هم مجموع سكان المدينة. ثم ارتفع عام 1912 إلى 48 ألفا.
ولكن نتيجة لانحياز اليهود الصهاينة إلى الجانب المعادي للأتراك في الحرب العالمية الأولى، تم طرد أعداد كبيرة منهم من القدس، ومطاردتهم، حتى وصل عددهم في عام 1917 إلى 21 ألفا.
يتبع باقي الموضوع