موضوع وصلني واعجبني لنربي انفسنا لنبني كما كيرالا

حديث الهُدى وحزب شيوعي في كيرالا .. عدلي صادق

بما اضطرت شركات الطيران العربية، أن تختار وقتاً يقع بين منتصف الليل والفجر، لإقلاع طائراتها من الشرق،

عائدة في اتجاه الغرب. غير أن هذا التوقيت، بالنسبة للمسافرين في أي اتجاه، هو الوقت الصعب، إذ لا ينام المسافر

طوال الليل، لا سيما وأنه يصل الى المطار قبل الإقلاع بساعتين على الأقل، وبالتالي هو يدخل نهاراً ثانياً وجديداً، من

دون نوم. ففارق التوقيت، بين مشرق الدنيا ومغربها، يسمح بالوصول

المبكر الى مشرق العالم العربي، وقبل إقلاع الرحلات منه الى الغرب. وهذا يناسب مسافري العبور «الترانزيت»

المتجهين الى أوروبا وأمريكا والمغرب العربي!
* * *

لكن سفري فجر يوم الجمعة الفائت، الى المزيد من الشرق مع الميل جنوباً، أي من دلهي الى ولاية كيرالا، للمرة

الثانية خلال سنة؛ جاء في التوقيت نفسه وأصعب. وعلى الرغم من ذلك، فالأكثر مشقة، كان هو من وصلوا الى دلهي

فجراً ثم استمر سفرهم، فالتحقوا برحلتنا الى الولاية العجيبة الفاتنة، التي يحكمها حزب شيوعي، له من جماليات

السلوك الاجتماعي ومآثره وآدابه، ما لاقى احترام وإنصاف الشيوخ وعمداء كليات الشريعة واللغة العربية ومعهم

الفعاليات الحزبية والدينية من كل الأطياف. فحكومة كيرالا، كلفت وزيراً من كلا الديانتين اللتين يدين بهما سكان

الولاية الكبيرة، لكي يضطلع بالمسؤولية عن الشؤون الدينية لجماعته، وعن دور العبادة والأوقاف التابعة لها. وبالنسبة

للمسلمين، فإن هناك شبه إجماع على حُسن أداء وأريحية وزير الشؤون البلدية والقروية «بالولي محمد كوتي» الذي

هو أيضاً مسؤول مديرية مصالح المسلمين وأوقافهم. الشيوخ يصفونه بالمسلم بالولادة، وهو لا يعارض هذا الوصف،

بينما الواصفون يقرون أن تجربة كيرالا الشيوعية، ربما ستهدي نجاحات أخرى للشيوعيين في ولايات أخرى. عندما

سمعت هذا الكلام هنا، حدثتني نفسي، أن النقيض الصارخ لتجربة كيرالا الشيوعية، هو تجربة غزة الإسلامية، التي لن

تهدي «الإخوان» سوى العفار!
* * *
نحن مدعوون الى مناسبات شتى في مدينة «كاليكيت» عاصمة مديرية شمالي وسط كيرالا. ويحل هنا، د. علي جمعة،

مفتي مصر، وآخرون، دعاهم «مركز الثقافة السُنيّة» بينما أنا ضيف «مركز الدعوة الإسلامية». في الطائرة، ترك

سفير مصر مقعده في درجة رجال الأعمال، وجاء الى حيث مقعدي المتأخر، لكي يحدثني عن برنامج العمل في

كيرالا. ولم يكن كلانا يعلم، أننا مدعوون من جهتين مختلفتين، تغطيان أكلاف السفر. لكنني تعجبت من وجود كل منا

في درجة من مقصورة الطائرة، وبدأت أفترض أن هناك جهتين مختلفتين داعيتين، وتواصينا على أن نظل في السليم

ولا ندخل في مساجلات بين جمعيات!

في ولاية كيرالا الشاسعة، ترى عجباً في الطبيعة وفي الإنسان، وفي الأرقام وفي شوارع مدينة «كاليكيت» الخالية

تماماً من المتسولين، بخلاف الوضع في العاصمة الاتحادية دلهي، والخالية من القمامة، رُغم أنها الأقل أهمية من

عاصمة الولاية «تريفرندم» أي إنها تتميز بالنظافة عن عواصم قاريّة تتكوم القمامة التي ترتع فيها القطط، في

منحنيات شوارع من أحيائها الراقية. وتخلو «كاليكيت» من الظواهر المثيرة، كالسراويل الأنثوية المحزّقة، أو الثياب

الكاشفة عن المفاتن الجسدية، كما تخلو من إشارات تدل على التواجد البذيء للعالم السُفلي، من دعارة ومخدرات،

ودعارة «سياحية» مغلّفة بعروض خدمات «المساج» كما في ولايات أخرى. وربما لا تلمح شرطياً ولا سيارة أمن،

وتحس أن الناس هنا، من المستحيل ان يتشاجروا أو أن يعلو صوتهم في وجه بعضهم البعض. ويكتظ شاطئ البحر

ليلاً، بالأسر، فلا أصوات موسيقى ولا أصوات لهو أو تضاحك أو شجارات، ولا ولائم على الشاطئ. هناك أمر أحزنني

في المدارس التي تديرها الحكومة، في أيام السبت للجمعيات الإسلامية حين تطلبها لعمل نشاط فيها، وهو التحجب

التام للبنات الأطفال منذ سن السادسة أو أصغر. علما بأن ما فاجأني هو المناخ. كنت أعرف أنه أدفأ من دلهي الباردة

هذه الأيام، والبادرة جداً في الليل، لكني لم أتوقع أن أدفأ فترات هذه الولاية ذات الاخضرار الشامل والبديعة الساحرة،

ستكون فيها درجة الحرارة فوق الـ 35. لم أجد في حقيبتي قميصاً شتوياً، وتصبب العرق وأنا أقدم محاضرة لخمسمئة

طالب وطالبة عن اللغة العربية وتاريخ الحضارة. كانت هناك، في سقف القاعة، أربعون مروحة، لا تسعف من لم يعتد

على المناخ. فلهذا السبب يشعر العمال من هنود كيرالا في الخليج، بالقدرة على العمل تحت اشعة الشمس صيفاً.

وتكاد المكاتب الرسمية تخلو من أجهزة التكييف. فرؤساء الجمعيات الكبيرة، لا يستخدمون التكييف في مكاتبهم،

ويعتبرونه بذخاً! ويكاد الزائر العربي، عندما يرى التنوع والأسواق والمراكز الثقافية والجامعات وغيرها؛ أن يضرب

كفاً بكف، تأسياً على جهلنا بواقع الهند، إذ يختزلها الكثيرون في قرد وفيل، وإن زاد فإنه يتذكر البهارات، وربما بدأ

الكثيرون ـ مؤخراً ـ يشيرون الى العامل النووي، الذي لا يدري به الناس، وليس هو من سمات للمجتمع!

فإن قلت ـ مثلاً ـ إن هناك، في العالم العربي من المحيط الى الخليج، مئة كلية ومعهد يُدرّس حصراً اللغة العربية

والشريعة الإسلامية، والآداب والحضارة الإسلاميتين؛ يشعر من يسمعك أنك تبالغ، وأن الرقم مهول، وبخاصة عندما

تذكر أن الحكومة تدفع مرتبات نحو عشرة آلاف أستاذ جامعي في هذه التخصصات العربية والإسلامية وحدها. لكن

هذين الرقمين، هما النزر اليسير، من حقائق الأرقام والمشاهد وبانوراما التعليم في كيرالا!

الطلاب الهنود الكُثر، هنا، من دارسي العربية الفصحى، يحفظوننا عن ظهر قلب، ويتابعون أحوال العالم العربي.

يعرفون اختلاف لهجاتنا، وقد بات بعض متشددي العصبيات، في بعض البلدان، يريدون جعلها لغات مستقلة، تُكتب

مثلما تُلفظ، وينشأ لها نحو وصرف وعروض، أو مساقٌ نحوي ذو محسنات بديعية على طريقة «هزي يا نواعم».

ويعرف الدارسون، الكثير عن النعرات العربية السخيفة، من كل نوع، وهي التي قطعت شوطاً طويلاً في تنميط الناس

للناس، وفي تمييز الناس بين بعضهم بعضاً، وفي اختراع الفوارق!

هنا، توجد ثلاثة اتجاهات للعمل الإسلامي النشط. وسأجيء على ذكر بعض أمثلة هذا النشاط، وبعض دلالاته الجديرة

بالاحترام، لكي تعرف جمعيات الـ «إن جي أوز» وغيرها، في بلادنا، كيف تكون الجمعيات ومساعيها. لكن ما

يتوجب الإشارة اليه، أن الاتجاه الإسلامي هو الأضعف ـ من فضل الله ـ هو التوجه الإخونجي الذي يسمي نفسه

«الجماعة الإسلامية». ففي جولة بالسيارة، للتمتع بمفاتن الطبيعة وبمشاهد الأشجار السامقة الكثيفة، التي تغطي الأفق،

استفسرت من د. «حسين أبو بكر كويا» رئيس «مركز الدعوة الإسلامية»؛ عن سبب ضعف هذه «الجماعة». جاء

استفساري في لحظة التوقف عند نقطة الملتقى، بين فرعي نهر عريضين، تفصل بينهما أشجار الجوز الكثيفة. قال

الرجل بأدب وصفاء، كمن يفصل بين الحق والباطل بخط من أشجار فارعة: هم يمتشقون أعرض الشعارات، ويرفعون

سقف السياسة، ولا يقدمون ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. مـتأثرون جداً، بما كتب المودودي وقطب عن

«الحاكمية». أية «حاكمية» هذه التي ستكون عندنا في الهند، وطن الإنسان؟ هل ننسى أولادنا ونهملهم ونشحن

مجتمعنا بأهداف وهمية، غايتها أخذ كرسي رئيس الوزراء الهندوسي، فيشتعل الصراع الداخلي؟ وهل نقطع سير

الارتقاء بالحياة الآمنة المنتجة للمسلمين هنا، لكي نركز جهودنا على المستحيل، فيضيع منا الممكن؟ ومن الذي سيغيثنا

لو خضنا ـ لا سمح الله ـ صراعاً من هذا النوع؟ بالعكس ربما لو فعلنا ذلك، نقطع أرزاق مليون ومئتي عامل من

كيرالا، في الدول العربية نفسها، التي ربما يقف بعضها مع الطرف الآخر، بعد أن نصبح متورطين في صراعات

سياسية، ومتهمين بالعنف، وكل ذلك من أجل هدف لن يتحقق؟

أضاف الرجل بحزن: للأسف، هم يتحدثون عنا، وكأننا اقترفنا إحدى الموبقات السبع، التي تُبقي فاعلها في الدرك

الأسفل من النار، وهي التولي يوم الزحف. فكأن هناك يا صديقي أي زحف في يومنا هذا!

«الزحف على أشده عندنا». قلت له ضاحكاً. فقد لبينا نداء الزحف، عقوداً، وكانوا هم الذين يتولون عنه في عقود

الزحف. لكننا اليوم، نتولى لكي نعطيهم الفرصة. بالتالي، فإن «الجماعة» مضت في زحفها فحصدت فرقاناً نسأل الله

ألا يتكرر في «كاليكيت». وأضفت، والمحزن، أنهم نسواْ توليهم في سنوات طويلة عن الزحف، فقالوا فينا، ما لم يقله

مالك في الخمر. رد أخي د. حسين كويا: دعنا من أمثلة الخمر جَمّاعُ الإثم. فكلانا لا يعاقره. قل إن أفعالهم مصداق

لقوله تعالى في سورة النجم: «إن يتّبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى»!




كما وصلني الموضوع .....منقول