قلعة حلب ...من أشهر قلاع العالم واكثرها حفاظاً على عمرانها التاريخي رغم كثرة الحروب ا
مقدمة :
تتحلق مدينة حلب حول رابية تعلوها قلعة مرتفعة تشرف على المدينة من جميع جهاتها، وهذه القلعة العربية الإسلامية هي من أشهر قلاع العالم، ومما لا شك فيه أنها أقيمت على أنقاض قلاع متتابعة قديمة، فلقد كانت الرابية المرتفع الأكثر أمناً لإقامة المقر الحكومي المحصّن لمدينة حلب عبر تاريخها الطويل جداً .
التاريخ العمراني للقلعة :
يعود تاريخ بناء أهم أقسام القلعة إلى عصر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي وكان ولاه عليها سنة 1190م، فلقد حصّن مدخلها وبنى على سفحها جداراً ، وحفر حولها الخندق، وشيد في داخلها مسجداً وعدداً من القصور. وكانت زوجه ضيفه خاتون، التي صارت ملكة حلب ، تعيش في أحد قصور القلعة، وفيها دفنت أولاً .
جولة في القلعة :
تعلو القلعة ما يقرب من أربعين متراً عن مستوى مدينة حلب ، ومازالت أسوارها وأبراجها قائمة ، يعود بعضها إلى عصر نور الدين زنكي، ويحيط القلعة خندق بعمق ثلاثين متراً .
وندخل إلى القلعة من بوابة ضخمة من خلال برج دفاعي مستطيل الشكل، ينتهي بالمدخل الكبير للقلعة، ويتكون من دهليز ينتهي بباب ضخم من الحديد المطرّق، تعلوه فتحات للمرامي والمحارق، ويعود إلى عصر خليل بن قلاوون الذي جدده ورممه. وتعلو الباب قنطرة حجرية عليها نحت ممتد على طولها يمثل ثعبانين برأس تنين .
وبعد اجتياز هذا المدخل نصل إلى دهليز آخر في جدرانه الثلاثة أواوين ضخمة، وفي إيوانه الشمالي باب يتصل بدرج يؤدي إلى قاعة الدفاع، وللقلعة باب رابع خشبي يعلوه ساكف عليه نحت أسدين متقابلين . وبعد اجتياز الباب نمر بمصاطب مرتفعة تتخللها غرف ومستودعات . ثم نصل إلى ممر القلعة الداخلي تتخلله مجموعة من المباني والحوانيت، وثمة درج يؤدي إلى القصر الملكي .
وإذا ما تابعنا المسير، فإننا سنصل إلى مسجد إبراهيم الخليل الذي أنشأه الملك الصالح اسماعيل بن محمود بن زنكي سنة 536هـ/1179م . وعلى مدخل المسجد، وعلى جدرانه كتابات تاريخية. ويلي هذا المسجد بناء آخر هو مسجد ذو مئذنة مربعة عالية ، أنشئت في عصر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي . وليس بعيداً عن هذا المسجد الذي رمم مؤخراً، تقوم ثكنة عسكرية أنشئت في عصر إبراهيم باشا المصري سنة 1252هـ/1834م . وفي وسط هذه الرابية قاعة كبيرة، نصل إليها من خلال سبعين درجة تحت السطح، كانت تستعمل مستودعاً للحبوب والعلف .
مميزات عمارة القلعة
تعكس عمارة القلعة التطور الذي وصلت إليه فنون العمارة العسكرية من خلال طريقة عمارتها ,وبأشكال أبراجها المربعة والمستطيلة والسداسية وبالمدخل المتعرج والأعمدة العريضة في السور الذي يجعل الجدار متماسكاً بالإضافة الى المسامير الحجرية في السور الضخم ,والكوات المتعددة لرشق السهام والأبواب الحديدية المصفحة والمعترضات الهندسية التي تؤلف عنصراً زخرفياً ذا طابع جمالي في المنشآت المدنية كالقصر الملكي ,وقاعة العرش ,وأعالي الأبواب .
إضافة الى استخدام الممر الخارجي المكشوف , بحيث يسمع للمدافعين ضرب المهاجمين الذين يتمكنون من كسر خط الدفاع الأول . ولا يؤدي الجسر مباشرة إلى المدخل الرئيس , وإنما ينحرف بزاوية قائمة ليؤدي الى المدخل وضلعا الزاوية عبارة عن جدارين مجهزين بالسقاطات ,ومرامي السهام التي تسمح بالقضاء على العدو المهاجم , كما تمنعهم من استخدام الأداةالقديمة في تحطيم الأبواب »الكبش« ,وهذا النوع من المداخل يسمى المداخل المنكسرة »الباشورة« ,وهي المداخل التي يرجع فضل تصميمها الى العماريين العرب .
مداخل القلعة
في عام 1183م ضم السلطان صلاح الدين الأيوبي قلعة حلب الى الدولة العربية الموحدة ,وجعلها قاعدة لضرب الفرنج وولّى ابنه» الظاهر غازي« حاكماً عليها فوسع مملكته , ووطّد حكمه ,وانصرف كلياً الى تحصين القلاع وبنائها في جميع المنطقة الشمالية ,وقد تقدم فن التحصين العسكري في زمن الأيوبيين , فأنشأ للقلعة مدخلاً جديداً ,وحفر خندقاً عميقاً يملأ بالمياه بوساطة قنوات تصب فيه وأقام عليه جسراً تحمله ثمانية أقواس متفاوتة في الارتفاع ,وينتهي الجسر بباب حديد كبير وقد رصف سطح القلعة من أسفل السور حتى أسفل الخندق بقطع من الأحجار الملس يتعذر على المهاجم تسلق السطح ,ويصون تربته من الحت والتآكل بفعل الأمطار والعوامل الطبيعية فتمطره , مع الزمن ,وقد أنشأ أبواباً سرية ,وحفر الصهاريج لحفظ المياه ,وأضاف الى القصر أبنية جديدة ,وأنشأ فيها حماماً وحديقة وشيد حجرات للإدارة ,وأقام مسجداً جامعاً في عام 1210م , وله مئذنة شاهقة على شكل مربع , يمكن الاستفادة منها كمركز للمراقبة .
ومن القصور التي مازالت قائمة ، قصر يوسف الثاني حفيد غازي، مزين مدخله بمقرنصات جميلة، وأمامه ساحة مرصوفة بأحجار صغيرة ملونة ذات رسم هندسي بديع .
ونتجه من القصر إلى قاعة العرش، ندخلها من بوابة ذات أحجار ملونة، تعلوها مقرنصات، تحتها كتابة تاريخية. ولقد شيدت القاعة في العصر الأيوبي على برجين حول المدخل الخارجي، ثم أكملت ورممت في العصر المملوكي. ثم أضيف إليها في عام 1960 زخارف أثرية خشبية وحجرية . ومن أجمل نوافذ هذه القاعة، نافذة كبيرة ذات شباك مزخرف بصيغ عربية، ومن خلاله تُرى مدينة حلب مترامية الأطراف عند مدخل القلعة، ولقد زخرفت واجهات القاعة الخارجية، بزخارف هندسية حجرية وبأشرطة من الكتابات العربية من أبلغها "قل كلٌّ على شاكلته" .
وتحت قاعة العرش هذه، قاعة الدفاع، وتخترق جدرانها كُوى لرمي السهام، وفتحات لسكب السوائل المحرقة على المداهمين والمُحاصرين .
قلعة حلب ..شامخة رغم كل الغزوات التي تعرضت لها :
تعرضت قلعة حلب لغزو المغول بقيادة هولاكو سنة 658هـ/1260م، ولقد هَدَم كثيراً من معالمها، بعد أن وعد بحمايتها إذا ما استسلمت، وتحررت القلعة بعد انتصار العرب على المغول في موقعة عين جالوت. وقام الملك الأشرف قلاوون بترميم ما تهدم منها. ثم جاء تيمورلنك الأعرج سنة 803هـ/1400م، فهدم المدينة والقلعة، وقام المماليك بتحريرها وترميمها .
ثم استولى عليها العثمانيون سنة 923هـ/1516م وجاء إبراهيم باشا بن محمد علي باشا من مصر عام 1831، واستمرت خاضعة له حتى عام 1257هـ/1840م وفيها أنشأ الثكنة كما ذكرنا ، وجعل القلعة مقراً لجنوده .
ومنذ عام 1950 تجري في القلعة ترميمات وتجديدات من قبل المديرية العامة للآثار، كما أجريت فيها حفريات أثرية للتعرف على تاريخ هذه القلعة قبل الإسلام. وأحدث اكتشاف في قلعة حلب، جدار من معبد حدد إله الأمطار والأنواء، وكان معبود جميع شعوب المنطقة ويتألف الجدار من سبعة مشاهد تمثل الإله وكائنات أخرى خرافية بأسلوب فني متميّز .
أول من استعملها سيف الدولة الحمداني :
ولقد تبين أن الرابية كانت مقراً لمعابد حثيّة وآرامية ، واكتشفت آثار تؤكد ذلك محفوظة في متحف حلب . وفي العصر الإغريقي أصبحت الرابية اكروبول المدينة ، واستمرت كذلك حتى اقتحمها العرب المسلمون، وعلى رأسهم خالد بن الوليد، ويقال،تم ذلك بمحاولة عدد من الفدائيين العرب الذين تخفّوا بجلد الماعز، فبدوا قطيعاً يقضم العشب من سفح الرابية، وكان الروم في احتفال وسكر ونشوة، فقتل الفدائيون حامية البوابة، وفتحوا الأبواب بعد إشعال النيران علامة من المهاجمين الذين دخلوا القلعة، وأجلوا من فيها من جند وسكان. واستقر الحكم العربي الإسلامي منذ ذلك الوقت في حلب وقلعتها المنيعة التي صدت هجوم الروم والمغول والتتار ، وكان أول من استعملها سيف الدولة الحمداني ثم المرداسيون وبعدهم آل سنقر ثم رضوان بن تتش أصلح فيها ، ولكن الأيوبيين هم بناتها كما هي اليوم . أبراج وأسوار القلعة :
سور قلعة حلب إهليلجي الشكل، تتخلله أبراج بعضها مربع الشكل وبعضها دائري، ويرتفع السور اثني عشر متراً وهو من الحجر الضخم، والسور والأبراج كلها تعود إلى العصور العربية، بدءا من القرن الثاني عشر إلى السادس عشر الميلادي، تؤكد ذلك كتابات منقوشة عليه مازالت حتى اليوم ،وسور القلعة مزدوج في أكثر أقسامه، ولقد خرّب في مناسبات كثيرة، ومازال في كثير من أجزائه أنقاضاً تنتظر الترميم.
أما الأبراج فإن أبرزها هما برجا المدخل المرتفع وبرج المدخل السابق للجسر. وفي الجهة المقابلة إلى الجنوب برج ضخم ينهض على سفح جدار الخندق المكسو بالحجر، ولقد أنشأ هذا البرج الجميل الأمير المملوكي جكم ، ثم جدده السلطان قانصوه الغوري سنة 916هـ/1508م، كما هو منقوش عليه .
ويصل الصاعد إلى هذا البرج عن طريق درج ممتد على سفح جدار الخندق ويستمر حتى أسوار القلعة، حيث ينتهي بباب سري كان يستعمله الملك الظاهر غازي للخروج من القلعة إلى قصر العدل، وبعد الباب السري قاعة حمام أمامها ممر رصفت أرضه بأحجار على أشكال هندسية. ويؤدي الممر إلى ساحة يتوسطها حوض ماء ، ومازال على جدار الساحة من الشمال بقايا سلسبيل ، ومن الجنوب بقايا إيوان كبير ، وفي الشرق إيوان صغير ، وتكسو الأرض زخرفة حجرية ملونة مازالت بقاياها واضحة ، ويقابل البرج الجنوبي الضخم ، برج مماثل من جهة الشمال قام بتجديده وترميمه أيضاً، السلطان المملوكي الأخير قانصوه الغوري .
قلعة حلب نموذجاً للعمارة العسكرية
تعد قلعة حلب من كبرى قلاع العالم وأقدمها , وتقع وسط المدينة القديمة ,وعلى هضبة يصل ارتفاعها الى 40 متراً ,وتتميز بشكل إهليلجي , يحيط بها خندق كانوا يملؤونه بالماء في حالة الحروب والحضارات ويتم الدخول إليها عن طريق مدخل أمامي ذي برج بشرفات دفاعية , وكان هناك في السابق , قبل عهد الظاهر غازي , درج خشبي متحرك يربط بين المدخل الأمامي والخندق ,وهو قابل للرفع في حالات الحرب , ثم تحول إلى درج حجري ثابت .
ومن المؤكد أن مكان قلعة حلب الأساسي هو مرتفع طبيعي أضيف إليه ارتفاع اصطناعي , بحيث أخذ شكل التل العالي المرتفع في وسط المدينة» المركز« , وقد كشفت التنقيبات الأثرية عن وجود البقايا التي تعود الى العصر الحثي من خلال معبد الإله تيشوب ,ومن ثم معبد الإله حدد الآرامي , وغيره من المعابد التي بنيت في عهود لاحقة , كلها تؤكد وجود القلعة منذ الألف الثاني قبل الميلاد , أو على الأقل وجود المركز »الأكروبول« ,ولكن أقدم المنشآت الباقية إلى الآن تعود الى العصرين الأيوبي والمملوكي , وذلك من خلال الأبراج والأبواب التي شيدت في العصر الأيوبي والتي تم تجديدها في العصر المملوكي .