شهد التاريخ الإسلامي في القرون الوسطى عدة حروب خاضها المسلمون ضد الغزاة الذين جاؤوا من كل حدب وصوب إلى بلادهم في المشرق والمغرب طمعاً في ثرواتها الطبيعية الوفيرة، وسعياً دؤوباً منهم لبلوغ هدفهم القديم لاحتلالها والسيطرة على موقعها الفريد ذي الأهمية البالغة على خريطة العالم•
وكان المسلمون في كل تلك الحروب يدافعون عن أنفسهم ودينهم الحنيف وحريتهم، وحماية لأوطانهم وحضارتهم من أولئك الغزاة ؛ مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين" (البقرة : 190)وغالباً ما كانت تلك الحروب تحسم بمعارك فاصلة بين المسلمين والغزاة، كتب للمسلمين فيها النصر المبين ؛ تحقيقاً لوعد الله لهم في قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصيرهم لقدير"(الحج : 39).
وقوله عز وجل:" إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد"(غافر 51) .
وأصبحت تلك المعارك تمثل صفحات مضيئة من التاريخ الإسلامي، لكي تستفيد الأجيال من تجاربها القاسية، ونستخلص منها الدروس التي تبين عوامل النصر وأسباب الهزيمة•
وعرفت تلك المعارك بأسماء المواقع الجغرافية التي دارت على أرضها ، وأشهرها موقعة الزلاقة في الأندلس، وموقعتا حطين وعين جالوت على أرض فلسطين•
1 ـ موقعة الزلاقة في الأندلس (479هـ- 1086م)
عندما أخذ الوجود الاسلامي يضعف في شبه جزيرة الأندلس بسبب التفكك الذي أصابه بعد زوال الوحدة والقوة اللتين سادتا البلاد في ظل الدولة الأموية التي أسسها عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش، وبقيت زهاء ثلاثة قرون (138هـ- 422هـ، 755-1031م) ولكنها انقسمت إلى ممالك وإمارات على رأس كل منها ملك أو سلطان أو أمير•
ودب الخلاف والتنافس بين هؤلاء ، وغالباً ما كان ينشب بينهم الصراع وتقوم الحروب ، بل وصل العداء بينهم إلى الحد الذي دفع بعضهم إلى الاستعانة بالأعداء ضد إخوته وأبناء وطنة (1)، وعم الخوف والهلع بين سكان الأندلس بسبب الاضطرابات والحروب بين حكامها، مما شجع أعداءهم إلى غزوهم فاستطاعوا أن يستولوا على أراض واسعة ومدن زاهرة ، أهمها مدينة طليطلة التي كانت تقع وسط الأندلس، عبر عن ذلك شاعرهم عندما قال:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ** فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ** ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
لم يكن في قدرة دول الطوائف الدفاع عن البلاد وحمايتها من غزوات الأسبان الذين تحالفوا مع الفرنجة من الإيطاليين والفرنسيين ؛ لذلك اتجهوا إلى طلب العون والنجدة من القائد الفذ مؤسس دولة المرابطين في المغرب يوسف بن تاشفين الذي استجاب لطلبهم ولبى النداء ، وقرر نجدة الأندلس وأهلها في ذلك الوقت الذي كانت فيه تهددها الأخطار من كل جانب•
وكان رجلاً مؤمناً تقياً مطيعاً لأمر الله في قوله جل شأنه: " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير" (الأنفال( 72:.
وبدأت قوات المرابطين الاستعداد للموقعة التاريخية ، وتتابع وصولها من جميع أنحاء المغرب إلى مضيق جبل طارق ، وعبرت إلى الأندلس وعلى رأسها قائدها يوسف بن تاشفين الذي كان عمره أنذاك ثمانين عاماً•
وعندما علم الفونسو السادس ملك قشتالة بعبور ابن تاشفين وجيوشه إلى الأندلس أرسل يستنجد بحلفائه من ملوك أوروبا ، وتتابعت لنجدته الجيوش من إيطاليا وفرنسا وغيرها ، وقبل القتال بعث إليه يوسف بن تاشفين يدعوه إلى الإسلام والكف عن الاعتداء على المسلمين وديارهم ، وإلا فإنها الحرب ، فأجابه الفونسو بكتاب غليظ فيه تهديد ووعيد ، وأنذره بأوخم العواقب ، ولكن يوسف بن تاشفين رد عليه بكلمات فقط قال فيها:" الذي يكون ستراه" .
وتأهب الفريقان للقتال في مكان يعرف بالزلاقة في وسط الأندلس ، وقبل نشوب القتال حاول الفونسو أن يخدع المسلمين في تحديد يوم المعركة ، فأرسل إليهم رسالة قال فيها:" إن غداً يوم الجمعة وهو عيدكم ، وبعده السبت يوم اليهود ، وهم كثير في محلتنا ، وبعده الأحد وهو عيدنا ، فيكون اللقاء يوم الإثنين " .
وعقد يوسف بن تاشفين مجلس المشورة الذي يضم كبار القوات والعلماء وأهل الرأي ، وعرض عليهم الرسالة ، فأجمعوا على أنها خدعة ، وأن الهجوم سيكون فجر الجمعة على معسكرهم من الأعداء ، واتفقوا على إرسال السرايا لاستطلاع الأخبار عند العدو ، وتأكد لهم صدق ما قالوا ، وأعلنوا الاستعداد في تلك الليلة ، وهذا أحد أبرز وأهم مظاهر اليقظة والحس الاستراتيجي لديهم الذي جعلهم يكونون على أهبة للقاء العدو عند بدء الهجوم ؛ إيماناً بقوله سبحانه وتعالى:
" يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً"(النساء 71) .
ودارت المعركة التاريخية صباح يوم الجمعة 12 رجب سنة 479هـ 23 تشرين أول، أكتوبر سنة 1086م واشتد القتال بين الفريقين واندحر المسلمون عن مواقعهم في بداية القتال ، ثم تقدم يوسف بن تاشفين بقوات الاحتياط التي ادخرها لهذه اللحظة ، وهم من فرسان المرابطين وحرسه الخاص من الأفارقة ، ولم يتجه إلى صفوف الأعداء مباشرة بل دار خلف خطوطهم ، واقتحم معسكرهم ومركز تموينهم مباشرة ، واستطاع أن يهزم ألفونسو وجيوش أوروبا ، ويستولى على معسكرهم ، وفر ذلك الملك وهو مجروح ، ونجا من الموت بصعوبة •
وسلمت الأندلس لأهلها ، واستمرت الحضارة الإسلامية فيها بعد هذه الموقعة قرابة خمسة قرون(2) .
لقد أحرز المسلمون النصر في هذه المعركة الفاصلة التي تماثل معركة حطين في المشرق العربي بفضل الوحدة والإيمان بنصر الله لهم ، والثقة بالنفس ، ونبذ الخلافات وتقديم المصلحة العليا على المصالح الخاصة ، وصدق وعد الله لهم في قوله تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" (محمد : 7 )
وقد صف الشاعر الأندلسي أبو طالب بن عبد الجبار ذلك النصر فقال:
فإذا أراد الله نصر الدين **استصرخ الناس ابن تاشفين
وواصل السير إلى الزلاقة **وساقة يومها ما ساقه
لله در مثلها من وقعة ** قامت بنصر الدين يوم الجمعة (3 (