عماد الدين زنكي
عماد الدين زنگي ([477هـ = 1084م] - 6 ربيع الآخرة 541 هـ = 15 سبتمبر 1146م)
في خضم الاجتياح الصليبي للمشرق الإسلامي كان المسلمون يتطلعون إلى قائد قوي وزعيم مخلص يلم شعثهم، ويجمع شتاتهم، ويوحد جهودهم، ويسير بهم نحو غايتهم المنشودة وهدفهم الأسمى في طريق الجهاد والتحرير.
أسرة عماد الدين
وُلد "عماد الدين زنكي بن آق سنقر بن عبد الله آل ترغان" نحو سنة 477 هـ = 1084م في أسرة تنتمي إلى قبائل "الساب يو" التركمانية، وكان والده "آق سنقر الحاجب" مملوكًا للسلطان السلجوقي "ملكشاه"، وكان مقربًا إليه، ذا حظوة ومكانة لديه، وقد اعتمد عليه في كثير من الأمور فلم يخذله قط، وهو ما جعله ينال ثقته ورضاه، وزاد من منزلته عنده، ورفع من قدره لديه.
واشترك "آق سنقر" في كثير من معارك السلاجقة؛ فولاه السلطان "ملكشاه" ولاية "حلب"، واستطاع "آق سنقر" – خلال تلك الفترة - أن ينشر الأمن في البلاد، ويوقف أعمال السلب والنهب التي انتشرت في ذلك الوقت، وألحقت ضررًا بالغًا بالزراعة والتجارة، بعد أن تصدى لنشاط قطاع الطرق واللصوص، وكتب إلى عماله يأمرهم بتتبع المفسدين وتوفير الأمن والحماية للمسافرين.
وكانت العلاقة بين السلطان "ملكشاه" وبين "آق سنقر" تقوم على التفاهم المشترك والتقدير المتبادل بينهما.
فلما توفى "ملكشاه" عام [485هـ = 1096م]، تولى الحكم من بعده ابنه "بريكا روق"، فثار عليه عمه "تاج الدين تتش"، وتصدى له "آق سنقر" بجيوشه، ولكن "تتش" تمكن من هزيمة قواته في [جمادي الأولى 487 هـ = مايو 1094م] وأسره، وما لبث أن قتله.
وهكذا بذل "آق سنقر" حياته وفاءً لسلطانه "ملكشاه"، وحفاظًا على ولده "بركيا روق" من بعده.
تضحية ووفاء
ولم ينس السلطان الجديد تضحية "آق سنقر" في سبيل عرشه ووفاءه له، فوجه جل اهتمامه وعنايته نحو ابنه الوحيد "عماد الدين زنكي" الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره.
وأقام "عماد الدين" في "حلب" في رعاية مماليك أبيه، ثم ما لبث أن انتقل عام [489هـ = 1096م] إلى "الموصل" ليحظى برعاية القائد السلجوقي "كربوقا"، فظل ملازمًا له حتى تُوفِّي سنة [495هـ = 1101م]، فخلفه عليها "شمس الدين جكرمش" الذي قرّ به وأحبه واتخذه ولدًا، وظل "عماد الدين" ملازمًا له حتى تُوفِّي سنة [[[500 هـ]] = 1106م]، فتولى "الموصل" من بعده "جاولي سقاو"، وتوطدت علاقة "عماد الدين" بالوالي الجديد، حتى خرج ذلك الوالي على السلطان، فانفصل "عماد الدين" عنه، وانضم إلى الوالي الجديد "مودودو به التونتكين" الذي عينه السلطان على الموصل، وكان ذلك مدعاة إلى إكبار السلطان له، وثقته فيه، وزيادة حظوته ومكانته عنده.
بطل وبطولات
واشترك "عماد الدين" مع "مودود" في معاركه الكثيرة التي خاضها ضد الصليبيين في "الشام" و"الجزيرة"، وقد لفت إليه الأنظار بشجاعته الفائقة ومهارته القتالية العالية.
وعندما تولى السلطان السلجوقي "محمود" - بعد وفاة السلطان "محمد" سنة [511هـ = 1117م) - حدثت عدة محاولات للثورة ضده، ولكن "عماد الدين" ظل على ولائه للسلطان، فاستطاع أن يحظى بثقته فيه وتقديره له، كما أثبت جدارته في ولايته الجديدة بواسط، وتمكن من صد هجمات الأعراب الدائمة عليها، ونشر الأمن في ربوعها.
ومع مطلع عام [517هـ = 1123م] استطاع السلاجقة – بفضل الخطة البارعة التي اتبعها "عماد الدين" – أن يلحقوا هزيمة ساحقة بجيوش "دبيس" الخارج على الخليفة العباسي، وخلّصوا الخلافة من خطر محقق كاد يعصف بها، فانضم "دبيس" إلى الصليبيين بعد هزيمته، وساهم معهم في حصار "حلب" طمعًا في الاستيلاء عليها.
الهروب إلى تكريت
وعندما تدهورت العلاقات بين الخليفة العباسي المسترشد والسلطان السلجوقي "محمود" في عام [[[519 هـ]] = 1125م] كان لعماد الدين دور كبير في إنهاء الصراع بينهما، وتجاوز الأزمة بأمان قبل أن يتفاقم الموقف، وتحدث مواجهة وخيمة العواقب بين الطرفين.
وعندما تُوفّي السلطان "محمود" في منتصف عام [525هـ = 1131م] أراد السلطان "مسعود بن محمد" – حاكم "أذربيجان" – الاستيلاء على عرش السلاجقة في العراق، واستطاع استمالة "عماد الدين" لمساعدته في المطالبة به، ولكن أخاه "سلجوقشاه" الطامح أيضًا في العرش سبقه إلى الخليفة العباسي ليحظى بموافقته، ودارت معركة بين الطرفين انتهت بهزيمة "عماد الدين"، وأسر عدد كبير من قواته، وهو ما اضطره إلى اللجوء إلى "تكريت"؛ حيث أحسن واليها "نجم الدين أيوب" استقباله وأكرم وفادته، وساعده حتى تمكن من إعادة تنظيم قواته.
عماد الدين والسلطان مسعود
واستطاع "مسعود" أن يصبح سلطانًا على السلاجقة في العراق وبلاد فارس، بعد أن قضى على منافسيه، ورفض "عماد الدين" الخضوع للسلطان الجديد، فساءت العلاقة بينهما، وفي الوقت نفسه دخل "عماد الدين" في صراع آخر مع الخليفة العباسي، الذي خرج إليه على رأس ثلاثين ألف مقاتل، وحاصره نحو ثمانين يومًا، ولكن "عماد الدين" استطاع الصمود والمقاومة حتى عرض عليه الخليفة "المسترشد" الصلح في مطلع عام [528هـ = 1133م]، فوافق "عماد الدين" دون تردد.
ثم ما لبثت أن تحسنت العلاقات بين السلطان "مسعود" و"عماد الدين زنكي"، وإن ظل السلطان غير مطمئن لِمَا كان يتمتع به "عماد الدين" من استقلال، وما يمتلكه من نفوذ ظل يتسع على مر الأيام.
العالم الإسلامي والحرب الصليبية الأولى
استطاع الصليبيون- بعد حملتهم الصليبية الأولى- أن يستولوا على جزء كبير من بلاد الشام والجزيرة خلال الفترة من [489هـ = 1069م] إلى [498هـ = 1105م]، وأنشئوا فيها إماراتهم الصليبية الأربع: الرها، وإنطاكية، وطرابلس، وبيت المقدس.
وأصبح الوجود الصليبي في المشرق الإسلامي يشكل خطرًا بالغًا على بقية بلاد المسلمين، خاصة أن العالم الإسلامي- في ذلك الوقت- كان يعاني حالة من الفوضى والتشتت والضياع، بسبب تنازع الحكام والولاة، والخلاف الدائم بين العباسيين والفاطميين من جهة، وبين الخلافة العباسية التي بدأ الضعف يدب إليها ومحاولات التمرد والاستقلال عنها التي راحت تتزايد يومًا بعد يوم من جهة أخرى.
وسعى الصليبيون إلى بسط نفوذهم وإحكام سيطرتهم على المزيد من البلاد إليهم، وإنشاء إمارات صليبية جديدة؛ لتكون شوكة في ظهر العالم الإسلامي، تمهيدًا للقضاء التام عليه