تونس.. النضال حتى الاستقلال
(في ذكرى استقلالها: 8 شعبان 1375هـ
علم تونس
كان الاستعمار الأوروبي ينظر إلى العالم العربي والإسلامي على أنه أسلاب معركة، وغنائم حرب تقتسم الدول الكبرى منه ما يحقق مصالحها، ويوسع نفوذها وسيطرتها، وكانت فرنسا الاستعمارية ترى في الشمال الأفريقي مكانًا ملائمًا لتحقيق أطماعها؛ لذا سعت للسيطرة عليه واحتلاله. وكانت تونس ممن وقع ضحية لهذا الاستعمار؛ إذ وقعت فرنسا مع باي حاكم تونس معاهدة "باردو" سنة 1298هـ = 1881م التي أعطت فرنسا حق الإشراف المالي والخارجي والعسكري في تونس، وحق تعيين مفوّض فرنسي في مدينة تونس، وتوالى التدخل الفرنسي في شؤون البلاد، وانتهى بفرض الحماية الفرنسية على تونس بعد معاهدة "المرسي" سنة (1300 هـ = 1883م).
واشتدت فرنسا في القضاء على حركة المقاومة التونسية حتى ضعفت حركة الجهاد، وبدأت حركة استيطان فرنسية في تونس، وتمتع هؤلاء المستوطنون الفرنسيون بالنصيب الوافر من ثروات البلاد وخيراتها.
بوادر الحركة الوطنية
أدت سياسات الحماية الفرنسية في تجنيس اليهود في تونس إلى تأسيس حزب تونس الفتاة سنة (1325 هـ = 1908م)، وبرزت شخصية عبد العزيز الثعالبي على الساحة السياسية الوطنية، غير أن الفرنسيين حلوا هذا الحزب سنة (1329 هـ = 1911م)، وألقوا القبض على قادته. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أطلقت بعض الحريات بعدما وقف ثمانون ألف مقاتل تونسي بجانب فرنسا في حربها، وانطلق وفد تونسي برئاسة الثعالبي إلى باريس لعرض قضية بلاده على مؤتمر الصلح، إلا أن الحلفاء المنتصرين لم يستمعوا إلى آمال الشعوب المستعمرة، فاتجه الثعالبي إلى الرأي العام العالمي، وأصدر كتاب "تونس الشهيدة"، منددًا فيه بالاستعمار الفرنسي، وقرأ التونسيون هذا الكتاب، والتقوا جميعًا على فكرة المطالبة بالدستور، وتقدموا بطلبهم إلى الباي الذي وعدهم بإجابة مطالبهم، وإزاء هذا الوعد تكون الحزب الحر الدستوري.
الحزب الحر الدستوري
نشأ الحزب الحر الدستوري مطالبًا بمنح تونس نظامًا دستوريًا، وعارض الثعالبي خطة الحزب وهدفه؛ لأنه كان يتمسك بفكرة الاستقلال التام، إلا أنه اعتبر هدف الحزب خطوة أولى نحو هذا الاستقلال، وعلى هذا الأساس تعاون معهم، بل ترأس هذا الحزب مدة من الزمن، وكانت عواطفه نحو الاستقلال التام سببًا دائمًا في المشكلات بينه وبين بعض أعضاء الحزب من الشباب، الذين تربوا في المدارس الفرنسية، ويرون البدء بالإصلاحات الداخلية، ومنها إنشاء مجلس تشريعي يشترك فيه الأوروبيون والتونسيون، وقيام حكومة مسؤولة أمام المجلس التشريعي؛ فاضطر الثعالبي إلى العمل بصفته الشخصية، وسافر إلى باريس غير أنه اعتُقل بتهمة التآمر على سلامة الدولة الفرنسية، ثم أُفرج عنه.
وقد أظهر الباي محمد الناصر تعاطفه مع الحزب، وخشيت فرنسا من التقارب بين الناصر والثعالبي، خاصة بعد المظاهرات التي خرجت يوم وصول رئيس الجمهورية الفرنسية "ألكسندر ميلران" إلى تونس الذي صرح بأن "تونس" ستظل مرتبطة بفرنسا إلى الأبد؛ فشَنَّ الدستوريون والباي حملة عنيفة على هذا التصريح، وهدد الباي بالتنازل عن العرش إذا رفضت طلباته الإصلاحية، فعمَّت المظاهرات العاصمة، إلا أن موت الباي المفاجئ والمُريب جعل أزمة العرش مع فرنسا تمر دون شيء؛ إذ تولى الحكم أحد البايات الموالين لفرنسا، وهو محمد حبيب سنة (1340 هـ = 1922م).
وسافر وفد تونسي إلى باريس لعرض مطالبه، لكن الأبواب سُدَّت في وجهه؛ فالتونسيون كانوا يتقدمون بمطالب متواضعة؛ ظنًا منهم أنهم سيحصلون عليها، إلا أن الواقع كان يشهد بأن فرنسا لم تكن تستمع لهم، فكانوا يطالبون بأن يتساووا مع المستعمرين الفرنسيين، وأن يشاركوا في الحكم، على خلاف ما كان يطالب به الثعالبي؛ وهو الاستقلال.
الإصلاحات الجديدة
وعندما تولى لوسيان منصب المقيم العام الفرنسي في تونس وافق على بعض مطالب أعيان تونس؛ فألغى حالة الطوارئ، وسمح لأكثر من عشرين صحيفة بالصدور، وشهر الحزب الدستوري برئاسة الثعالبي، وبدأت فرنسا في إحداث تغييرات إدارية في تونس، ومنها إنشاء المجلس الكبير الذي يُمثَّل فيه الفرنسيون بضعف عدد الأعضاء التونسيين، والقوانين الجديدة في الجنسية؛ حيث فتح باب التجنس بالجنسية للمواطنين التونسيين، وهو قانون انتفع به اليهود، ولم يقبل الحزب الدستوري هذه الإصلاحات المبتورة، وقاوم المسلمون هذه الإصلاحات الشكلية اجتماعيًا وعقائديًا؛ فقاطعوا كل مسلم طلب الجنسية الفرنسية؛ لذا لم يزد من قبلوا التجنس بالفرنسية عن ألفيْ شخص.
فبدأ لوسيان في محاربة الوطنيين، وأصاب الركود الحزب الدستوري لمدة امتدت تسع سنوات، والتجأ رئيسه الثعالبي إلى الخارج، إلا أن الحياة عادت إلى هذا الحزب بسبب بعض رعونة التصرفات الفرنسية؛ حيث أقيم تمثال عام (1344 هـ = 1925م) في العاصمة التونسية لـ"أسقف لافجري" المبشر الشهير، كذلك تم تخصيص حوالي مليوني جنيه من الميزانية التونسية لمجمع كنسي وصفه أحد الأساقفة بأنه سيكون مظهرًا للصليبية الجديدة المسالمة.
الحبيب بورقيبة والحزب الجديد
الحبيب بورقيبة
أدت هذه الأحداث إلى اتحاد الشباب التونسي المثقف معًا، وإعادة إصدار جريدة "صوت التونسي"، وجريدة "صوت العمل"، وبرزت في تلك الفترة شخصية الشاب "الحبيب بورقيبة"، صاحب الاتجاه الجديد المطالب بالإصلاحات الداخلية؛ مثل فصل السلطات، وإقامة مجلس نيابي، وظهر هذا الاتجاه جليًا في مؤتمر الحزب الدستوري سنة (1352 هـ = 1933م)، وكانت تلك بداية الانقسام في الحزب الدستوري، وتأسيس حزب جديد يحمل اسم "الحزب الدستوري الجديد" برئاسة محمد الماطري، والحبيب بورقيبة سنة (1353 هـ = 1934م)، ونجحت فرنسا في إثارة الفرقة بين الدستوريين القدامى والجدد.
وقد اقترنت فكرة التحرير السياسي عند بورقيبة وحزبه الجديد بفكرة التقدم الاجتماعي؛ لذلك كان مستعدًا لإدماج الفرنسيين والتونسيين في بيئة ديمقراطية واحدة، وإمكان التعاون مع فرنسا، بل إنه ذهب إلى القول بأن وضع تونس الجغرافي يحتم عليها التعاون مع فرنسا.
واتجه الحزب الجديد إلى الطبقة العاملة، وأصبحت الحركة النقابية العمالية جزءًا من تاريخه؛ فاعتقلت فرنسا بعض قياداته لمدة عام ونصف، ثم أطلقت سراحهم، وسُمح للحبيب بورقيبة بالسفر إلى باريس للتفاوض؛ حيث اقترح الفرنسيون فكرة السيادة المزدوجة، وهذا المبدأ يجعل للمستوطنين الفرنسيين حقًا ثابتًا في الاشتراك في إدارة البلاد.
وقد تزامن في ذلك الوقت عودة الثعالبي إلى تونس (1356هـ = 1937م) وإضراب العمال التونسيين، فأحس شبان الحزب الدستوري الجديد بأن زعامتهم مهددة، فعمدوا إلى تغيير سياسة الحزب، وأيدوا الإضرابات العمالية، وسعوا لقيادتها، وبدأت تتأكد زعامة بورقيبة بعدما اعتُقل مع ثلاثة آلاف شاب من الحزب، وصدر مرسوم بحله وحظر نشاطه؛ بسبب اشتعال الحرب العالمية الثانية.
الحرب العالمية الثانية
كانت تونس مسرحًا للعمليات الحربية بين المحور والحلفاء لمدة سبعة أشهر، وعاشت فترة في ظلال السيطرة الألمانية، وتولى الباي محمد المنصف الحكم في تونس في منتصف 1361 هـ = 1942م، وتلقى الباي عرضا من الألمان بالتعاون معهم نظير إسقاط الحماية، وعرض عليه الحلفاء الانضمام إليهم، إلا أن الباي رأى الاستفادة من تلك المساومات المؤقتة لتقوية مركزه؛ فاختار حكومة وطنية دون استشارة المقيم الفرنسي، وأشرك الحزبين الدستوري والجديد فيها، فعزل الفرنسيون الباي بعد القبض عليه، ثم أُلقي القبض على بورقيبة، إلا أنه استطاع الفرار من معتقله والسفر إلى القاهرة على أمل أن تعاونه الدول العربية في تحرير بلاده.
وانضم بورقيبة في القاهرة إلى لجنة "المغرب العربي"، التي يرأسها المجاهد الكبير الأمير عبد الكريم الخطابي، وأحدث ذلك تحولا هاما في اتجاه الحزب الدستوري الجديد نحو التضامن العربي. أما في تونس فتولى قيادة الحزب نيابة عن بورقيبة "صالح بن يوسف" الذي عقد مؤتمرا سنة 1366 هـ = 1946م أصدر ميثاقًا وطنيًا أعلن فيه سقوط نظام الحماية، وأكد صفة تونس العربية؛ فهاجمت فرنسا المؤتمر، وقبضت على زعمائه، ونكلت بالوطنيين.
أما الفترة التي قضاها "بورقيبة" في القاهرة، فقد كانت الجامعة العربية والعرب مشغولين بقضية فلسطين، ولم يجد اهتماما بقضية تونس، فاتجه إلى فرنسا، وأجرى محادثات غير رسمية مع الفرنسيين، وأظهر استعدادًا لعقد معاهدة مع فرنسا تضمن لها امتيازات إستراتيجية واقتصادية في تونس، إلا أن باريس رفضت مفاوضته على أساس عدم اعترافها بشرعية الحزب الدستوري الجديد.