حادثة دنشواي
فى عام 1906 صدرت أوامر الحكومة فى مصر لعمد بعض البلاد بمساعدة فرقة تابعة لـالإستعمار البريطانى آنذاك مكونة من خمسة جنود ممن كانوا يرغبون فى صيد الحمام ببلدة (دنشواى) المشهورة بكثرة حمامها كما أعتادوا، ولسوء الحظ كان الحمام عند أجران الغلال يلتقط الحب ولم يكن منتشرا على السكة الزراعية بعيدا عن مساكن الأهالى.
وما يأُخذ من مجموع أقوال متعددة المصادر أن مؤذن البلدة جاء يصيح بهم كى لا يحترق التبن فى جرنه، ولكن أحد الضباط لم يفهم منه ما يقول وأطلق عياره فأخطاء الهدف وأصاب زوجة شقيق ذلك الرجل. وأشتعلت النار فى التبن، فهجم الرجل على الضابط وأخذ يجذب البندقية وهو يستغيث بأهل البلد صارخا ’الخواجه قتل المرأة وحرق الجرن، الخواجه قتل المرأة وحرق الجرن‘ فأقبل الأطفال والنسوة والرجال صائحين ’قتلت المرأة وحرقت الجرن، فهرع بقية الضباط الإنجليز لإنقاذ صاحبهم. وفى هذا الوقت وصل الخفراء للنجدة كما قضت أوامرهم، فتوهم الضباط على النقيض بأنهم سيفتك بهم فاطلقوا عليهم الأعيرة النارية وأصابوا بعضهم فصاح الجمع ’قتل شيخ الخفر‘ وحملوا على الضباط بالطوب والعصى فقبض عليهم الخفراء وأخذوا منهم الأسلحة إلا إثنان منهم وهم كابتن الفرقة وطبيبها أخذا يعدوان تاركان ميدان الواقعة وقطعا نحو ثمانية كيلومترات فى الحر الشديد حتى وصلوا إلى بلدة (سرسنا) فوقع الكابتن مطروحا على الأرض -ومات بعد ذلك- فتركه الطبيب وأخذ يعدو حتى وصل إلى المعسكر وصاح بالعساكر فركضوا حتى الكابتن فوجدوه وحوله بعض الأهالى، فلما رأوهم الأهالى فروا فاقتفوا العساكر أثرهم وقبضوا عليهم إلا أحدهم هرب قبل أن يشد وثاقه واختبأ فى فجوة طاحونة تحت الأرض فقتله الإنجليز شر قتلة.
الإنجليز ضلوا الحمام وصادوا الناس فى دنشواي
ضربة شمس قتلت ضابط فشنقوا 4 فلاحين وسجنوا 12 وجلدوا 8 تنفيذ الشنق علنا أمام الفلاحين وجلد اثنين بعد كل عملية إعدام وقعت هذه الواقعة قبل مائة عام، أى جرت فى 1906، واحتلت منذ ذلك الوقت مكانها فى سجلات التاريخ، وهذا لا يعنى أنها حدثت والسلام، ولم تتكرر. بالعكس إن أصدائها وفصولا مماثلة لاتزال تجرى فوق أراضنا العربية، فوق أرض فلسطين والعراق، ومن يدرى فقد تلحق بها أراض عربية أخري، ودون أن نردد القول المعروف: ما أشبه الليلة بالبارحة، ما علينا إلا أن نعود لواقعة البارحة، واقعة 1906 فى إحدى قرى مصر وفى ذهننا ما جرى أخيرا من اقتحام قوات العدو الإسرائيلى لسجن أريحا، واختطاف السجناء منه، وعلى رأسهم أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كان هذا فى يوم الثلاثاء 14 مارس 2006. ورعد 4 أيام من ذلك، أى فى الثامن عشر من الشهر نفسه، تكررت الواقعة لكن فى العراق، حيث قتلت قوات الاحتلال الأمريكية عائلة مواطن عراقى فى قرية الإسحاقى القريبة من مدينة سامراء. إذن دنشواى مجرد واقعة فى سجل الفظائع الاستعمارية، وستظل تتكرر إلى أن يلفظ الاستعمار آخر أنفاسه ويسحب آخر أذياله من فوق الكرة الأرضية. ولما كان الحديث يدور حول مئوية تمتد من 1906 إلى 2006 فقد كانت التغطية الصحفية لمثل هذا الحدث تتطلب رسم صورة لمكان الحدث ما بين أمس واليوم، وعقد العزم على الذهاب إلى دنشواى خاصة أنها تقع فى منطقة طالما تردد عليها كثيرون من ستينيات القرن الماضى لزيارة قرية كمشين التى شهدت فصلا دراميا من الصراع بين الفلاحين وبقايا الإقطاع، سقط فيه صلاح حسين شهيدا، والمنطقة نفسها تضم قرية كفر المصيلحة وهى قرية الرئيس حسنى مبارك، كما تضم ميت أبوالكوم قرية الرئيس أنورالسادات، وفى دنشواى أقيم متحف تخليد ذكرى الجريمة البشعة التى ارتكبتها قوات الاحتلال البريطاني، فكيف كانت هذه القرية عندئذ، وكيف أصبحت اليوم؟، ويبدو أنها صورة ماثلة لجميع قرى مصر فى أوائل القرن العشرين، من حيث التخلف وقلة عدد المتعلمين وضعف الخدمات وافتقاد الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، وإن كانت دنشواى قد تميزت بخصوبة أرضها، وبفناها ب طائر الحمام الذى تنتشر فيها أبراج خاصة لتربيته. و نذكر أن الرافعي حدد نتائج حادثة دنشواى كالتالي: نمو الروح الوطنية. اهتمام الصحف الأجنبية بالمسألة المصرية. تغيير سياسة الاحتلال. تأسيس الجامعة المصرية. تعيين سعد زغلول وزيرا للمعارف. إقالة اللورد كرومر. ومرة أخري، نبدأ من الآخر، ونتحدث عن كرومر الذى استمر معتمدا بريطانيا فى مصر أو مندوبا ساميا لمدة 24 سنة، وفى عهده، كانت إنجلترا تظن نفسها محسنة إلى الفلاح المصرى المضطهد، وقد ردد صدى هذا فيما بعد حزب يسمى حزب الأمة حين قال: نظل الإنجليز هذا فيما بعد حزب يسمى حزب الأمة حين قال: نظلم الإنجليز إذا لم نعترف بالتحسين المادى والإدارى الذى وصل إلى مصر فى عهد الاحتلال ولكن السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والأولى من القرن العشرين بدأت تشهد نزاعات وتيارات جديدة فى الحركة الوطنية المصرية، ومنذ ذلك الوقت تلازم مطلبا الجلاد والدستور، وفى 1900 كتب مصطفى كامل 1874 - 1908 أن هذه البلاد فى حاجة إلى مجلس نيابى تكون له السلطة التشريعية الكبري، فلا يسن قانون بغير إرادته.. إن بقاء السلطة المطلقة فى يد رجل واحد سواء كان مصريا أو أجنبيا يضر بالبلاد ويجر عليها الوبال!!. والأجنبى الذى يعنيه مصطفى كامل هنا هو كرومر الذى عين أول معتمد بريطانى فى مصر فى 11 سبتمبر 1883، وتمتع بسلطات جعلته بمثابة نائب الملك ملك إنجلترا فى مستعمرة، هى مصر التى ظلت تحت سيطرته 24 عاما أمسك خلالها بكل صغيرة وكبيرة فى البلاد، وكان يعرف بين الناس بأنه الخديو غير المتوج وقيصر قصر الدوبارة، بيده الفصل فى جميع دوائر الحكومة. باختصار كان اللورد هو واضع أسس وقواعد السيطرة البريطانية على مصر فى مختلف المجالات، وظن أن الأمور دانت للممثلين، وأن الشعب المصرى راض بالاحتلال!!. وجاءت حادثة دنشواي، والبشاعة التى رأها الشعب عرفها العالم، لتكشف أوهام كرومر، تؤذن برحيله عن مصر، وتتلخص وقائع الظلمة فى أن خمسة من ضباط الاحتلال البريطانى ذهبوا ليصطادون الحمام فى دنشواى وهى مشهورة كما سبق القول بكثرة حمامها. وبدأوا بإطلاق نيران أسلحتهم، ولم يستمعوا لنصائح الناصحين التى ذهبت أدراج الرياح، لكن رصاصة أصابت زوج مؤذن القرية، كما أدت أخرى إلى إشعال النيران فى جرن القمح، إذ كان الوقت موسم الحصار، أثار هذا غضب الفلاحين، الذين تجمعوا وطاردوا الضباط الخمسة وهم يصيحون: الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن، الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن. وهذا منظر معتاد إلى اليوم فى أى قرية مصرية يطرق بابها غريب يعتدى على أحد من أبنائها، أو على مرفق من مرافقها، عندئذ تهب القرية كبيرها وصغيرها، وتطارد المعتدي، وتحاول القصاص منه، وفعلا حمل أهل دنشواى على الضابط الإنجليزى بالطوب والعصي، وأصيب أحد الضباط بكسر فى ذراعه، بينما أصيب آخر بجراح فى رأسه، وأخذ يعدو فى ظل شمس شديدة الحرارة، فقد كان هذا فى يوم الأربعاء 13 يونيو، وكانت درجة الحرارة حوالى 42 ولحقت بالمصاب ضربة شمس أودت بحياته. كتيبة هؤلاء الضباط كانت فى طريقها من القاهرة إلى الإسكندرية، وكان جنودها لايزالون عند قرية كمشين فلما تلقوا النبأ، خفوا إلى مكان الحادث، وفى طريقهم وجدوا ضابطهم ملقى على الثرى ورأوا فلاحا مصريا يدعى سيد أحمد سعيد، يقدم إليه كوب ماء فظنوه من الضاربين فأخذوا يصطدونه ببنادقهم إلى أن لقى حتفه، ويقول الرافعى عنه: ذهب دمه هدرا، ولم يحاكم أحدا من قتله. وقد عرف هذا القتيل بشهيد سرسفا وهذا اسم القرية التى وجدوها عندها. ثار الاحتلال وزمجر، وبدأ إلقاء القبض على أبناء القرية جزافا ودون تحقيق، بل إن المشانق نصبت قبل أن تعقد المحاكمة! وقبل أن ينقضى أسبوع على الحادثة، وفى 20 يونيو أصدر بطرس باشا غالى وزير الحقانية العدل بالنيابة قرارا بتشكيل محكمة مخصوصة لمحاكمة 59 متهما، برئاسة غالى نفسه، وعضوية أحمد فتحى بك زغلول باشا وثلاثة من القضاة الإنجليز، وتولى إبراهيم الهلباوى القيام بدور المدعي، وظلت لعنة دنشواى تطارد هؤلاء المصريين الثلاثة، خاصة أن أحكامها كانت قاسية ومشددة، وصدرت فى 27 يونيو، وقضت بما يلي: الإعدام شنقا وفى دنشواى نفسها لأربعة هم: حسن على محفوظ شيخ طاعن فى السن بلغ الخامسة والسبعين ويوسف حسن سليم، والسيد عيسى سالم ومحمد درويش زهران. الأشغال الشاقة المؤبدة لاثنين هما: محمد عبدالنبى مؤذن القرية، وأحمد عبدالعال محفوظ. الأشغال الشاقة خمس عشرة سنة لأحمد محمد السيسي. الأشغال الشاقة سبع سنين لكل من: محمد على أبوسمك، وعبده البقلي، وعلى على شعلان، ومحمد مصطفى محفوظ، ورسلان السيد علي، والعيسوى محمد محفوظ. الحبس مع الشغل سنة واحدة لكل من: حسن إسماعيل السيسي، وإبراهيم حسنين السيسي، ومحمد الغباشى السيد علي، مع جلد كل واحد منهم خمسين جلدة، وينفذ الجلد فى دنشواي. يجلد كل من السيد الصوفى وعزب عمر محفوظ، والسيد سليمان خير الله، وعبدالهادى حسن شاهين، ومحمد أحمد السيسى خمسين جلدة فى دنشواي. وتتضمن الحكم تكليف مدير المنوفية بتنفيذ الحكم فورا