ترسيم الحدود من السياسة إلى الاقتصاد
بقلم: الدكتور لويس حبيقة – لبنان
رسمت حدود العديد من الدول خلال الاستعمار الغربي للمناطق النامية. بدأت الخرائط الأوروبية المقسمة لأفريقيا إلى الظهور تباعا ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر. كانت تتعدل هذه الخرائط كلما تحسنت التقنيات المتخصصة وتوافرت المعلومات الجيدة. ما يقال عن حدود اصطناعية في بعض المناطق النامية هو أحيانا صحيح لأن الجنرالات الغربيين قسموا القارات المستعمرة كما يحلوا لهم أو بالأحرى كما تناسب مصالح بلادهم. لم ترسم الحدود لأسباب عرقية أو اقتصادية أو إنسانية وإنما خدمة لمصالح خارجية. هذا ما يفسر إلى حد بعيد المشاكل المتنوعة التي تتخبط بها الدول الأفريقية وغيرها بدأ من الحروب الأهلية والخارجية إلى النزاعات على الحدود والموارد والى الفقر والجوع. عانت دول الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية كثيرا من الدمج المفروض للدول والعرقيات التاريخية. تقسمت بعد زوال الحكم الشيوعي في موسكو وتحولت إلى دول أو دويلات كما شاء سكانها، فارتاحت الأقليات المظلومة أو المقموعة من قبل النظام السابق. لا شك أن الحكم الشيوعي منع التناحر العرقي والطائفي والمذهبي إلا أنه خنق أيضا التنوع الثقافي والحضاري الذي تريده هذه العرقيات المختلفة.
إن ترسيم الحدود بين الدول المجاورة، بينها سوريا ولبنان، أمر طبيعي وواجب حفاظا على الحقوق وتقوية للعلاقات التاريخية وتجنبا لمشاكل مستقبلية محتملة. يجب إنهاء الخلاف الخفي بين لبنان وسوريا على تفاصيل الحدود ومواضيع أخرى بحيث نؤسس سوية لعلاقات مستقرة وصريحة ودائمة. تنبع الخلافات بين لبنان وسوريا كما بين معظم الدول العربية من الأفكار والبرامج والنوايا الخفية التي تمنع الاستقرار في العلاقات. الخلاف الجغرافي بين البلدين هو ربما أقل بكثير من الخلافات المماثلة في أوروبا وأميركا وغيرهما، إلا أنهم نجحوا في معالجته بينما فشلنا نحن والسوريون. مهما كانت الأمور الجغرافية معقدة، أي خلاف على مزارع أو مياه أو مواد أولية، هنالك تقنيات دولية حديثة تنظم توزعها بعدالة. يكون ترسيم الحدود حكما مع كل الدول المجاورة ولا بد من ترسيمها أيضا جنوبا فيما يخص لبنان. هنالك دور طبيعي للأمم المتحدة في ترسيم الحدود أو المساعدة عليه وفي التصديق الدولي النهائي.
بالرغم من العولمة الاقتصادية، تبقى الحدود الجغرافية مهمة ليس فقط للسياسة وإنما أيضا للموارد المالية العامة كالتعريفات الجمركية والدعم السلعي المناطقي والمواصفات والقواعد القانونية والرقابية. هنالك الكثير من التفاوت الاقتصادي بين الدول بسبب عوامل كثيرة منها الجغرافيا. نمت الصين في التسعينات بمعدل سنوي قدره 7,1% مع تعريفات جمركية بلغت 31,2%. نمت الهند سنويا بمعدل 3,3% مع تعريفات توازي 50,5%. هذا لا يعني حكما أن العلاقة بين النمو والتعريفات هي دائما سلبية (بسبب وجود عوامل مؤثرة أخرى)، وهذا لا يعني أنه يمكن للهند زيادة نموها حكما عبر تخفيض التعريفات. ليس هنالك شيء مؤكد في الاقتصاد إنما هنالك أرجحية في طبيعة العلاقة تشير إليها الإحصائيات المتباينة بين الهند والصين. إضافة عامل الجغرافيا إلى مجموعة العوامل الاقتصادية يعقد التحليل والتفسير لكن يقربهما أكثر إلى الواقع والحقيقة.
حاولت العلوم الاقتصادية منذ عقود درس تأثير المعالم الجغرافية على المؤشرات الاقتصادية، الا أنها عجزت عن تحويل الأفكار إلى علم. يعود العجز إلى تشابك العقد وصعوبة جمع الخصائص الجغرافية والاقتصادية في علم واحد سمي لاحقا بـ"الجغرافيا الاقتصادية" أو "الاقتصاد الجغرافي". يعتبر ولتر أيزارد Isard الأستاذ في جامعة بنسيلفانيا مؤسس هذا العلم في الخمسينات قبل أن يتطور لاحقا مع جيفري ساكس وبول كروغمان وأنطوني فينابلز وغيرهم. يغطي العلم الجديد تأثير الجغرافيا على الطلب والعرض والأسعار تبعا للموقع أو المكان. يغطي العلم خاصة موضوعي المنافسة ووفورات الحجم وارتباطهما بالجغرافيا، أي تحديدا بالموارد الطبيعية المتوافرة والمناخ. في العلوم الاقتصادية، لا تكفي الأفكار الجيدة الصحيحة والتكهنات والتوقعات المقنعة للفت النظر وجذب السمع، إنما يجب وضعها في أطر أو نماذج رياضية تسمح بفهم العلاقات بين العوامل المختلفة. في الاقتصاد، زالت أو تقلصت مع الوقت فروع كثيرة لأنها لم تستطع إدخال العلوم إليها أي الرياضيات والإحصائيات والفيزياء. من الضروري اليوم دعم أية أفكار أو نظريات اقتصادية بالعلوم التطبيقية كي تتسوق، أو تصبح مرشحة للتنفيذ.
تتنافس الجامعات في إصدار البحوث المهمة مما يؤثر إيجابا على نفوذها الأكاديمي وقوتها في أسواق العمل. هنالك تقييم سنوي محايد للجامعات وخاصة للأقسام والفروع بحيث تضع مراتب تنشر، فتؤثر على المنح المالية التي تحصل عليها الجامعة من الدولة أو من المتبرعين المؤسساتيين أو الأفراد. الموارد المالية مهمة جدا اذ تسمح بتمويل البحوث المعقدة والمكلفة كما بدفع أجور الباحثين الكبار والواعدين الجدد. وجود موارد كافية يؤثر كثيرا على إصدار بحوث رائدة ودافعة للتطور والتغيير. تؤثر مرتبة الجامعة على نوعية الطلاب الذين يدخلون إليها وعلى طبيعة الوظائف التي يحصلون عليها بعد التخرج. تؤثر الرتبة على نوعية الأساتذة والباحثين الذين يرغبون في الانضمام إليها وبالتالي على كمية ونوعية البحوث العلمية وتأثيرها في المجتمع. يفسر "الاقتصاد الجغرافي" الأسباب التي تدفع صناعات أو نشاطات اقتصادية معينة لتتواجد في مناطق وليس في أخرى كما النتائج. يفسر العلم أسباب ازدهار مناطق أكثر من أخرى ضمن القارة نفسها أو حتى في الدولة الواحدة. يقول الاقتصادي مايكل بورتر أن درجة توزع النشاطات الاقتصادية جغرافيا ضمن الدولة الواحد تؤثر كثيرا على تنافسيتها الدولية. يقول الاقتصادي بول كروغمان أن "الاقتصاد الجغرافي" يفسر إلى حد بعيد التخصص الإنتاجي للدول وبالتالي مكونات تجارتها الدولية. يبرر كروغمان تطور المدن برغبة المستهلكين الحصول على أجور أعلى مقارنة بالريف ولوجود سلع وخدمات متنوعة أكثر. أما لماذا تذهب الشركات إلى المدن، فيعود إلى الأسواق الواسعة التي توفرها لها بتكلفة منخفضة. هنالك 3 أسباب تبرر التعمق في "الاقتصاد الجغرافي" هي:
أولا: أسباب تواجد نشاطات معينة في مناطق محددة هي مهمة بحد ذاتها (مثلا ممرات مائية كافية أو طقس معتدل أو مواد أولية مناسبة أو تلوث مقبول أو حياة اجتماعية وثقافية مميزة). يمكن دراسة هذه الأسباب لخلق أو تطوير مناطق جغرافية عبر نشاطات مناسبة ومدروسة. يمكن الاستفادة من التجارب الجغرافية لتحفيز التنمية المناطقية وتحديد سياسات اقتصادية مركزة وفضلى.
ثانيا: بفضل العولمة لم تعد هنالك حدود واضحة بين الاقتصاد الإقليمي والاقتصاد الدولي، أصبح الفاصل الاقتصادي مشوشا أو ضبابيا كما أضحت المنافسة أقوى وأوسع. ستتوزع بالتالي النشاطات الاقتصادية على أسس دولية وليس اقليمية أو وطنية. يمكن لأي نشاط اقتصادي اليوم أن ينتقل بسهولة عبر الحدود وبالتالي يغطي علم "الاقتصاد الجغرافي" العالم أكثر فأكثر. لم تعد تكفي مقارنة المناطق الجغرافية ضمن الدولة الواحدة أو المنطقة الواحدة، بل وجبت المقارنة دوليا لفهم خصائص مواقع الاستثمارات والإنتاج.
ثالثا: ما يميز العلوم الاقتصادية عن بعض العلوم الأخرى هو ارتباطها القوي بالمواضيع الاجتماعية والنفسية والسياسية والقانونية والكمية وغيرها. أصبحت العلوم الاقتصادية مرنة ومتحركة ومتغيرة أكثر من أي وقت مضى، من واجب الاقتصادي المعاصر متابعة كل التطورات كي تبقى توصياته مفيدة. أعطى "الاقتصاد الجغرافي" دفعة جديدة من الأفكار للباحثين كي يفسروا بشكل أفضل توزع النشاطات الاقتصادية ويقتبسوا الدروس المفيدة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]