العولمة وأفق المواطنة العالمية
يحي اليحياوي
- كائنة ما تكن تحقيباتنا للعولمة، فالمواطنة سابقة لها: هي سابقة لها في المكان والزمان، وسابقة لها كمجال فكر وتفكير وسابقة لها، فضلا عن كل ذلك، في ضروب الفعل (والتفاعل) في الاقتصاد والسياسة والمجتمع وغيرها.
هي كانت (ولا تزال إلى حد بعيد) إحدى روافد النظام القائم، بل هي نتاجه في معظم الحالات لا تنتفي بانتفاء بعض من عناصره أو تتقوض بتقوض بعض من مكوناته.
ولئن كانت المواطنة قد صيغت في البدء داخل الفضاءات الوطنية، كتعبير عن ضرورة ضمان حقوق الأفراد والجماعات وتسطير واجباتهم، فإنه سرعان ما أصبح لمبادئها هاته امتداد عالمي لم تسلم من “عدواه” الأنظمة ولا الدساتير.
بالتالي، فلم يكن يحد من ترجمة مبادئها على المستوى العالمي إلا مستوى أخذ الأنظمة والدساتير إياها بها وإعمال ذات المبادئ في توجهاتها السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
لم يكن أفق الديموقراطية القائم بالدول (مختلف دول العالم) هو المحدد الوحيد لأفق المواطنة، ولم يكن العامل الداخلي هو المهيمن في تحديد ذات الأفق، بل انضافت إلى ذلك معطيات عالمية كبرى تعتبر ظاهرة العولمة أقواها وأشدها.
وعلى هذا الأساس، فلم توضع المواطنة يوما (إلا فيما ندر) على المحك إلا حين برزت العولمة واتسع فضاؤها وتقوت أدوات الاشتغال لدى فاعليها.
والواقع أن ظاهرة العولمة لم تستهدف المواطنة في حد ذاته، من خلال استهداف مبادئها الكبرى (سيما جانب الحقوق فيها)، بل أساسا عبر استهداف المؤسسات والقيم التي انبنت عليها المواطنة إياها لسنين طويلة.
بالتالي، فلما كانت مبادئ المواطنة “العالمية” هي، في الشكل كما في الجوهر، امتداد لأشكال المواطنة “المحلية” (أو الوطنية)، فإن ما طال هذه الأخيرة ما فتئ، بحكم منطق الأشياء، يطال الأولى، يؤثر فيها ويطبع تجلياتها.
وعلى الرغم مما قد يبدو إسهاما للعولمة في تكريس المواطنة “العالمية”، كونها تدفع بالمزيد من الحرية في الفعل والتنقل والتعبير، وكونها تنحو بجهة تسييد الانفتاح والدمقرطة وما إلى ذلك، على الرغم من هذا، فإن عوامل التضاد والممانعة بين العولمة والمواطنة “العالمية” هي أقرب إلى التكريس منها إلى عوامل الالتقاء والتكامل.
2- هناك، فيما نتصور، أربع معطيات جوهرية تجعل من علاقة العولمة والمواطنة “العالمية” علاقة تضاد وممانعة أكثر منها علاقة التقاء وتكامل:
- المعطى الأول ويتمثل في التوجه المستمر والمتسارع للعولمة في تدمير المقومات الكبرى التي ارتكزت عليها الدولة/الأمة في تشكلها وفي صياغة آليات اشتغالها.
ليس التلميح هنا فقط إلى منحى السياسات العامة التي تستهدف تقليص حجم ودور الدولة إلى ما نادى به، منذ قرون، فقهاء الاقتصاد السياسي الليبرالي، ولا فقط إلى منطق اقتصاد السوق الخالص الذي يدفع به فاعلو العولمة، ولكن أيضا إلى ممارسات الشركات الكبرى التي تتقدم لديها، عكس المواطنة، مبادئ الواجبات على مبادئ الحقوق سيان عندها في ذلك أكان فضاء الاشتغال عالميا واسعا أم محليا/إقليميا أقله سعة واتساعا.
من هنا، فبقدر ما تزداد واجبات الأفراد والجماعات (في العمل وضرورات “التأقلم والانضباط” وغيرها) بقدر ما تتقلص حقوقهم وتضيق (في الحصول على عمل كما في ضمان استمراره واستمرار الضمانات المترتبة عليه).
من حكم الثابت، في هذه النقطة، أن تراجع الدولة/الأمة (بتقدم فاعلي العولمة وأدواتها) هو تراجع حتمي للمواطنة ليس فقط لأن الدولة/الأمة هي الساهر على المواطنة وضامنها الأسمى، ولكن أيضا لأن لا مصداقية لمواطنة يضمنها منطق السوق ويتكفل بصيانتها فاعلوه، إذ قصور “مواطنة السوق” هو من قصور السوق واقتصاد السوق على إفرازها وتجذيرها.
ومعنى هذا أنه ما دامت الدولة/الأمة، بكل دول العالم، هي راعي المواطنة وضامنها، فإن تراجعها (بجهة تحجيمها إلى وظائف شكلية) هو حتما تراجع لذات المواطنة وتحجيم لها.
- المعطى الثاني ويكمن في الاتجاه المتسارع والحثيث لظاهرة العولمة باتجاه تقويض المرافق الكبرى التي يعتبر وجودها واستمرارها من وجود واستمرار مبادئ المواطنة نفسها.
قد لا يكون الأمر هنا مثال إشكال كبير لو كان مقتصرا على جوانب من الخوصصة تطال بعضا من ” قطاعات المواطنة” (كالتعليم والتربية والصحة وغيرها)، وقد لا يكون مكمن تخوف كبير إذا كان بهدف تحسين أداء القطاعات إياها (وتحسين دور الدولة من خلالها)، لكنه يتعدى كل هذا وذاك حينما يطال المرفق العام كفلسفة لمساواة الأفراد والجماعات لا قائمة تذكر للمواطنة في الارتداد عنها.
لم يقتصر استهداف العولمة، في هذا الاتجاه، على المجال الاقتصادي والاجتماعي الذي يعتبر ” دخيلا” على المواطنة بل تعدى ذلك إلى الجانب السياسي والمدني الذي لطالما أسس لجوهر المواطنة وكرس لمختلف أبعادها.
ومعنى هذا مثلا أن التعليم والتربية والصحة وغيرها، لن يكون لها أن تبقى مكمنا للمواطنة إذا لم تنصهر جميعها في منظومة “القيم” التي تدفع بها العولمة في شكلها كما في الجوهر: منظومة الإنتاجية والربحية والمرونة والتأقلم والتكيف وغيرها.ومعناه أيضا أن المواطنة، ما دامت مستهدفة في مرتكزاتها (والمرفق العام إحداها)، فإنها لن تستطيع مجابهة العولمة في الحال كما في المآل.
- المعطى الثالث ويتعلق أساسا ب “القيم الديموقراطية” التي لم تفتأ العولمة تقدمها لبناء المواطنة “العالمية” التي لا تتراءى لفاعليها من مواطنة سواها.لا ينحصر الأمر هنا في إشاعة العولمة لمبادئ وقيم النظم الليبرالية وصهر ما سواها من الأنظمة فيها، بل يتعدى ذلك إلى فرضها لمنظومة ” ديموقراطية السوق” التي لا تختلف في شكلها كما في المضمون، عن فضاء المتاجرة التي يعتمده اقتصاد السوق ويقوم عليه في الجملة والتفصيل.
وعلى هذا الأساس، فليس المطلوب هنا (في تصور فاعلي العولمة) إشاعة قيم الليبرالية السياسية وشفافية “السوق السياسي”، بقدر ما هو مطلوب توظيفها لفتح مجال المواطنة بما هو مجال للاستهلاك جديد ” تتساوى في ظله مختلف الشرائح” ومستويات قدرتها على الاقتناء والاستهلاك.
بالتالي، فبقدر استهجان العولمة لإمكانيات استنبات قيم محلية مختلفة، بقدر استهجانها لسيادة قيم تعارض توجهاتها أو تسير بغير وتيرتها.
- المعطى الرابع ويرتبط بخاصية الاختلاف، في المرجعية كما في الممارسة، التي تدفع بها المواطنة ولا ترى فيها ظاهرة العولمة إلا ضربا من ضروب “عدم مجاراة العصر”.فالعولمة توحد في النظرة ووحدة في التمثل (للاقتصاد كما للمجتمع كما للثقافة)، في حين أن المواطنة هي تعدد واختلاف في النظرة كما في التمثل.
وعلى هذا الأساس، فعولمة المواطنة هي عولمة لذات النظرة وعولمة لذات التمثل، في حين أن مواطنة العولمة (بمعنى تلقيحها بقيم المواطنة) هي تعدد لها وتعدد لأبعادها.
لا يكمن خطر العولمة على المواطنة في هذا المستوى، في كون الأولى نفي للثانية (مع القبول بوجودها)، ولا في إقصاء لأبعادها (مع الاعتراف بتواجدها)، ولكن أيضا في صهرها والعمل على أن تندغم في صلبها تصورا وتمثلا.
من هنا فبقدر اجتهاد المواطنة على تخليق العولمة، بقدر إمعان العولمة في صهر اختلافات المواطنة في صلب منظومتها وتحويلها إلى جزء منها لا قائمة لها بدونها.
وعلى أساس هذه الخلفية فلا مواطنة “عالمية” تذكر إذا اعتملت بداخل العولمة تصورات وتمثلات هي إلى إفراغ المواطنة من محتوياتها أقرب منها إلى تلقيحها بقيم وتصورات جديدة.
3- لن يختلف الأمر كثيرا بين ما سبق من حديث وما هو قائم كواقع حال:
+ فالعولمة هي، في أكثر من جانب، انصياع للسياسي (وفي خضمه المواطناتي) للأبعاد التقنواقتصادية التي لم تفتأ الدول الكبرى وشركاتها المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية والتجارية العالمية تدفع بها.
لا يقتصر الأمر على هذا المستوى، بل يتعداه إلى هيمنة المالي على الاقتصادي والاجتماعي والسياسي (وفي صلبها جميعا المواطناتي) دونما اعتبار يذكر للدولة أو للحكومات أو للسيادة والحدود.
أي سبيل إذن للمواطنة والمشاركة ومساهمة الأفراد والجماعات في تحديد الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إذا كان فاعلو العولمة يستهينوا في حقهم ذلك ويحولوا دون إمكانية بلوغهم ذات الأهداف؟
ثم أي سبيل للدولة/الأمة في الدفاع عن “محمياتها” في وقت أصبحت هي ذاتها، في شكلها كما في الجوهر، عرضة للطعن والتشنيع؟ قد لا تبدو السبل كثيرة في ذلك.
+ والعولمة هي، في أكثر من جانب، استهداف للملك العام ليس فقط في جانب الملكية العمومية لقطاعاته، بل أيضا وبالأساس بما هو (أي الملك العام) مكمن المرفق العام الذي ترى فيه العولمة شذوذا عن طبيعتها وخروجا عن طوعها وحالة تبدو لها “غير طبيعية” في مسارها وصيرورتها.
لا يقوض المرفق العام، على هذا الأساس، كونه مكمن الملكية والمرفق العامين، ولا باعتبارهما تكريسا لمبدأ “المساواة” الذي تدفع به المواطنة، بل لأنه “آخر معاقل انتفاضة العام على الخاص” وآخر مرجعية بتقويضها سيتم لاقتصاد السوق العالمي القيام والتسيد.
+ والعولمة، في أكثر من نقطة، هي مكمن التضاد والممانعة مع دفوعات الاختلاف والتعدد التي تقدمها المواطنة.
لا تتعلق قيم الاختلاف تلك ومنظومة التعدد هاته بحق الأفراد والجماعات في تمثل حاضرهم واستشراف مآلهم، بل وأيضا في حقهم الطبيعي في التميز عما سواهم من أفراد وجماعات حتى وإن كان الأمر في ذلك لا يتعدى كونه تميزا من أجل التميز.
من هنا فالعولمة، بما هي جموح للتوحد والتوحيد، فهي أيضا استكثار لهذه القيم ولهذا الحق في هؤلاء وفيما سواهم من دول وتنظيمات وثقافات.
3- أي مواطنة “عالمية” إذن هاته التي تدفع بها العولمة وينظر لها بامتياز منظروها؟
إنها مواطنة العولمة التي تندغم في منظومتها باقي منظومات الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة…أي مواطنة الواجب لا الحق…مواطنة التلقي لا المشاركة، مواطنة الانضباط لا الفعل…أي المواطنة التي تسير وفق تصور منطق تراكم رأس المال وتعمل وفق ما يرضاه فاعلو العولمة ويرتضوه.
بالتالي، فالعولمة لا تقبل بمنظومة للمواطنة دخيلة عليها (كما يراد للمواطنة الحالية أن تكون). هي تريد مواطنة تناسبها، تنصهر في منظومة قيمها، تسايرها، تفتح لها الطريق وتهيكل لها فضاءها العام… السياسي منه والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
هي تريد فضاء عاما تسود بداخله ” قيم” السلعة وواجبات (لا حقوق) اقتنائها، ” قيم” الامتثال لا قيم التشاركية والحوار، قيم العالمي غير الواضح لا قيم المحلي الملموس.
فهي لا تستهدف قانونا للسيادة، بقدر استهدافها لقانون في التبادل الحر…بالتالي فهي لا تخشى في عمليات الاحتجاج والمناهضة جوانبها الفئوية بقدر ما تخشى أبعادها المواطناتية التي لم تعد تكتفي بمبادئ الديموقراطية العامة بقدر ما أصبحت تطالب بمبادئ جديدة لبناء ديموقراطية للقرب.
لن يكون من هنا، بهذه النقطة كما بغيرها، من تمييز يذكر بين المواطنة “المحلية” والمواطنة “العالمية”، بل سيتحول الأمر برمته إلى أممية احتجاجية شاملة تتغيأ التأسيس لمواطنة عالمية واحدة…بديلة عن ” مواطنة العولمة”.
جريدة العلم، 23 يونيو2001.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]