كتب- حسن إغلان
الكتاب: نسيج الصداقة
المؤلف: مصطفى الحسناوي
الناشر: منشورات اختلاف، الدار البيضاء، 2002م، 99ص
"يا أصدقائي، لم يعد هناك صديق". أرسطو
"صداقتك جرحت قلبي مراراً، فكن عدوي حباً في الصداقة". وليام بليك
"الصديق آخر هو أنت". أبو حيان التوحيدي.
"من يحيا من أجل محاربة عدو من مصلحته أن يبقى على قيد الحياة". نيتشه
"ومن نكد الدنيا على الحر ان يرى *** عدوا ما من صداقته بد" المتنبي
"إن مسألة الصداقة والصديق توجد في قلب الفلسفة (...) ولا يمكن معرفة ماهي الفلسفة بدون عيش هذه المسألة الغامضة، والاجابة عنها حتى ولو كان الأمر صعباً". دولوز
هل طرح أحدنا يوماً سؤالاً عن الصديق: ماهو الصديق؟ هل لديه صديق؟ كيف أحدد الصديق بنقيضه؟ لا أعتقد ذلك - إلا نادراً - في حدود اليومي القاتل، تروم المسألة الى ان تكون خارج مجال تفكيرنا، وان كانت تطل علينا مجموعة وصايا نقرأها في آخر صفحات مجلات الرصيف والموضة، لكن ان نسأل ما الصداقة؟ من زاوية فكرية فالأمر مختلف، قد تكون هذه الموضوعة مبثوثة في نصوص متعددة، ولكن يظل التفكير فيها، خارج فضائنا الفكري والثقافي: لأننا نحارب الهامش المسكون داخلنا، ونتهرب منه في سبيل الجواهر - في الفكر وغيرها - .
لقد عملت الفلسفة الجديدة في فرنسا على مساءلة هوامشها، بمعنى آخر، لم يعد للفلسفة موضوعها - وبالتالي فالفلسفة بتعبير ديكارت: شجرة أضحت الآن غابة، لهذا ستؤول الفلسفة الجديدة نحو البحث في اليومي والهامشي.. وسيكون موضوع "الصداقة" أحد اهتماماتها المنفلتة، وسيكون الحفر في مسالكها امكانية لاعادة الاعتبار للفلسفة ومطارقها المتعددة.. يرحل بنا الأستاذ مصطفى الحسناوي، من خلال كتابه "نسيج الصداقة" عبر معابر فلسفية من أرسطو الى نيتشه، فالتوحيدي وغيرهم.. انها رحلة عاشت لفعل الكلمة، ومنحت لدفقها المتعدد والبعيد، هكذا جاءت كتابته خارج المواصفات المدرسية التي تعودها القارئ في مثل هذه القضايا.. لذا ستكون قراءته ومقاربته لموضوعه الصداقة موشومة بلذة العابر والمرتحل عبر النصوص.
يقترح صاحب الصداقة في الاول ايهام القارئ بتعريف لها، وكأنه يدخله لذاته، من اجل ايقاظ تصوره المتناسل عبر مرجعياته، في حضور الصديق وغيابه "ان قول "ألو" (عبر الهاتف) يوقظ كل الاحاسيس الهاجعة لتندفق في دفقها السري المضاء بحميمية غيابه" ص 11.الصديق اذن طيف، يحضر في الغياب، ويغيب في الحضور، ولأنه طيف، فإنه يحضر في صمته، لنتأمل هذه المفاهيم التي يستعملها الكاتب: الطيف، الحضور، الغياب، الصمت، الكلام.. الخ انها مفاهيم تدخل في دائرة الترحال النتشوي.
لذلك يعتبر الصداقة "كلام الانتظار" لكون "الصمت (هو) سلفاً قولاً ممكناً، الذي يظل صمتاً مؤازراً للصديق في غيابه" لا يتحدد الغياب هنا في غياب آني، بل يمكن ان يكون غياباً نهائياً، أعني الموت. في هذا الغياب يظل الصديق مهيمناً في أحاسيس الذات.
إن موضوعة الصداقة موضوعة فلسفية بامتياز، لهذا فهي تنتمي الى الاشكال الغربي للوجود. ان الصداقة اذن سؤال اغريقي، لكونه يرتبط بالمدينة LACITE وتجلياتها الفلسفية والاجتماعية والسياسية.
إنها "جزء من جمالية الوجود (...) وهي صداقة للمفاهيم والافكار التي تنتج معرفة بالوجود الانساني (...) فهي جزء اساسي في نظام العلاقات والقيم الذي أسسته المدينة الاغريقية" ص
60.يعتبر المؤلف ان سؤال الصداقة في الثقافة العربية سؤال نادر، ويتطلب بحثاً في تاريخيته والحفر في النصوص التي تحيل الى ذلك. وتعود هذه الندرة - حسب المؤلف - الى سلم القيم في الثقافة الاسلامية بالاضافة الى معايير اخرى يعرفها القارئ ويتمثلها، خصوصاً حين الحديث عن محبة الحكمة وتربيتها في مدينة الديمقراطية الاغريقية، ولأن العبور في نسيج الصداقة يدفعنا الى الانتقال من تعريف لآخر - دون القبض على تحديد ضابط المفهوم - قد يكون هذا الانفلات هو ما يغري الدارس في جرنا لمصاحبته، في تيهه في طيفه، يضعنا من وهم المعنى دون رشده والقبض عليه، أليس البحث في المفهوم نوعاً من التيه. العابر منزلقات النصوص وهوامشها - نورد بعض هذا التيه الذي يجرنا اليه مثل "الصداقة جرح لأن أساسها ليس بالضرورة هو الكلام او حتى الصمت بل الاستعداد للموت" ص 36."الموت هي ما يسمح لي باعلان الصداقة" ص 41- 42.اذاً تأملنا النصين معاً، فإننا بالضرورة نجد أنفسنا بين سطوره نتأمل الحدود اللامحدودة لمفهوم الصداقة ولأن ندرتها تفترض الندوب والآثار التي يخلفها في غيابها، فإنها تظل موشومة في وعي ولا وعي الذات، في ارتباطه بالآخر - الغريب/ القريب - البعيد.. الموت هنا ليس الموت المادي. بل يتم التعامل معه كمفهوم يدخل ضمن دائرة البحث الانثروبولوجي في تجلياته، والرأسمال الرمزي الذي يتم التعامل به داخل المجتمع.
لا عجب اذن، أن تنبت وتزهر الصداقة في مجتمع اغريقي له مواصفات أخلاقية وسياسية، وكأن الصداقة بعد سياسي في التعامل معه، ان لم نقل ان وجودها مشروط بالسياسة (الديمقراطية، العدالة، المساواة والمواطنة)، "اننا لا نولد مواطنين بل نصير كذلك" هكذا قال سبينوزا، واضح من خلال هذا القول الارث الفلسفي لعصر الانوار والمحدد الهادف الى تأسيس مجتمع المساواة والعدالة والديمقراطية. "مادامت جماعة المواطنين هي جماعة الاصدقاء" ص 23، أي أن المدنية شرط للصداقة ان هذا التصور له بعده الاتيكي (الأخلاقي) والسياسي سواء عند سبينوزا او حتى عند أرسطو، منتقدا بذلك الصداقة بالمعنى الشيوعي التي تؤول في آخر المطاف كاستبداد وطغيان.. ان "الصداقة والسياسة كتمثل وكحلم بالكارثة كثيراً ما تتم خيانتها وافشال تحققها، ويتحول الصديق السياسي الى عدو عنيد" ص 28هذا ما حدث مثلاً بين ستالين وتروتسكي، ان الصداقة بهذا المعنى تفترض عدواً سياسياً، او بعبارة المفكر السياسي الالماني كارل سميت: ان العدو امكانية السياسي بالذات، ان الصديق/ العدو - هي أطروحة نتشه بامتياز والتي سنعود اليها، ولأن مفهوم الصديق هو آخر - غير الذات، فإنه وبلغة رائعة لأبي حيان التوحيدي: "الصديق آخر هو انت" الى اقتصاد الحسد وتضييق دائرته، بانتقاله من تلك العبارة الى عبارة "الصديق هو انت" ص 50.هانحن في حضرة الكينونة كسؤال انطلوجي يفترض مفاهيم كالحرية والمسؤولية.. الخ، وبالجملة فالآخر هو "الشرط الشارط لكل اداراك بالنسبة للآخرين وبالنسبة للذات" ان هذين الحدين (الآخر/ الأنا) موسومان بتوتر نظري، سنجد ذلك عند التوحيدي.. لهذا سيطرح الأستاذ مصطفى الحسناوي سؤالاً يفيد التوتر ذاك.. بين انغلاق المماثلة وانفتاح المغايرة (الوحدة والكثرة) "هل الصديق هو المثيل أم هوالآخر؟" ان الشيء الوحيد الذي لا يمكن اقتسامه مع الصديق هو الموت، موته لأن الصداقة حسب ديريدا DIRRIDA "تمر بين الحي والميت (...) انها مسألة شهيق وزفير"، أي الحضور والغياب بمعنى حين يكون الحضور غياباً والغياب حضوراً - أي أن الصديق "يهبني موته كي أحافظ على البقاء باسمه" ص 45، انها عمق عبارة التوحيدي أو "موت الصديق هي موت الآخر" ص 37هذا الموت في بعده الرمزي والذي يفتح ظلال الممكن بين الجثة والميت، والذاكرة، وكلها تشتغل وفق تصور أخلاقي وانطلوجي، لا لتقول.. بل لتوميئ وتؤرق أبجديات ملغومة في نسيج الصداقة، كنسيج الممكنات والاحتمالات، لاعتبارات متعددة وتتلخص في اعتبار وجودي.. "ان موت الصديق هي ما يضعني في علاقة قصوى وباذخة مع ذاتي" ص
36.لا يستوي تاريخ الصداقة إلا بالقلب الذي مارسه نتشه عليها - قلب الميتافيزيقا التي تؤطره، والبديهيات التي تسكنه، كما لو أن نتشه منذ بداية تأسيس استراتيجية فكرية زلزالية تقوم على البحث في جنييالوجيا الفكر والمعرفة، معولاً في ذلك على مطرقته، ولا غرابة في استحضار الفلاسفة ما قبل سقراط ومحاورتهم، وجعل أفلاطون مخرباً للفلسفة في معيشها وممارستها الحيوانية العميقة التي مارسها الحكماء الاوائل - ولا مناص كذلك في استدعاء الكتابة الشذرية كسبيل للتفكير في الوجود.. سينطلق اذن نتشه من قوله أرسطو "أيها الاصدقاء - لم يعد هناك صديق". الى "الأعداء لم يعد هناك عدو" انتقال من الصداقة الى العداوة، هو من قبيل تفكيك البداهة واليقين الذي يستند اليهما الحكيم المحتضر كما يسميه نتشه. وهكذا يفتح المشكل على بعده السياسي - عبر دعوة الصديق/ الآخر.. بل العدو/ الآخر، أي "ان الافراط في الانسانية هو ما جعل ارث الصداقة الأرسطي ينفي كلية امكانية الاختلاف في الرؤى والتوجهات وقوى الأحاسيس والافكار بين الاصدقاء" ص 47، سيتضح من القلب الأرسطي ذاك الى السؤال الذي طرحه نتشه. وبالأحرى الذي لازم نتشه في مسيرته كمجنون حي - وهو: كيف يمكن لشيء ما ان يولد من ضده؟"، من هذا السؤال يمكننا تأمل ذاك القلب، لاعتبار بسيط، وهو التعامل مع صداقة أرسطو بنوع من السخرية تجاه فهمه وللصديق. يعبر نتشه عن رفضه الصارخ للمماثلة، كشكل تفسيري للصداقة بصيغة ميتافيزيقية، باعتبارها مماثلة زائغة "لأنها تنبي على قدر لا بأس به من المسكوت عنه ومحكيها كبت الصراحة" ص 77، ليخلص في السياق ذاته "ان الصداقة عداوة حتمية لا محيد عنها" اذن، لا غرابة أن يكون الصمت حارساً للصداقة في صيرورتها، وهل يمكن ان تكون الصداقة بهذه الحراسة الآسرة لها، رغبة في بقاء لقاءاتها، اذ ان تستحضر العدو لمحاربته، دوماً والقضاء عليه. لا يرغب نتشه في غرابتنا. بل يشدد على اهمية ابقاء العدو على الحياة، بل يذهب اكثر من ذلك، حين يعتبر حقيقة الصداقة هي جنون الحقيقة. غير ان مصطفى الحسناوي، سرعان ما ينتبه للعلاقة تلك في ص 73"ولكن ما يجمع الحكيم المحتضر والمجنون الحي هو غياب الاصدقاء والأعداء في آن". هاهنا تتداخل المتناقضات بين السلم والحرب، الصداقة/ العداوة - لأن "مفهوم الصداقة ملوث بالمغايرة الشرسة، كما هو مسكون بوهم التماهي والمماثلة لذاته" ص 88تنطرح العلاقة تلك، بنوع من القلب الذي مارسه الثاني على الاول باعتبار نموذج الميتافيزيقا والوحدة. والباحث عن صداقة تنزع في أفقها السياسي لوهم المساواة والعدالة، في حين يتجه المجنون الحي الى سياسة مغايرة، تتأسس على الاختلاف بدل الوحدة، ان كلام نتشه يخلخل تصورنا، ويضع بداهته قاب قوسين او اكثر، لأن الجنون شرط العداوة، فكيف نؤسس لصداقة ممكنة؟ كيف السبيل للبحث عن صديق غير صامت؟ لا أحد يدفعنا في سبيل البحث في نسيج الصداقة غير الخلخلة تلك، والتي تشكل عمقها نداءات زرادشت: "ان المرأة غير قادرة على الاضطلاع بالصداقة.. لكن قولوا لي، أنتم الرجال، من منا قادر على الصداقة؟".
بهذا النداء، نفتح موضوع الصداقة من أقاصي الظل الفلسفي الذي شيّده نتشه، هذا المجنون الذي طبع تاريخ الفكر الفلسفي بثورته الفعلية وخلخلته لليقين الذي سار عليه الخطاب الفلسفي الغربي، بتسلم قيمته ومعارفه، او ليس المجنون وحده القادر على مساءلة العدو والصديق.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]