لحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطبيّين وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« ما مِن عبدٍ أنْعَمَ الله عليهِ نِعْمَةً فَأَسْبَغَها عَلَيْهِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَتََرَّم، فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوال ».
ومعنى "فّتّبّرَّم": لغةً كما جاء في مختار الصحاح: تَبَرَّمَ بِه: أي سَئِمَهُ، و أَبْرَمَهُ: أَمَلَّهُ وَأَضْجَرَهُ. فهو: بَرِمٌ ضَجِرٌ. وقد أبرمه فلان إبراماً أي: أَمَلَّهُ وأضجره.
إذاً التبرم هو: التأفف والسأم والتضجر وشدة الغم وضيق النفس.
والشخص المتبرِّم المقصود هنا في الحديث ،كما أفادني بذلك شيخنا محمد صالح المنجد حفظه الله : " كل صاحب نعمة أدت إلى أن يؤول الناس إليه بسببها، كالعالم والمفتي والداعية والمربي والأمير والقاضي، والمسؤول والطبيب والمحامي والتاجر والغني، ونحوهم من أفراد المجتمع ممن أنعم الله عليهم بنعم جعلت لهم مكانة أو سلطة في المجتمع، أوفيها نفع متعدي لغيرهم من الناس " .
فإن مثل هؤلاء إذا تذمروا وتأففوا، وضاقوا ذرعاً بالخلق بعد أن صارت حاجة الناس إليهم، وتكبروا عليهم وأعرضوا عنهم وسئموا ذلك وتضجروا منه، وأصابهم بسبب ذلك الغم وضيق النفس، فإنهم معرّضون لزوال هذا الفضل عنهم كما في الحديث السابق. وما جاء عند الطبراني من حديثٍ حسن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: « إن لله عباداً يختصهم بالنعم لمنافع العباد فمن بخل بتلك المنافع على العباد نقلها الله تعالى عنه وحولها إلى غيره ».
وفي رواية « إن لله تعالى أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، و يقرّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها، نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم ».
وفي رواية أخرى « ويقرّهم فيها ما بذلوها ».
والتحذير الوارد في الأحاديث المتقدمة يدخل في عموم قول الله تعالى: { ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [لأنفال:53] وقوله جل جلاله: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [ الرعد:11]
قال البغوي في تفسير الآية الأولى: أراد أن الله تعالى لا يغير ما أنعم على قوم حتى يغيروا هم ما بهم بالكفران وترك الشكر، فإذا فعلوا ذلك غيّر الله ما بهم فسلبهم النعمة. وقال تعالى: { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم } [محمد:38].
قال القرطبي رحمه الله: "وفي الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة، فلا يعدل في رعيته أو كان عالماً فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس، أن يذهبه ويأتي بغيره وكان الله على ذلك قديراً".
نعوذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْر، ومن النقصان بعد الزيادة.
إن هذا الحديث برواياته تذكرة وتحذير لكل من أنعم الله عليه وأولاه من المكانة المادية أو المعنوية، وجعله متميزاً عن كثير من خلقه وخصه بهذه المنقبة وتلك المزية -التي جعلت من حوائج الناس إليه- لذا فإنه يجب عليه عدة أمور:
أولاً: أن يعلم بأن هذه النعمة وهذا المنصب أو هذا العلم أو هذه المكانة التي بوأه الله إياها، ابتلاء من الله عز وجل ليرى ماذا يصنع؛ لأن الدنيا بما فيها من هذه النعم محل ابتلاء واختبار. قال عز وجل { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً.إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان:2-3]، فإما أن يؤدي ما عليه من واجب الشكر أو أن يكفر ويجحد وهكذا حال الناس في الدنيا.
ثانياً: أن المسلم مهما علا وارتفع فإنه قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه، وأن تَبَرُّمه من أفراد مجتمعه فيه من تشتيت للأواصر وإيغار للصدور ما لا يخفى ضرره العاجل والآجل، فإن له في نفس الوقت ذلك الأثر السيئ والعكسي بتعرضه لخطر زوال النعمة عنه، وبالتالي شماتة الأعداء به.
ثالثاً: احتساب الأجر يوم العرض على الله:
فكما حذرنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زوال النعمة، فقد رغّبَنا في فضل قضاء حوائج الناس والوقوف عليها والسعي من أجلها، كما ثبت في صحيح مسلم من طريق أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ » الحديث.
الناس بالناس مادام الحياءُ بهمُ
والسعد لاشك تارات وهباتُ
وأفضل الناس ما بين الورى رجلُ
تُقضى على يدهِ للناس حاجاتُ
لا تمنعن يد المعروف عن أحد
ما دمت مقتدراً فالسعد تارات
واشكر فضائل صنع الله إذا جعلت
إليك لا لك عند الناس حاجات
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
فلنتدارك النعم قبل فوات الأوان؛ بتقوى الله وحسن العمل ومراعاة الخلق، واستدراك ما فات من التقصير في حق الله وحق الناس والأهل والإخوان، والحذر من الإعراض عنهم والاغترار بالنفس التي اكتست برداء الكبرياء ، الذي لا ينبغي إلا للخالق العظيم كما جاء في الحديث القدسي: « الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ ». رواه أبو داود وصححه الألباني.
إن دوام الحال من المحال، وفرق بين الصعود والهبوط، فاحذر الثاني فما يكون إلا بما اقترفت يداك وما ربك بظلام للعبيد.
قال تعالى: { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى:30].
فادع الله تعالى أن يصرف عنك سوء القضاء، وتحوّل الحال من الأحسن إلى الأسوأ؛ فإن مما ثبت في السنة ما جاء في الأدب المفرد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك ».
نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص، والزيادة وعدم النقصان، والفوز بالجنة والنجاة من النار، إنه قريب مجيب.