أخذت قضية العناية بتنمية الموارد البشرية(HRD) حيزا كبيرا من الاهتمام، على اعتبار أن الإنفاق على هذه التنمية يعدّ من أهم وأعلى درجات الاستثمار، ومازالت هذه الأهمية في تزايد مستمر وتأخذ مجراها في الدراسات والفعاليات التي تنظم وبشكل متواصل على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية.
وقد جاءت أهمية العناية بتنمية الموارد البشرية من منظور متعدد الأبعاد منها البعد الاقتصادي من خلال الموارد البشرية المؤهلة والمدربة, حيث يتم تنفيذ برامج التنمية الاقتصادية بما يحقق التقدم للدولة ويوفر احتياجات سكانها من السلع والخدمات, إضافة إلى أن الفرد المؤهل تعليميا وتدريبيا لديه فرصة أكبر للعمل كمواطن منتج يحقق قيمة مضافة تسهم في تنشيط الدورة الاقتصادية. و أما البعد الاجتماعي فمن المعروف أن التعليم ينمي قدرات الفرد الذهنية والفكرية ويكسبه الأنماط والقيم السلوكية المتوازنة, مما يجعله أكثر قدرة على تفهم المشكلات الاجتماعية وترسيخ الروابط الأسرية. وكذلك البعد الأمني حيث تؤدي العناية بتعليم وتدريب الفرد إلى تخفيض نسبة البطالة, والتي تتناقص مع ارتفاع المستوى التعليمي والتدريبي, مما يسهم في تحقيق الاستقرار الأمني للمجتمع. وأما البعد الثقافي فينعكس بتزايد نسبة المثقفين من الموارد البشرية في التنمية الحضارية للمجتمع وزيادة معرفة الفرد وتمسكه بمكونه الثقافي من التراث واللغة والآداب، بالتوازي مع ازدياد درجة الوعي لديه بما يدور حوله. وأخيرا وليس آخرا البعد التعليمي حيث يوفر التعليم الكوادر العلمية القادرة على البحث والابتكار والاختراع والتطوير بما يسهم في إحداث النقلات الحضارية المختلفة, وإحداث التقدم التقني في شتى مجالات الحياة, والتحسين المستمر في وسائل المعيشة.
وبمطالعة العديد من الأبحاث والتقارير الصادرة عن المنظمات الدولية المختلفة، فإنه يلاحظ التركيز الكبير على أهمية هذه الموارد في أية عمليات إنمائية فعالة في البلدان المختلفة، وخاصة النامية منها. فتشير بعض الأبحاث الصادرة عن منظمة العمل الدولية ILOإلى أن العمل يعتبر أهم عنصر إنتاجي يؤثر في التنمية. أما رأس المال المادي، فقد أصبح ذو أهمية ثانوية بالمقارنة. كذلك الأمر بالنسبة لعدد كبير من التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة، والتي تؤكد ضرورة الاعتماد على قوة العمل البشرية في البلدان النامية، وخاصة ذات الكثافة البشرية، بدلاً من رأس المال المادي.
ومن هنا فان الاستثمار في رأس المال البشري يفيد في إكساب الفرد المعارف والمهارات, والتي تزيد الدخول وتعزز بيئة العمل وتحسّن استغلال واستخدام التكنولوجيا المتقدمة. بالإضافة لذلك الإنفاق على التعليم والتدريب يساعدان الناس على إظهار قدراتهم ومهارتهم,و التي هي مفيدة جدا لعملية التنمية. ويلاحظ شولتز أن تلك الاستثمارات البشرية تتضمن أكثر من التعليم الرسمي فهي جملة من القدرات المفيدة والمكتسبة من قبل الأفراد.
وتتطلب التغيرات الاقتصادية والتقنية المتسارعة وانفتاح الأسواق والحدود والمنافسة الحادة بين الدول والمنشآت على أسواق السلع والخدمات العالمية؛ تكثيف وتضافر الجهود الخاصة بتطوير الموارد البشرية الوطنية لكي تتوافق واحتياجات سوق العمل في إطار متطلبات العولمة ، بحيث تراعي مواصفات الجودة الشاملة التي تؤهل العمالة للمنافسة والنمو في سوق العمل المحلية المحكوم بضوابط ومعايير عالمية، وتستجيب للتغيرات التي تحدث في معدلات الطلب - سواء كان ذلك بالزيادة أو النقصان- على أنواع المهارات المختلفة في سوق العمل
وفي سياق التغيرات التقنية نجد أن جوهرها ما هو إلا نقلة تعليمية في المقام الأول فعندما تتوارى أهمية المصادر الطبيعية والمادية تبرز المعرفة كأهم مصادر القوة ،وتصبح عملية تنمية الموارد البشرية – التي تنتج المعرفة وتوظفها– هي العامل الحاسم في تحديد مستقبل المجتمع ،وهكذا تتداخل التنمية والتعليم إلى حد يصل إلى شبه الترادف ،وأصبح الاستثمار في مجال التعليم هو أكثر الاستثمارات عائدا بعد أن تبوأت"صناعة البشر " قمة الهرم بصفتها أهم الصناعات في عصر اقتصاد المعرفة, والذي احد مراميه قدرة رأس المال البشري لخلق وإبداع وتوليد واستغلال الأفكار الجديدة بالإضافة إلى مهارات تطبيق التقنية . وإذا ما أردنا استشراف أبعاد التعليم في القرن الحادي والعشرين في سياق التغيرات التي اشرنا إليها آنفا, فانه يمكن القول بان احد أعمدة التعليم هو التعلم من اجل العمل والذي يتضمن عادة حيازة المهارات وربط المعرفة بالممارسة, باعتبار ذلك جزءا أساسيا من تدريب وتأهيل الفرد للحياة العملية, إلا أن التحول باتجاه اتساع القاعدة المعرفية وتزايد دور المعرفة الاقتصادي قد بدأ يفرض على المؤسسات التعليمية إعطاء غلبة وأولوية للمهارات العقلية على المهارات اليدوية.ومن هنا فان مثل هذه التوجهات الجديدة في ربط الإعداد التعليمي بالعمل قد فرضها سوق العمل والحياة العملية بأشكالها الجديدة، فالمنشآت الإنتاجية والخدمية ،وخاصة في البلدان المتقدمة ،بدأت تفترض في الخريجين الذين يمكن توظيفهم واستيعابهم إمكانية المساهمة في تطوير القدرة التنافسية ،وفي تقديم الابتكارات والإبداعات لتحقيق الميزة التنافسية للمنشأة, وتحسين الإنتاج والإنتاجية القائمة أساسا على الحيازة والاستخدام التطبيقي للمعرفة. ويكشف جاميردينغر gamerdinger
أن التقنية الجديدة لا تعجل بالإمكانيات من اجل السياسات الاقتصادية الصحيحة والتجارة العالمية المتزايدة, وهذا يتطلب- حسب جاميردينغر- استراتيجيات لتطوير العمل المتعلق بتطوير أداء الإنسان, ويتابع جاميردينغر قوله عارضا الأهمية والحقيقة المتزايدة بان "كل تعليم تعليم مهني" all education is vocational education
ومن هنا نلحظ في قراءة أدبيات تنمية الموارد البشرية أنها غالبا ما تقترن بقضايا التدريب والتعليم المهني والتقني, حيث قد أصبح من الواضح أن هناك مهارات مسبّقة متطلبة قبل الدخول لسوق العمل, وان العمالة الأمية أو قليلة التعليم تضعف مسيرة التطوير. ومن خلال عرض أهمية تنمية الموارد البشرية من خلال التدريب والتعليم المهني والتقني يمكن القول بأن تحسين رأس المال البشري كان ظاهر بشكل واضح في بعض دول آسيا، وفي الحقيقة أصبح تقريبا "عنوانا" في مناقشات اقتصاديات النمور الآسيوية .وقد أكد أهمية تنمية الموارد البشرية الأزمة المالية الآسيوية التي حدثت في أواخر التسعينيات (مابين 1997-1998),والتي دعت بعض الكتّاب العرب إلى التسرع بوصف دول جنوب شرق آسيا بالنمور الورقية! ,وقد أوضح تجاوز هذه الأزمة بقوة أن النمو الاقتصادي ليس غاية في حد ذاته, ولكن بدلا من ذلك يعني وسيلة للتنمية البشرية. ومن هنا فان البلدان الآسيوية وضعت تأكيدات على أهمية التعليم المهني والتقني, معتمدة على اعتباراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،فالتعليم المهني والتقني ينظر إليه في غالب دول آسيا كحل للمشاكل التعليمية, من حيث تخفيض الضغط على التعليم العالي ،ومعالجة بطالة خريجي الجامعات ،كما يعمل على إيقاف الهجرة من الريف للحضر. ويرى العديد من الكتّاب الآسيويين أن التدريب والتعليم التقني والمهني هو قضية تنمية بالنسبة للعديد من الدول الآسيوية، ولذلك تبذل بعض دول آسيا ما في مقدورها لدفع تطبيق إستراتيجية تقوية الأوطان بالاعتماد على الأكفاء والسعي وراء إعداد وتربية ذوي كفاءات عالية وأكفاء متخصصين في مختلف المجالات, وذلك من خلال السياسات العامة لتنمية الموارد البشرية, والتي تغيرت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة من خلال إعادة هيكلة مبادرات سياسات تنمية الموارد البشرية في غالب دول آسيا, والتي من أهمها تطوير التعليم المهني نوعيا وكمّيا, حيث – مثلا- تعتزم الصين ان تزود البلاد مابين( 2006-2010) 25 مليون من خريجي المدارس المهنية المتوسطة وتزويد 11 مليون خريج من خلال المدارس المهنية العالية . وكذلك احد سياسات تنمية الموارد البشرية المطبقة في بعض دول آسيا هو التكامل بين مؤسسات التعليم المهني ومؤسسات التدريب المهني من خلال ربط نظام شهادات المهارات ببرامج التعليم المهني . وسياسة ثالثة مهمة في بعض دول آسيا هي تزويد الشباب العاطلين عن العمل فرص التدريب والتعليم المهني من خلال برامج التعليم المهني, من اجل معالجة الآثار الناجمة عن العولمة الاقتصادية من خلال تكييف سياساتهم من اجل تلبية الحاجات الاجتماعية ومن اجل قوة عمل أكثر مهارة . وسياسة أخيرة في سياق تنمية الموارد البشرية من خلال التدريب والتعليم المهني والتقني في معظم دول آسيا هو التخلي عن الأطر التقليدية المستندة على الفصل بين مؤسسات التعليم وبين مؤسسات التدريب من جهة وبين سوق العمل من جهة أخرى من خلال تقديم سياسات تنمية موارد بشرية جديدة تدمج بين التعليم والتدريب بالانتقال الناعم من المدرسة للعمل from school to work.
وبكلمة موجزة لقد باتت سياسات تنمية الموارد البشرية من خلال التدريب والتعليم المهني احد العوامل الحاسمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لمعظم دول آسيا.