شهدت منطقة الشرق الأوسط قدرًا من التفاعلات الدولية الصراعية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي سمحت بقيام صراعات إقليمية عديدة، وقد زادت حدة هذه الصراعات مع توسع دائرة الجغرافيا السياسية التي نشأت على يد عالم الجغرافيا البشرية الألماني فردريك راتزل بعد نشر كتابه 'الجغرافيا السياسية' في عام 1897م، وظهور علم الجيوبوليتيك ومصطلح الجيوستراتيجيا او الجغرافية الإستراتيجية الذي تعني بدراسة الموقع الإستراتيجي للدولة أو المنظمة الإقليمية، ومدى تأثير هذا الموقع في العلاقات السلمية أو الحربية وتعتمد الجغرافيا الإستراتيجية في التحليل على الدمج بين الجغرافيا السياسية والطبيعية والبشرية والعسكرية والاقتصادية، وتهدف الجغرافيا الإستراتجية الى تخطيط ورسم السياسة الخارجية للدولة وفق الاعتبارات الجغرافية والإستراتيجية. وتتخذ من المنهج القومي إطارا للتحليل عند دراسة العلاقة بين وضعية العوامل الجغرافية ودورها في وضع السياسة الخارجية للدولة، ويمكن تعريف الجغرافيا الإستراتيجية على أنها عبارة عن دمج الاعتبارات الإستراتيجية مع عناصر الجغرافية السياسية أو التوجه الجغرافي لسياسة الدولة الخارجية إلا أن التعريف العلمي يشير إلى أن الجغرافيا الإستراتيجية هي العلم الذي يسعى إلى جمع وتحليل ودراسة وتفسير المعلومات الجغرافية الأساسية للدولة لاستخدامها في إعداد الخطط الإستراتيجية لإدارة الحرب.
وتهدف الجغرافيا الإستراتيجية الى: المساهمة في توضيح الأبعاد الجغرافية التي تدخل في إطار رسم السياسة الخارجية للدولة لتحدد نمط هذه السياسة وتوجهاتها، ووضع مفهوم متكامل للمصلحة القومية من منظور جغرافي إستراتيجي يأخذ كافة الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية والبشرية في الحسبان وتحديد المواقع والمناطق الإستراتيجية في العالم وفق الاعتبارات الجغرافية. وأخيرًا رسم وتوضيح الإستراتيجية العامة للدولة في أوقات الصراعات والحروب.
وبتطبيق مفهوم الجغرافيا الإستراتيجية على إقليم الشرق الأوسط الذي يغطي المساحة ما بين أفغانستان شرقا الى الدول الإسلامية، آسيا الوسطى شمالا الى المغرب العربي غربا الى السودان والصحراء الكبرى جنوبا. تظهر الأهمية الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط حيث تعتبر شريان الحياة الرئيسي بالنسبة للعالم الغربي، وقد لعبت هذه المنطقة دورًا بارزًا في الإستراتيجية الدولية عبر السنين، فهذه المنطقة تتوسط جميع الخطوط البحرية والجوية الرئيسية المتجهة من الشرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشرق، كما أنها تحوي الموانئ والمطارات اللازمة لإيواء قوافل الانتقال البرية والبحرية عبر المسارات العالمية.كما أنها منطقة تعج بمختلف أنواع الصراعات على كافة أشكالها، وتحتل مكانة كبيرة في إستراتيجيات القوى العظمى في النظام الدولي الراهن.
وقد ظهرت الأهمية الخاصة لهذه المنطقة بعد اكتشاف النفط بها، وقد حاولت قوى كبيرة الهيمنة على هذه المنطقة من أجل مواردها الاقتصادية والإستراتيجية من أجل موقعها الجغرافي والإستراتيجي وكذلك من أجل أهميتها في التجارة العالمية وربطها بين الشرق والغرب ووجود شريان ملاحي هام وخطير وهو قناة السويس.
ويقصد بالعوامل الجيوستراتيجية للصراعات أي العوامل المؤثرة التي تدفع الدول للاهتمام بالبعد الجغرافي الإستراتيجي في معادلات الصراع والتعاون والحرب والسلام. ومن أهم العوامل الجيوستراتيجية التي ساعدت على تخليق الصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط ما يلي:
الموقع الجغرافي الإستراتيجي المتميز الذي يتمتع به إقليم الشرق الأوسط كما ذكرنا سلفًا.
تتمتع منطقة الشرق الأوسط وفي منطقة القلب منها بثروات طبيعية وتعدد مصادر الطاقة ومن أهمها البترول الذي كان من أهم عوامل التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان للسيطرة على بترول آسيا الوسطى وبحر قزوين.
وجود دولة إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط عامل ساعد على نشوب الصراعات لضمان أمنها واستقرارها في ظل صراعها مع دول الجوار العربية واستمرار دعم الولايات لها بالتسليح والمعونات العسكرية.
انتشار منابع ومصادر الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، وتحول ظاهرة الإرهاب من النطاق الداخلي والإقليمي إلى النطاق العالمي وخير مثال هجمات ايلول( سبتمبر) 2001 والتي وقعت في الولايات المتحدة.
تفشي مظاهر الاستبداد في أنظمة الحكم في إقليم الشرق الأوسط وعدم تجاوبها مع احتياجات الشعوب المحكومة بأساليب القمع.
وجود الإسلام الراديكالي مما أثر على نمط الثقافة الشرق أوسطية وأدى إلى تزايد التنظيمات الإرهابية والحركات الإسلامية.
تتسم المنطقة بوجود أزمات اقتصادية وركود سياسي نظام تعليمي فاشل ووجود تهديد ثقافي كلها عوامل تدعو إلى الإصلاح وضرورة نشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
سعي بعض دول إقليم الشرق الأوسط الى حيازة أسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية مثل إيران مما يهدد أمن واستقرار الإقليم بزيادة الأخطار النووية، كما تتسم هذه المنطقة بوجود الدول المارقة مثل سورية وليبيا ولكن ليبيا تخلت عن برنامجها النووي.
فشل أغلب النظم الشرق أوسطية في تحقيق العدالة الاجتماعية، بسبب غياب الديمقراطية، وافتقادها لأبسط قواعد الحكم الديمقراطي، كما أنها تسيء استعمال السلطة وتنتهك حقوق الأقليات وهذا يضعف شرعية وجودها، وتنتهك حقوق المرأة وتؤخر تنمية المنطقة، كما تتسبب في هجرة العقول وتدمير الإنسان ونشر الأفكار الهدامة والفوضى وإلغاء الآخر، وأدى هذا إلى حالة من التمزق والتشتت خاصة بشأن القضايا المصيرية.
في فترة الحرب الباردة كانت صراعات منطقة الشرق الأوسط تحت السيطرة والتحكم بفعل وجود قطبين متنافسين، ولكن بعد انتهاء فترة الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيبتي بدأت الصراعات والأزمات تتزايد بشدة سواء كانت صراعات عرقية أو أثنية أو حروب أهلية.إلى أن أصبح الشرق الأوسط يغلي اليوم بالصراعات والتوازنات التي تعيد تشكيله في قلب النظام العالمي الجديد.
مما سبق نؤكد أن الجغرافيا الإستراتيجية ساهمت في تشكيل الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط والتي يمكن أن نرصد أهم ملامحها فيما يلي:
تسعى الولايات المتحدة إلى خلق شرق أوسط يتسم بالاستقرار والسلام والرخاء لأن افتقار الولايات المتحدة لأي عنصر من هذه العناصر يخلق تهديدات للمصالح الأمريكية وأول هذه التهديدات هي مشكلة الإرهاب والتي يقوم بها التيار السلفي من العالم الإسلامي، وثاني هذه التهديدات هي اضطراب أسعار البترول في المنطقة مما يشكل تهديدا للمصالح الحيوية الأمريكية حيث أن الشرق الأوسط يساهم بالشريحة الكبرى من الإنتاج العالمي من البترول بامتلاكه غالبية احتياطات العالم كما يملك أسهل مخزون بترولي يمكن استخراجه.
إن عدم استقرار الشرق الأوسط يرجع إلى ضعف الأنظمة الحاكمة المستبدة وافتقارها للشرعية والركود في أنظمتها الاقتصادية وانتشار أزمات البطالة وسوء التعليم وانتشار مشاعر الغضب واليأس بين الشعوب، وهذا يعني أن التوصل إلى شرق أوسط أكثر هدوءًا لا يمكن تحقيقه إلا بالسعي وراء تحقيق هدف الإصلاح السياسي لجعل الحكومات أكثر تجاوبًا للشعوب والإصلاح الاقتصادي، من خلال ترسيخ أسس مبادئ السوق الحرة والإصلاح الاجتماعي من خلال التأقلم بين القيم التقليدية وضروريات الحداثة لخلق نظام جديد يتسم بالليبرالية ويشبه أنظمة الحكم في أوروبا الشرقية وشرق أسيا. إن الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط مرهونة بما يتحقق في العراق، فإذا نجحت جهود إعادة الإعمار وتحول المجتمع إلى الاستقرار والتعددية سيكون هناك نموذج شرق أوسطي لما يجب ان تكون عليه الدولة العربية الليبرالية، فإذا كان نجاح النموذج العراقي من شأنه أن يساعد في دفع الإصلاح الليبرالي عبر الشرق الأوسط فإن فشلة قد تكون فيه نهاية هذه العملية، وهذا يفسر لنا أهمية الملف العراقي في الشرق الأوسط تحديداً،لأن فشل النموذج العراقي يعني عدم جدوى مشروع الإصلاح الأمريكي في الشرق الأوسط الإسلامي، ويعني أيضًا انحدار العراق الى الفوضى والحرب الأهلية مما يؤثر على جيران العراق ويساعد على نشر الفوضى في منطقة الشرق الأوسط وتكون البيئة مواتية لإخراج أسوأ أنماط الجماعات الإرهابية.
هكذا تولي الولايات المتحدة منطقة الشرق الأوسط أهمية خاصة في معظم إستراتيجيتها وسياساتها فهل تبقى الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط دون تغيير بعد مرور أكثر من عام على دخول الرئيس الأمريكي باراك أوباما البيت الأبيض أم أن الأيام القادمة سوف تكشف عن رؤى مغايرة مع التقلبات الشديدة التى تشهدها القضايا السياسية المعاصرة
المصدر :