رؤية استراتيجية في القضية الفلسطينية
كتبها فضيلة الشيخ
أ.د ناصر بن ســليمان العمر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً.
أمّا بعد :
يعيش إخواننا في فلسطين هذه الأيام مرحلة عصيبة من تاريخهم ، فالاستكبار اليهودي قد بلغ أوجه، وكشف شارون عن وجه بني صهيون الحقيقي، فالقتل ، والتشريد وهدم المنازل والحصار الاقتصادي الرهيب ، وخامسها الخذلان المخزي من لدن المسلمين عامة والعرب خاصة لإخوانهم في فلسطين ، كل هذه الأحوال تطرح سؤالاً مهماً : هل لهذا الأمر من نهاية ؟ وهل لهذه البلية من كاشفة ؟ ويتحدد السؤال أكثر : أين المخرج ؟ وما هو السبيل ؟ وبخاصة وقد بلغ اليأس مبلغه في نفوس كثير من المسلمين وبالأخص إخواننا في فلسطين وأصبح التشاؤم نظرية يروج لها البعض ، مما زاد النفوس إحباطاً، والهمم فتوراً .
وأقول : مع مرارة الواقع ، ووجهه الأسود الكالح ، وامتداد هذا الليل وتأخر بزوغ الفجر ، مع ما يحمله هذا الليل من فواجع ومواجع مصحوباً بالرعود والبروق والصواعق والرياح العاتية ، كل ذلك لا ينسينا سنن الله في الكون وأن الظلم مهما طال فلن يستمر ، وأن تقدم مدة الحمل مؤذن بالولادة ، وساعات الطلق الرهيبة تعلن نهاية المـعاناة فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا و ( لن يغلب عسر يسرين ) حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين .
وأقول بحق : إن تلك الأحداث المؤلمة التي يستخدمها المتشائمون واليائسون دليلاً على تشاؤمهم ويأسهم ؛ هي نفسها من أقوى البراهين لديّ على التفاؤل والنظرة إلى المستقبل بأمل مشرق ، وعزيمة صادقة ، وثقة بوعد الله وقرب تحقق وقوعه أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون وهذا التفاؤل وتلك الثقة لم تبن على عاطفة جياشة مجردة من الدليل ، سرعان ما تهتز أمام ريح عاتية ، أو تذبل لطول الطريق وقلة الزاد وانفضاض المعين والرفيق بل هي قناعة مبنية على أسس عميقة الجذور ، من السنن الكونية التي لا تتخلف وآيات الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد ، وكلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، ففي ظروف مشابهة من تسلط قريش وطغيانهم واستكبارهم مع ضعف المؤمنين وقلة المعين والناصر ، أتى الصحابة إلى رسول الله يشكون حالهم ، ويطلبون منه الدعاء والاستنصار ، وتحس من كلامهم بمرارة المعاناة واستطالة الطريق ، فإذا رسول الله ينقلهم نقلة أخرى ، نقلة الواثق بربه المؤمن بصدق وعده ( والله ليسيرن الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ) نعم لقد تحقق هذا الوعد وصدق الله ورسوله ، ولكن ذلك لم يكن بين عشية وضحاها ، بل احتاج إلى زمن طويل من الجهاد والبلاء ، فليست العبرة متى يتحقق النصر وإنما المهم كيف يتحقق ، وبأى وسيلة يستجلب ؟ سواء طال الزمن أو قصر ، فلله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهوالعزيز الرحيم .
وفي ظل تلك الأركان الصلبة ، سأقدم هذه الرؤية ، آملاً أن تكون مساهمة في رفع تلك المعاناة المعنوية ، المنبثقة عن المعاناة الحسية التي طال أمدها ، واسود ليلها.
إننا من أجل أن نعرف كيف يتحقق النصر ، لابد أن ندرك كيف وقعت الهزيمة، ومن أجل أن نرسم طريق الخلاص لابد أن نعرف كيف حدثت المعاناة، وما بني في عشرات السنين لا تنتظر زواله بين غمضة عين وانتباهتها ؛ لأن السنن الكونية تدل على غير ذلك ، فكما أن هناك أركاناً للهدم ، فهناك أسس للبناء ، وما شيدته الجاهليات المتعاقبة على مرور الأزمان ، اقتضى وقتاً ليس باليسير حتى هدمه الأنبياء والمصلحون وأقاموا مكانه بناء راسخاً لا تهزه الرياح فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصر الله قريب وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ومتى جاء الحق وزهق الباطل ؟ بعد جهاد وصبر ومصابرة وطول معاناة. وسأسوق هذه الرؤية مسلسلة بنقاط مستقلة ، تؤخذ النتيجة من مجموعها لا من آحادها ، حيث يكمل بعضها بعضاً، ويأخذ بعضها برقاب بعض، وأسأل الله التوفيق والسداد ، وأن يجعل لي فرقاناً ينير لي الطريق ويدلني على مكامن القوة والضعف فيه ، لأدلّ قومي إليه فإن الرائد لا يكذب أهله .
أرض فلسطين أرض أسلامية :
في الحديث الصحيح الذى رواه أبو ذر – رضى الله عنه – قال : قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ فقال : ( المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى ) قلت : كم كان بينهما ؟ قال : ( أربعون سنة ) . وهذا ولا شك قبل بعثة موسى عليه السلام ، وإبراهيم عليه السلام الذي رفع مع إسماعيل القواعد من البيت هو الذى عيّن بأمر الله مكان المسجد الأقصى وهو الذي قال الله فيه : ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين.
فالمسجد الأقصى على مرّ التاريخ كان مسجداً إسلامياً ومن قبل أن يوجد اليهود ، ومن بعد ما وجدوا سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله وفلسطين أرض الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى وزكريا ويحي وغيرهم – عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- وكلهم مسلمون إن الدين عند الله الإسلام لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون إذاً فلسطين أرض إسلامية ، لا حق لأحد غير المسـلمين فيها إن الأرض لله يورثها من يشاء من عـباده والعاقبة للمتقين .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما نحن في المسجد ، إذ خرج إلينا رسول الله فقال : (انطلقوا إلى يهود) فخرجنا معه ، حتى جئناهم، فقام رسول الله فناداهم ، فقال : (يا معشر اليهود أسْلموا تَسْلَموا) فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله : (ذلك أريد ، أسْلِموا تسْلَموا) فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ، فقال لهم : (ذلك أريد) فقال لهم الثالثة : (اعلموا أنما الأرض لله ورسوله ، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض ، فمن وجد منكم بما له شيئاً فليبعه ، وإلاّ فاعلموا أن الأرض لله ورسوله) رواه مسلم .
وهذا منطلق مهم ، وأرضية صلبة يبنى عليها ما بعدها من مواقف وتضحيات فليست قضية فلسطين خاصة بمن ولد على أرض فلسطين دون النظر إلى دينه وعقيدته ، بل هي قضية إسلامية تخص المسلمين أينما ولدوا ، وحيثما وجدوا ولا شك أن من ولد على أرض فلسطين من المسلمين تعنية القضية من باب أولى ومن لم يكن مسلماً فلا حق له في فلسطين ولو ولد فيها أباً عن جدّ .
فعندما لحق أحد المشركين – من أهل المدينة – برسول الله يريد الدفاع عنها ، عندما جاءت قريش يوم بدر ، وكان صاحب نجدة وبأس ، قال له :( ارجع فلن أستعين بمشرك ) وعندما أعلن إسلامه وإيمانه ، أذن له رسول الله بالمشاركة قائلاً له : ( فانطلق ).
يهود الأمس ويهود اليوم :
بسبب قوة الصراع بين المسلمين واليهود وبخاصة على أرض فلسطين ، وما نراه صباح مساء من جرائم ترتكب في حق إخواننا في الداخل ، وما يدّعيه اليهود من الحق التاريخي في الأرض المباركة ، كل ذلك أفرز بعض الأخطاء التي وقع فيها كثير من المسلمين ، من الخلط بين يهود الأمس الذين آمنوا بموسى – عليه الصلاة والسلام – وبين يهود اليوم ، وهذا الخلط له سلبياته العقدية والعملية ومن هنا كان لابد من إيضاح بعض المسائل المهمة في هذا السياق ، أوجزها بما يلى :
1 ـ بنو إسرائيل الذين آمنوا بموسى - عليه الصلاة والسلام – غير يهود اليوم فأولئك كانوا مسلمين مؤمنين ، وهؤلاء كفار مشركون تبعاً لمن كفر بموسى وخرج عن شريعته ، وبنو إسرائيل هم نسل يعقوب – عليه الصلاة والسلام – الذي قال الله عنه وعنهم : ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وانسجاماً مع هذه الحقيقة قال يوسف – عليه الصلاة والسلام - : واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء والذين آمنوا بموسى – عليه الصلاة والسلام – قال الله فيهم : ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على العالمين وقال فيهم : ولقد اخترناهم على علم على العالمين وقال فيهم : وجلعنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لماّ صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون وقال فيهم محمد كما في حديث ابن عباس الصحيح : (عرضت عليَّ الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهيط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه) الحديث. أمّا الذين خرجوا عن ملة موسى فقد وقعوا في الشرك كما قال سبحانه : وقالت اليهود عزير بن الله وقال فيهم : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ثم قال : وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون وقال عنهم : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا إذاً فيهود اليوم لا علاقة لهم بالذين آمنوا بموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومن كتب لهم الأرض المقدسة وإنما هم امتداد لمن كفر بموسى والأنبياء من بعده ممن حرّف التـوراة ، وخرج عن دين التوحيد وشـريعة موسى عليه الصلاة والسـلام.
2ـ أغلب يهود اليوم ليسوا من بني إسرائيل ، بمعنى أن الذين يحتلون فلسطين اليوم ليسوا من نسل بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى عليه الصلاة والسلام أو سلالتهم حيث إن اليهود الذين يعتبرون من نسل بني إسرائيل وهم المعروفون بـ( السفاراديم ) لا يزيدون عن 20% من عدد اليهود في العالم ، مع ما داخل هذا العدد من امتزاج وتزاوج مع جنسيات وسلالات أخرى ، بمعنى أن هذه النسبة القليلة ليست نسبة خالصة من نسل بني إسرائيل ، أمّا النسبة الكبرى من يهود اليوم والبالغة 80% فليسوا من نسل اليهود الأصليين ، بل هم من أصول أوروبية وشرقية ومن مختلف بلدان العالم ، وهم المعروفون بـ (الاشكنازيم) حيث دخلوا اليهودية بالتحول من دياناتهم الوثنية وغيرها. ومن خلال هذه الحقيقة التاريخية تسقط دعوى المحتلين لفلسطين بـ (الحق التاريخي) ويتضح أنهم محتلون لا عائدون ، وأن بلادهم وبلاد آباءهم هي تلك البلاد التي قدموا منها لا التي جاؤا إليها ، أمّا النسبة القليلة التي تعتبر من نسل بني إسرائيل فلا حق لهم في فلسطين من وجهين :
أولاً : أنهم خرجوا عن دين موسى الصحيح وحرّفوا التوراة ، وفلسطين أرض إسلامية لا حق لغير المسلمين فيها .
ثانياً : أن فلسطين لم تكن لبني إسرائيل وإنما كانت للجبارين ، وهم أهلها قبل بني إسرائيل ، وكتبها الله لبني إسرائيل وأذن لهم بدخولها عندما كانوا على المنهج الصحيح ، فلما انحرفوا ، سقط حقهم فيها. ومن خلال ما سبق تسقط دعوى الحقّ التاريخي ، ويثبت بطلان هذه الدعوى جملة وتفصيلا.
3ـ أن صفات اليهود التي ذكرها الله في القرآن ، ممتدة عبر التاريخ يتوارثونها جيلاً بعد جيل ، وأمة بعد أمة ، وهي صفات الغدر والخيانة ، والجبن والبخل والدسائس والمؤامرات ، والعلو والاستكبار وغيرها من الصفات التي بينها الله سبحانه وتعالى في القرآن ، وقد تجلّت في اليهود الذين آذوا موسى – عليه الصلاة والسلام – وخرجوا عن شريعته ، وهي صفات جبليّة خلقية ترسخت مع مرور الزمن وابتعادهم عن المنهج الصحيح ، حتى أصبحت جزءاً من دينهم المحرّف وخصائصهم الثابتة ، يربّون عليها أبناءهم يشبّ عليها الصغير ، ويشيب عليها الكبير ، ويُعلّمُها من يدخل في هذا الدين من غيرهم ، ولم يسلم من تلك الصفات إلا القليل منهم وهم الذين آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام والتزموا بما جاء به ، قال سبحانه : منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ولذلك نجد القرآن وهو يذكر صفات اليهود لا يعمم الحكم عليهم ، بل يفرّق بين المؤمنين وغيرهم وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون .
إن فقه هذه الحقائق والتعامل معها جزء من استراتيجية التعامل مع اليهود والغفلة عن ذلك ستؤدي إلى خلل في التصور والاعتقاد والعمل ، مما يؤخر حسم المعركة ويطيل أمدها ؛ لأن ما بُنِيَ على خطأ فمآله إلى بوار .
الصراع في فلسطين صراع قديم :
الصراع هناك لم يكن وليد اليوم ، وإنما له جذوره في التاريخ ، ولم يكن ذلك الصراع صراعاً عرقياً أو قومياً ، وإنما هو صراع بين الحق والباطل ، بين صاحب الحق وبين الدخيل ، بين الكفر والإسلام ، وبيت المقدس كان على مرّ التاريخ ملكاً للمسلمين ، وهم الأنبياء وأتباعهم الموحدون ، وعندما تزيغ طائفة عن هذا الطريق يبعث الله من المؤمنين من يعيد الحق إلى نصابه والبيت إلى أهله ، بل قد يبعث الله من يؤدب أولئك الذين خرجوا عن دينه وانحرفوا عن سبيله وطغوا واستكبروا وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيرا . فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا وهكذا كان عندما خرج بنو إسرائيل عن دينهم وبغوا وطغوا بعث الله عليهم بختنصر ، فقتلهم شرّ قتلة فكانوا عبرة في التاريخ .
وبعدما خرج الروم عن دينهم ، وحرّفوا الإنجيل أذن الله للمسلمين بفتح بيت المقدس ، فأصبحت ولاية من ولايات المسلمين لا حق للروم فيها سوى الإقامة التي شرعها الله لأهل الذمة بعقود وعهود .
ولما ضعفت الخلافة الإسلامية نقض النصارى العهود واستنجدوا ببني جلدتهم في الغرب ، فكان الصراع الذي طال أمده حتى قيض الله لهذه الأمة نور الدين الذي وضع الأسس لعودة بيت المقدس إلى أهله ، ثم جاء صلاح الدين فكان الفتح على يديه ، بعد معركة حطّين ، فدخل بيت المقدس صلحاً كما دخلـه عمر – رضي الله عنه - فارتفعت رايات التوحيد على رايات الصليب والنواقيس ، واستمر المسلمون يسيطرون على تلك الأرض المباركة حتى ضعفوا مرة أخرى وابتعدوا عن دينهم ، ودبّ الخلاف بينهم ، فجرت عليهم سنة الله في الأمم ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون فتحالفت قوى الكفر في أقطار الأرض وجاؤوا بهذه الشرذمة ، عقوبة من الله للمسلمين على فعلهم ولعلهم يرجعون .
إن المتأمل لهذا الصراع في جميع فتراته يدرك طبيعة المعركة ، وأنها بين الحق والباطل ، بين التوحيد والشرك ، بين الكفر والإيمان ، لم تكن المعركة – أبداً – عرقية ، أو قومية ، أو وطنية ، لم تكن بين جنس وجنس ، وقبيلة وقبيلة من أجل أرض أو تراب ، إن إدراك هذه الحقيقة يبين لنا كيف حدثت الهزيمة ولماذا تأخر النصر ، وكيف يتحقق الانتصار إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد أولمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم .
إننا إنْ لم ندرك هذا الأمر ، ونعرف سرّه ، سنكون كمن يبحث عن الماء في أعالي الرمال ، بل أصدق من ذلك أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .
إن فقه هذه الحقيقة التي لا جدال فيها ولا ريب ، يجعلنا نضع الأمور في نصابها ونعيدها إلى جذورها ، ومن ذلك أننا عندما ندعم إخواننا في فلسطين إنما ندعمهم لأننا وهم مسلمون ، كلنا في خندق واحد ، ديننا واحد ، وقضيتنا واحدة ، أما من عداهم فهم واليهود سواء ، سواء أكانوا عرباً أم عجماً ؟ ولدوا في أرض فلسطين أو كانوا دخلاء غرباء ؟
ومن ذلك أننا بسبب قوة الصراع واختلاط الحق بالباطل ، وكثرة اللبس والتزييف قد ننكر حقائق ثابته ، خوفاً من أن الاعتراف بها يسلب الحق من أيدينا ، وليس هذا هو الطريق ، فما كان إنكار الحقائق وسيلة لإعادة الحق وردّ الباطل في يوم من الأيام .
فنجد أن اليهود يتمسكون لإثبات أن لهم حق في فلسطين بما أحدثه بعض الأنبياء في القدس- عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام – فنأتي فننكر حدوث هذا الأمر ، خوفاً من ضياع الحق من أيدينا ، وهذا مسلك وعر وطريق لا يوصل إلى الحق ، وكان الأجدر والأولى ، أن نبين أن ما أحدثه الأنبياء من بناء أو إصلاح في بيت المقدس أو المسجد الأقصى أيّا كان نوعه أو تاريخه فهو حجة لنا ، ودليل إثبات لقضيتنا ، لأن الأنبياء مسلمون ، لا علاقة ليهود اليوم بهم ، ولا حجة لهم فيما فعلوه ، ولا نقف عند اختلاف الاسم ، فما بني في المسجد فهو من المسجد ، ما دام من بناه نبياً أو رسولاً قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين. إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .
وأشير هنا إلى مسألة وقع فيها اللبس والخطأ عند كثير من المسلمين ، وهو اعتقادهم بأن مسجد قبة الصخرة ليس من المسجد الأقصى ، وإنما مسجد عمر هو الأقصى ، وحقيقة الأمر أن كلا المسجدين من الأقصى حيث إن المسجد الأقصى شامل للمسجدين ولما بينهما ، وهو بناء سليمان عليه السلام- وكل ذلك ملك للمسلمين ، لا حق لأحد غيرهم فيه .
فكرة الدولة اليهودية :
عندما انحرف اليهود عن الدين الصحيح الذي جاء به موسى – عليه الصلاة والسلام – لم يستقروا في أرض ، ولم يملكوا وطناً ملكاً شرعياً ، وإنما كانوا يتنقلون في أصقاع الأرض ، فالتشرد من طبيعتهم والتفرق من خصائصهم .
وكانوا يستغلون ما معهم من بقية دين ونصوص توراة يستفتحون بها على الذين كفروا ، وبهذا دخلوا يثرب ، وتمكنوا من السيادة عند الأوس والخزرجفلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين وهكذا ديدنهم فالمكر والخديعة سفينتهم ، واستغفال الشعوب مطيتهم ، وعندما تم إجلاؤهم من المدينة أولاً ، ثم من جزيرة العرب ثانياً ، لم يستقروا في أرض ولم يجتمعوا في بلد، بل تفرقوا أيادي سبأ وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كل ممزّق إن في ذلك لآية لكل صبار شكور .
لقد عاش اليهود أقليات مستضعفة في أرجاء المعمورة لم يدخلوا بلداً إلا أحدثوا فيه فساداً ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحبّ المفسدين ولم يستوطنوا بلداً إلا كانوا مصدراً للقلاقل والفتن ، يستمدون أمنهم من خوف الآخرين ولذلك كرهتهم الشعوب ، لكن لديهم قدرة عجيبة مبنية على الخداع والدسائس والمؤامرات في إقناع الآخرين بحاجتهم إليهم ، ولذلك سيطروا على كثير من مقدرات الأمم ، وبخاصة الاقتصادية منها ، لما جبلوا عليه من حبِّ المال وعدم التورع عن أي وسيلة تحقق أهدافهم ومآربهم ، والذي يتأمل في تاريخ اليهود منذ قديم الزمان يصل إلى حقيقة لا مراء فيها بأنهم : إما أن يكونوا مستعلين جبارين ظالمين ، أو أقلية محتقرين مستضعفين ، والأخيرة هي السمة السائدة في تأريخهم إلا عندما كانوا أهل ذمة في حمى الإسلام ، فقد كفل لهم حقوقهم ، ومنع الآخرين من ظلمهم ، ولكنهم يخربون بيوتهم بأيديهم فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ولقد وطن اليهود أنفسهم على هذا الأمر ، ولم يكونوا يحلمون بأن يعودوا أمة لها شأن ، أو دولة لها كيان ، ولذا فإن فكرة الدولة اليهودية فكرة طارئة ، لم يجتمع اليهود على الإيمان بها ، بل هناك معارضة قوية لدى كثير منهم ؛ لإقامة الدولة اليهودية ، وكان على رأس المعارضين اليهودي الألماني إنشتاين صاحب نظرية النسبية المشهور ، ويصل الذي يعارضون فكرة الوطن القومي لليهود إلى أكثر من ثلاثة ملايين يهودي ، حيث يرون أنها وسيلة لاجتماعهم ليقتلوا ، كما يعرفون من نصوص التوراة ، ويرون أن بقاءهم أقليات تسيطر على مراكز النفوذ وأصحاب القرار ، دون أن يكونوا هم البارزين والظاهرين للناس أولى وآمن ، مما يمكنهم من اللعب على المتناقضات ، دون أن يضعوا بيض الثعبان في سلة واحدة .
إذاً صاحب فكرة الوطن القومي هم الملاحدة من اليهود ، وعلى رأسهم الصهيوني المعروف "هرتزل" ولم تكن فلسطين هي الخيار الأول لهم وإنما كانت هناك عدة دول منها أوغندا ، ولكن بعد دراسات دعمها الغرب النصراني وجدوا أن أرض فلسطين هي الأرض المناسبة لإقامة دولتهم ، وبخاصة أن هناك نصوصاً من التوراة تخدمهم ، كالنصوص الواردة في يهودا والسامرة ، وأرض الميعاد ، وهيكل سليمان وهلم جرّا .
ويكفي أن نعلم أن نسبة اليهود الذين في فلسطين بعد الهجرات المتوالية التي نظمتها الوكالة اليهودية وتعاونت معها الدول الكبرى لم تتجاوز 20% من عدد اليهود في العالم ، ولولا التعاون الدولي والاعتماد على النصوص التوراتية لترغيب الهجرة إلى فلسطين لما تحقق نصف هذا العدد ، ومما هو جدير بالذكر أنه إلى قبيل نهاية القرن التاسع عشر – أي قبل المؤتمر اليهودي الذي قرر إقامة الدولة اليهودية في فلسطين – لم يكن يوجد في فلسطين من اليهود ســوى (24) ألف يهودي فقط .
وهنا سؤال مهم :
هل إسرائيل دولة دينية أو علمانية ؟
والجواب باختصار : إن إسرائيل دولة علمانية عنصرية قامت على فكرة دينية أي أن حكومات إسرائيل حكومات علمانية استغلت الدين اليهودي لتحقيق أهدافها ، وهذا الأمر ليس بدعاً في التاريخ ، فكم من دولة قامت معتمدة على الدين ، وهي عن الدين بمعزل ، ولذلك نجد كثيراً من الدول العلمانية المعاصرة إذا واجهتها الأزمات وخافت أن ينفضّ من حولها الناس ، استغلت الدين ولوّحت بنصوصه فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجاهم إلى البر إذا هم يشركون .
والتاريخ يكرر نفسه ، ولكن أكثر الناس لا يعقلون .
مراحل قيـــام إســرائيل :
كان عدد اليهود في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر لا يزيد عن خمسين ألفاً، بل كانوا قبل عشرين سنة من هذا التاريخ لا يزيدون عن 24 ألف يهودي مما يؤكد أن اليهود زرعوا في فلسطين شوكاً وليسوا من نبتها ، ولقد قامت إسرائيل على ثلاث دعائم : -
1. التخطيط اليهودي الماكر .
2. التآمر الدولي .
3. الخيانات العربية الضالعة بالولاء للشرق والغرب .
وهيأ لنجاح هذا الثالوث ضعف المسلمين وتفرقهم ، بل وتناحرهم وبخاصة بعد سقوط الدولة العثمانية ، بل إن القوميين العرب ضالعون في مؤامرة إسقاط الدولة العثمانية .
ويُمكن أن تختصر مراحل قيام إسرائيل بما يلي : -
1. المؤتمر اليهودي في سويسرا عام 1897م الذي أقرّ قيام وإنشاء وطن قومي لليهود .
2. وعد بلفور – وزير خارجية بريطانيا – عام 1917م الذي وعد اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين .
3. قرار عصبة الأمم عام 1922م بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني مما ساعد بريطانيا – بدعم دولي – على الوفاء بوعدها بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين .
4. مؤتمر سايكس بيكو وتقسيم الدول إلى مناطق استعمارية للدول الكبرى بعد الحرب العالمية .
5. قيام دولة إسرائيل عام 1948م .
وبين تلك المراحل أحداث كبرى لا تخفى على من يعنى بتلك القضية.
هل كان هناك جهاد في فلسطين ؟ ونظرية الدولة التي لا تقهر
منذ دخل اليهود إلى فلسطين وبدأوا في تنفيذ مخططهم لإقامة دولتهم ، بدأ الجهاد هناك ، واتخذ اشكالاً عدة ، وعلى رأسها القتال المسلح وغالباً بصورة ما يسمى حرب العصابات وكان يقوى حيناً ويضعف أحايين أخرى ، كل هذا من داخل فلسطين ، أما من خارجها فلم يكن هناك أي مواجهة مع اليهود إلا الجهاد الذي قام به المسلمون بعد قيام إسرائيل وهو ما يسمى بكتائب الإخوان وهي مواجهة محدودة أحبطها القوميون قبل اليهود ، وكذلك كانت هناك معارك خاطفة كما حدث في الكرامة ونحوها ، أما ما عدا ذلك فلم تدخل إسرائيل في أي حرب حقيقية مع العرب – سوى عام 1973م – وهي حرب ذات أهداف محددة ، ولذلك لم يسمح بتجاوزها عندما تحققت تلك الأهداف وأهمها :
1. تحريك الوضع الذي كان يسيطر عليه الجمود آنذاك .
2. إعادة سيناء إلى مصر عربوناً لأن تتزعم مصر محادثات السلام .
3. تهيئة المنطقة لمرحلة السلام مع اليهود .
أما ما عدا ذلك فلم تكن هناك مواجهات حقيقية مع اليهود، يقول أمين الحافظ وهو رجل علماني كان رئيساً لسوريا في الخمسينات : "لم يدخل جيش من الجيوش العربية الحرب مع إسرائيل عام 1948م إلا كتائب الإخوان" .
وقد شهد مثل هذه الشهادة بهجت أبو غربية وهو من المعاصرين للأحداث المتخصصين في قضية فلسطين ، والذي يرجع إلى مراكز البحوث المتخصصة يدرك هذه الحقيقة بالأدلة والبراهين .
أما عام 1967م فلم تكن هناك أي مواجهه بل ضُربت الطائرات العربية وهي جاثمة على الأرض وكثير من قادتها في الملاهي والحانات ، وتم احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية في ساعات معدودة ، ومراجع التاريخ خير شاهد على ذلك .
إذاً فنظرية الدولة التي لا تقهر حدثت مع الهزيمة النفسية التي حلّت بالعرب وهي من صنع الإعلام العَربي قبل غيره ، وكانت جزءاً من الاستراتيجية اليهودية في حرب المسلمين ، وإشاعة الرعب في قلوبهم ، نمّاها وقوّاها الخيانات العربية المتوالية التي تزعمها القوميون والعلمانيون وحلفاء اليهود من المنافقين ، انسجاماً مع ولائهم للشرق والغرب ، حيث كانوا ينفذون ما يمليه عليهم أسيادهم حماة دولة إسرائيل وصنّاعها.
وإلاّ فاليهود أذل وأحقر من أن تكون لهم دولتهم التي لا تقهر ، والقرآن الكريم وصف نفسية اليهود وجبنهم وصفاً لم يصف به أحداً من البشر ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى والآيات في هذا السياق كثيرة واضحة ، فكيف يكون لليهود كيان لا يقهر ، ولو أتيح للمسلمين أن يدخلوا حرباً حقيقية مع اليهود لما ثبتوا ساعة من نهار لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون هذا كلام الحق سبحانه ، ومن أصدق من الله قيلا ، ومن أصدق من الله حديثا ، وتأمل قوله سبحانه : لأنتم أشدُّ رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لتعلم خرافة دولة إسرائيل التي لا تقهر ، ولتعلم أن واقعها الآن مصداق لقوله تعالى : وحبل من الناس فلولا هذا الحبل من الناس لكان للمسلمين معها شأن آخر.
وما فعله ويفعله أطفال الحجارة مع اليهود ، من أقوى البراهين المعاصرة على تعرية تلك المزاعم وسقوط دعوى إسرائيل التي لا تقهر.
استراتيجية حماية إسرائيل :
إسرائيل دولة عنصرية غريبة غير مندمجة مع من حولها ، فهي خليط من شعوب يهودية غير متجانسة ، متفاوتة في بيئتها الاجتماعية ، متعددة الأعراق والديانات والمذاهب ، تنخر فيها الطبقية والحزبية مجتمعة الأجسام مختلفة القلوب تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ومع ذلك فهي أقلية في وسط بيئة غير بيئتها وأرض غير أرضها ، مع ما يحمله ذلك الشعب – صاحب الأرض – من عداء تاريخي لها ، له أسبابه ودواعيه ، وتلك الدولة واقعة بين دول تتوجس منهم ويتوجسون منها ، وهي تعلم أن شعوب تلك الدول تنتظر اللحظة التاريخية للانقضاض عليها ، وإعادة الحق إلى نصابه ، وإسرائيل تفقه هذه الحقيقة مهما حاول بعض حكام المنطقة أن يشعروها بالحماية والأمان .
وهي مع ذلك لا تملك مقومات الدولة المستقرة الآمنة ، وإنما تعتمد على الدعم الخارجي اللامحدود ، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً من الشرق والغرب .
وتعاملاً مع هذه الحقيقة ، وإدراكاً لهذا الواقع من قبل إسرائيل وحلفائها طرحت عدة مشاريع استراتيجية لحماية إسرائيل وترسيخ أقدامها ، وتجنيبها المخاطر والمفاجآت أهمها : -
1. إســرائيل الكبرى .
2. تفتيت المنطقة (الدويلات والطائفية).
3. مرحلة الســــلام .
4. الشرق أوسطية .
أما النظرية الأولى فقد ثبت فشلها واستحالتها ، وذلك أنها لم تستطع أن تحافظ على أمنها واستقرارها وسيطرتها على رقعة صغيرة ، لا تعادل إلا نسبة صغيرة من مخطط إسرائيل الكبرى ، فكيف تستطيع أن تحافظ على أضعاف ذلك ، وقد أدرك زعماء إسرائيل فشل تلك الاستراتيجية قبل حلفائها وخصومها.
أما النظرية الثانية فمع ما تحقق فيها من نجاح محدود فقد أدرك الجميع صعوبة الاعتماد عليها ، وبخاصة بعد حرب لبنان التي كانت منطلقاً لتحقيق تلك الاستراتيجية ، ثم جاءت الحرب العراقية الإيرانية ، ثم حرب الخليج، ومحاولة تفكيك العراق، كل تلك الأحداث ونتائجها أثبتت فشل هذه الاستراتيجية وصعوبة تحقيقها ، وأنها لم تكن بالسهولة التي رسمها المخططون لها ، ولذلك فلا يمكن الاعتماد عليها لحماية أمن إسرائيل واستقرارها ، وأن ما تحقق من تلك النظرية كان له سلبياته على إسرائيل نفسها ، حيث إن إحاطتها بدول صغيرة ضعيفة يسهل اختراقها ويشكل هماً لإسرائيل نفسها ، وإسرائيل تدرك قبل غيرها أن مصلحتها أن تحاط بدول قوية حليفة تسهر على حمايتها وردع من يريد بها سوءاً .
أما مرحلة الســلام ، فسيأتي الحديث عنها لاحقاً .
بقيت النظرية الرابعة (الشرق أوسطية) وهي نظرية سياسية حديثة ، جاءت من قبل حلفاء إسرائيل عندما أدركوا صعوبة نجاح الاستراتيجيات الأخرى ، وقد تزعمها "شمعون بيريز" رئيس وزراء إسرائيل سابقاً ، ووزير خارجيتها حالياً زعيم حزب العمل ، والمرشح للعودة لرئاسة حكومة إسرائيل مستقبلاً إذ إن شارون جاء لمهمة محدودة سيرحل بعد تنفيذها ، كما رحل سلفه (نتن ياهو) حيث إن هؤلاء يشكلون حرجاً لحلفاء إسرائيل المدعين للديموقراطية وحرية الشعوب.
وقد بدأت هذه النظرية قبل عدة سنوات ، وكان من أبرز ميادينها – المؤتمر الاقتصادي – الذي عقد في المغرب والقاهرة والدوحة ، مع عقد تحالفات اقتصادية مع عدد من دول المنطقة .
والعولمة القادمة ، وبالأخص منظمة التجارة العالمية قد تساهم في دفع هذه الاسترايتجية إلى الأمام .
وهي تقوم على أن تندمج دول المنطقة على استراتيجية اقتصادية وسياسية لا ترتكز على القومية أو الدين ، بل على رقعة جغرافية محدودة (الشرق الأوسط).
وهذه النظرية ترعاها أمريكا وتدعمها دول الغرب ، ويصعب الجزم بمستقبلها حيث إن المؤتمرات السابقة لم تحقق النجاح المنشود ، ونجاحها يعتمد على شكل ما ستكون عليه المنطقة بعد إعادة ترتيبها في ظل المتغيرات الدولية الجديدة والأيام القادمة حبلى بكل جديد ، نسأل الله أن يكفينا شرها .
هل اليهود والنصارى حلفاء ؟
الدارس للتاريخ يدرك شدة العداء بين اليهود والنصارى ، فمنذ محاولة قتل عيسى – عليه الصلاة والسلام – ثم رفعه بعد ذلك ، والعداء مستحكم بين الطرفين ، والتهم تتوالى بينهما ، واستمر الأمر على ذلك منطلقاً من عقيدة صلبة ذكرها القرآن وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب.
وقد شهد التاريخ صوراً مروعة من بطش النصارى باليهود ، لأن اليهود أقلية والنصارى أكثرية ، وبخاصة العداء مع الكاثوليك ، وعندما دخل الرومان بيت المقدس جعلوه مقبرة لليهود ، وعندما سقطت الأندلس – وكان اليهود يعيشون بأمان في ظل الحكم الإسلامي - بطش بهم النصارى حتى فروا إلى تركيا ، وهم المعروفون بيهود الدونمة ، الذين ساهموا مساهمة فعالة في سقوط الدولة العثمانية وليس خبر مصطفى كمال عنا ببعيد ، وجزوا الأتراك جزاء سنمار ، وفي أوروبا بطش بهم كثير من حكام الغرب ، وخاصة هتلر ، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها ، لكن اليهود بالغوا فيها وفي وصفها ، من أجل استغلال الغرب واستجلاب عطف العالم ، ودفع الإتاوات وبخاصة من ألمانيا ، وإنكار هذه الحقيقة ليس منهجاً علمياً ، والاعتدال هو الصحيح .
هذه صورة موجزة عن علاقة اليهود بالنصارى ، ولكن قد يسأل سائل فيقول : بماذا نفسر قوله تعالى في سورة المائدة : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض... الآية
فالجواب من وجهين ذكرهما المفسرون:
الوجه الأول :
ذكره البغوي وابن أبي حاتم وغيرهما ، ومعناه أنهم أولياء بعض في العون والنصرة إذا كان الأمر يتعلق بالمسلمين فهم يد واحدة ضدهم وفي حربهم وخلافهم .
الوجه الثاني :
وهو أقوى - مع أنه لا يخالف الوجه الأول – وقد ذكره صاحب المنار فقال : ومعناه : أن اليهود بعضهم أولياء وأنصار بعض ، والنصارى بعضهم أولياء وأنصار بعض ، لا أن اليهود أولياء وحلفاء النصارى ، والنصارى أولياء وحلفاء اليهود .
وبهذا يستقيم تفسير آية البقرة وآية المائدة ، وأحداث التاريخ .
إذاً العداء متأصل بين الفريقين وهذا لا يمنع من اتحادهم ضد المسلمين ماضياً وحاضراً .
وقد حدث التغيُّر الكبير في العلاقة بين اليهود والنصارى بعد ظهور حركة الإصلاح الديني التي قام بها "مارتن لوثر" و "كالفن" وأضرابهما ضد الكنيسة الكاثوليكية البابوية التي كانت تفرض هيمنتها على الدين والحياة ، ومن ذلك احتكار تفسير النصوص الدينية ، فقد طالبت الحركة الإصلاحية البروتستانتية بالرجوع المباشر إلى النصوص وترجمة التوراة والإنجيل إلى اللغات الحية كالألمانية والفرنسية والإنجليزية. وهنا اعتقد البروتستانت حرفية تلك النصوص ومنها ما يتعلق بوعد الله لإبراهيم عليه السلام وذريته بأن يعطيهم الأرض الواقعة بين الفرات والنيل ، وغير ذلك من النصوص التي تفضِّل اليهود على غيرهم وتعطيهم الحق في العودة إلى فلسطين حسب ما هو في التوراة المحرفة ، ومن هنا نشأت الحركة الصهيونية في أول أمرها نصرانية لا يهودية . وقد تفاقم خطر الصهيونية الإنجيلية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وأصبحت من أكبر قوى الضغط في أمريكا وأصبح لزعمائها مكانة متميزة لا سيما في الحزب الجمهوري . ولا يزال اليهود غير الصهاينة ومعهم الكاثوليك وغيرهم يعادون هذه الحركة كما أن الاتجاه الليبرالي يعاديها بشدة لأسباب أخرى ، لكن كثيراً من الزعماء يداهنونها لمآرب سياسية وغيرها. وعلى كل حال لا يستطيع أي باحث أن يتجاهل البعد الديني في المواقف السياسية للدول البروتستانتية مثل أمريكا وبريطانيا وألمانيا ، وقد ساعد على ذلك اختراق الصهيونية للفاتيكان نفسه الذي وصل إلى إعلان المجمع المسكوني الشهير عن تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام أي تكذيب نصوص أناجيلهم وإبطال عقيدتهم التى اعتقدوها نحو ألفي سنة ، هذا مع أن الدول الصليبية في الجملة تعتبر الإسلام هو العدو التاريخي الدائم لها وترى في الحضارة الإسلامية الند والمقابل للحضارة الغربية عامة بوجهيها الديني والعلماني .
لماذا لم ننتصر ؟ :
والانتصار الذى نتحدث عنه ، ونسعى إليه هو إخراج اليهود من فلسطين وتخليص بيت المقدس من قبضتهم ، وإقامة دولة الإسلام التي تحكم بشريعة محمد في الأرض المباركة .
والانتصار بهذا المفهوم لم يتحقق بعد ، جرياناً مع سنة الله في الأمم، حيث إن عوامل النصر قد تخلفت فتخلفت آثارها أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير .
إنه من السهل جداً أن نعيد عوامل الهزيمة إلى عدونا ، ولكن ليس هذا هو الطريق الذي يوصل إلى تحقيق أهدافنا ، وإنما هو تسلية للذات وتبرير للهزيمة .
لا يستطيع أحدٌ أن ينكر دور أعدائنا فيما حل بنا ، ولكن هل ينتظر من الأعداء والخصوم إلاّ ذاك ، هل نتوقع من خصمنا أن يسلّم لنا فلسطين على طبق من ذهب ، أو يمكننا من رقابه نتصرف بها كيف شئنا ؟
إننا من أجل أن نحقق النصر الذي ننتظر لابد أن نكون صرحاء مع أنفسنا صادقين مع بعضنا ، نشخّص الداء دون مجاملة أو مواربة أو تبعيض ، فعندما وقعت بعض الهزائم – وهي محدودة – في عهد النبي نزل الوحي يحدد مكامن الهزيمة الداخلية التي أحدثت الهزيمة الخارجية ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين وفي أحد إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم .
أرأيتم هذا البيان وهذا التحديد لعوامل الهزيمة ليس فيه إشارة واحدة إلى قوة الأعداء ومخططاتهم وتربصهم بالمؤمنين لأن هذا من الأمر المسلم به الذى جرى تقريره في مواضع أخرى ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون عضوا عليكم الأنامل من الغيظ.
وخلاصة الأمر ، أننا أضعنا فلسطين لإضاعتنا لأمر الله ، فما وقع بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة وما أصـابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير .
وقال : ( إذا تبايعتم بالعينة ، ورضيتم بالزرع ، وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد ، سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) الحديث.
يتبع باقي الموضوع