كتاب تاريخ البطاركة.. نظرة على الجانب المنسى من تاريخ مصر
عبد العزيز جمال الدين كاتب ومحقق، له عدد من الكتب الهامة منها: عجائب الآثار للجبرتى
والهوامش المقريزى
ومؤخرا صدر له كتاب تاريخ الآباء البطاركة فى خمسة أجزاء وهو للكاتب المصرى ساويرس بن المقفع والذى ظل جمال يعمل فيه 15 سنة منها ثمانى سنوات جمع للمخطوط وتحقيقه دون معونة من مؤسسة خاصة أو حكومية.. وكان جمال تعرف على أهمية هذا الكتاب من بعض مراجع التاريخ المصرى فبحث عنه وعرف أنه طبعت منه أجزاء عام 1914 فى فرنسا وعام 1960 فى مصر وهما طبعتان غير مكتملتين وبدون تحقيق وهنا قررت أنا أقوم بتحقيق الكتاب خاصة أن هناك مخطوطة كاملة فى المتحف القبطى، وأخرى فى البطريركية وأربع نسخ مصورة للمخطوط فى مكتبات فرنسية وبريطانية موجودة بدار الكتب وحصلت على نسخ من المخطوطات من هذه الأماكن مع الأجزاء المطبوعة بدون تحقيق وانتخبت من بينها نصا هو الذى قمت بتحقيقه..
المؤلف
ولد ساويرس حوالى عام915م من والد لقب بالمقفع، وكنيته أبى البشر الكاتب له عدة كتب منها: تفسير الأمانة، والمجامع، ولأن ساويرس كان يتقن علوم الكتاب المقدس، وألف فيها باللغة العربية العديد من الكتب منها: كتاب الدر الثمين فى إيضاح الاعتقاد فى الدين وترجمها جميعها بجهده الذاتى من اللغة القبطية إلى العربية، دون أن يسبقه إلى ذلك أحد، فقد جمع ساويرس بين العلوم الدينية، والعلوم الدنيوية، فعرف الفلسفة التى كانت مزدهرة فى الإسكندرية، وعلوم الكلام التى قرأها فى مصادرها، ولأن ساويرس كان يتقن اللسان العربى الوافد عمل فى وظائف إدارية وفى الدواوين. ومن هنا نكتشف مدى الجهد الشاق الذى بذله ساويرس لينقل إلى اللسان الوافد منجزات اللغة المصرية التى كانت أكثر تطوراً فى صوتياتها، وقواعدها وكتابتها، ومحتوى ألفاظها الحضارية، والدينية والأدبية. فكان ساويرس واضعاً لأول قاموس للترجمة يستعين به على ترجماته لم يعثر بالطبع على هذا القاموس وتدرج ساويرس فى الوظائف، أيام حكم الأسرة الإخشيدية حتى أصبح كاتبا ماهرا، وكانت رتبة الكاتب آنذاك رتبة مهمة فى الجهاز الإدارى للحكام الوافدين، وبعد أن ترقى إلى أعلى المناصب الرسمية تخلى عن وظيفته، ليترهبن فى أحد الأديرة.
أهمية المخطوط
كتاب ساويرس قلما يعرفه الباحثون والطلاب فى تاريخنا الوسيط، ولعل ذلك يرجع إلى أن عنون الكتاب هو تاريخ البطاركة فظنه الباحثون أنه لا يهتم بتاريخ مصر. وساويرس معلوماته وأخباره مما وجده فى الأديرة المختلفة، ومما وجده فى أيدى النصارى، ويذكر ساويرس أنه لاقى مشقة كبيرة فى ترجمة الوثائق القبطية واليونانية. وأنه استعان ببعض القبط ممن كان لهم دراية باللسان القبطى أو اليونانى. وقد شارك فى كتاب تاريخ البطاركة من أتى بعد ساويرس من الكتاب والأساقفة، ولكن الكتاب ينسب إليه، ربما لأن ساويرس كان أول من جمع سير البطاركة وترجمها من اليونانية والقبطية. ورصد الوقائع التاريخية المعاصرة لهم. ويتناول المخطوط تاريخ مصر منذ الاحتلال الرومانى فى القرن الأول الميلادى، وحتى حكم الخديوى عباس أوائل القرن العشرين، حيث توقف ساويرس عند المعز لدين الله الفاطمى، واستكمل المخطوط بعده مؤرخون آخرون بتكليف من أباء الكنيسة المصرية ما يعنى أن الكتاب يؤرخ لأطول فترة من تاريخ مصر، عشرين قرنا أو يزيد.. كذلك يقدم وجهة نظر قبطية للتاريخ المصرى منذ دخول العرب مصر وحتى أوائل القرن العشرين.. ويفصل ساويرس للأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى شهدها العصر الذى اصطلح الباحثون على تسميته عصر الولاة الذى يبدأ بدخول العرب لمصر وينتهى بتأسيس الدولة الطولونية على يد أحمد بن طولون. والأهم من ذلك عرض ساويرس لعلاقة البطاركة المصريين بولاة مصر وأمرائها وخلفائها وعلاقة البطاركة بالنوبة والحبشة وشمال أفريقيا والشام.. ويتناول الكتاب تمتع الأقباط بالحرية الدينية والاحتفال بأعيادهم وبناء وتجديد كنائسهم وعلاقتهم بالمسلمين فى مصر وغيرها من البلدان وموقفهم من الحكومات الإسلامية المتعاقبة وكذلك أفاض ساويرس عن انتشار الإسلام فى مصر وأعطانا أرقاما بعدد المصريين الأقباط الذين تحولوا إلى الإسلام، والأقباط الذين شغلوا مواقع هامة فى ظل السلطة الإسلامية وخاصة المالية والإدارية.. كذلك أفاض فى الحديث عن ثورات المصريين ضد السلطات وأهمها ثورة البشمور، كما انفرد بالتأريخ لمدينة الإسكندرية بشكل أوسع بكثير عما كتبه غيره من المؤرخين المسلمين والأقباط، ويشير إلى أن الإسكندرية كانت منذ الاحتلال اليونانى حتى حكم الإخشيديين تعتبر جزءا مستقلا عن مصر حتى فى القضاء.
ثورة البشمور
ثورة الأقباط ضد الحكام المسلمين بسبب مطالبهم المالية المجحفة، نرى سائر مؤرخى مصر المسلمين يشتركون مع ساويرس فى ذكر تلك الثورات بل يفصلون الكلام أحيانا فيما لا يفصل فيه مؤرخ البطاركة، وقد تعددت ثورات المصريين وشملت الوجهين البحرى والقبلى. وكان أعنف هذه الثورات تلك التى كان يقوم بها أهل البشمور، وهى المنطقة الرملية الساحلية بين فرعى دمياط ورشيد. وظل المصريون الأقباط يقومون بالثورة بعد الأخرى طوال القرن الثامن الميلادى وكانت حكومة العرب تقابل تلك الثورات بالقوة. وكان يتبع إخماد تلك الثورات فى العادة تحول عدد كبير من الأقباط إلى الدين الإسلامى. وكان آخر تلك الثورات تلك التى انتهت فى بداية القرن التاسع الميلادى 832م بمجيء الخليفة المأمون وإبادته للثائرين والتى كان من نتائجها أن أصبح الإسلام أغلبية فى مصر. ويخبرنا ساويرس عن هذه الثورة فيقول إن الخليفة المأمون صحب معه إلى مصر البطرك ديونوسيوس بطرك إنطاكية وأنه استعان به وببطرك الأقباط الأنبا يوساب، لإخماد ثورة البشموريين وسير إليهم قائدة الأفشين لمحاربتهم، ثم سار إليهم بنفسه وجحافله وقضى على حركتهم. ويتضح لنا مما كتبه ساويرس أن الشعور الوطنى كان ضعيفا بين المصريين آنذاك، فلم يكن فى ثورات المصريين الأقباط ضد سلطة الحكام المسلمين عنصر وطنى، بل كانت كلها بسبب الضرائب والجزية إما لحمل الحكام المسلمين على تخفيفها وعدم اتباع القوة فى جبايتها، وإما للهرب من دفعها. ولعل ضعف هذا الشعور الوطنى كان أكبر عون للحكام المسلمين للقضاء على حركات المصريين.
المصريون والمجاعة
ومن الأمور التى يوضحها ساويرس وتساعدنا على فهم الوضع الحقيقى للأمور ما يذكره عن المجاعة التى عرفت بالشدة العظمى التى حدثت أيام الخليفة المستنصر بالله الفاطمى. فقد ذكر المؤرخون المصريون أن سببها انخفاض ماء النيل وانتشار الوباء فى مصر حتى انعدمت الغلات من أرض مصر، فأكل الناس البغال والحمير والميتة ثم أكل بعضهم بعضا. ولكن مؤرخ البطاركة يبين بوضوح أثر القلاقل والفتن فى إيجاد هذه الشدة، فقد عمت الفوضى والحروب بين الجند وخاصة بين السودانى والأتراك، فكانت القاهرة فى يد الجند الترك، وكان الصعيد فى يد الجند السودانية، وكانت الإسكندرية وجزء كبير من الدلتا فى يد فريق آخر من الجند التركية تساعدهم قبائل قيس ولواتة. ويبين ساويرس تسلط اللواتيين، وهى قبائل بربرية الأصل، على الريف ويذكر أنهم ملكوا أسفل الأرض أى الوجه البحرى، وأصبحوا يزرعونه كما يريدون بلا خراج ولم يهتموا بحفر الترع أو عمل الجسور وانفردوا بالزراعة دون غيرهم وامتنعوا عن بيع الغلات، وكانت النتيجة أن رزئت مصر بفترة مجاعة قاربت من سبع سنين عرفت بالشدة العظمى 1066-1082م وقد استطاع بدر الجمالى والى عكا الذى استدعاه الخليفة المستنصر لتولى الوزارة فى مصر، أن يقبض على ناصية الحال فيها فأباد اللونيين من الريف، وسار إلى الصعيد ففتحه ثم عاد إلى مصر وأقام بها ورتب الأمور فيها كما كانت عليه فى السابق.
الحروب الصليبية
جردت الحملات الصليبية فى الأصل لأغراض غير محاربة الإسلام و المسلمين إذ كان هدفها فى البداية محاربة البابا لمعارضيه، لأنه نهاية القرن الحادى عشر بدأت بوادر المقاومة ضد الكنيسة البابوية فى روما، وسيطرتها على شئون الحياة الأوروبية، وعند نهاية القرن الثانى عشر ذاعت أفكار دينية تزعم أن العالم قد دخل عصر المسيح الدجال الذى يسبق قيام القيامة. وإدانة كبار الأساقفة على اعتبار أنهم أسرى الشيطان، ومع نجاح الحروب الصليبية فى أوروبا تم نقلها إلى الشام ومصر. وحين يحدثنا ساويرس عن الصليبيين وقدومهم إلى الشرق لا يعتبر أن هذه الحروب حربا بين المسيحية والإسلام. وإنما ينظر إلى الصليبيين كغزاة أعداء للشرق
مــصــدر (http://www.al-araby.com/articles/100...008-pnp01.htm)