لمذا انهزمت ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية ؟
الجزء الثاني
في البداية أعتذر للجميع على طول غيابي و قلة مشاركاتي في الفترة الماضية و هذا كله راجع لكثرة المشاغل و ارتباطات العمل، لكن اعد الجميع أنني سأكون إن شاء الله أكثر حضورا في الأيام القادمة بعون الله تعالى و حسن توفيقه.
أحمد فؤاد
لقد رأينا في الجزء الأول من هذه الدراسة التحليلية عدة جوانب من الأسباب التي أوصلت ألمانيا النازية خلال الفترة الممتدة من عام 1939 إلى 1943 لتحقيق انتصارات عسكرية ساحقة، كما رأينا معا نقاط قوة الجيش الألماني، ثم بدأنا في دراسة أسباب تقهر هذا الجيش الذي قيل عنه أنه لا يقهر. و في هذا الجزء سندرس معا الأسباب الحقيقية لتقهقر الجيش الألماني النازي خصوصا على الجبهة الروسية التي شكلت حجر الزاوية التي كسرت شوكة النازيين و أبادتهم.
العلاقات الروسية الألمانية من 1939 إلى 1941:
منذ أن كتب مذكراته التي سماها (كفاحي) لم يخفي هتلر حقده الكبير للشيوعية بحيث اعتبر الشعب السوفييتي السلافي عبيدا عند شعب الأسياد الجرمان، و كان دائما يقول أن ألمانيا أصبحت تختنق و عليها أن تتوسع نحو الشرق، لكن و قبيل بداية الحرب العالمية الثانية اضطر هتلر لعقد معاهدة عدم اعتداء مدتها 10 سنوات مع روسيا لأسباب عسكرية و اقتصادية بحثه أذكر منها نقطة عسكرية و اقتصادية واحدة مهمة جدا:
كان هتلر يعي جيدا أن القتال على جبهتين سيؤذي حتما إلى هزيمة ألمانيا، كما كان يخشى أن يسبقه الحلفاء في عقد معاهدة عسكرية مع روسيا مما سيعرض ظهر الجيش الألماني لخطر جسيم، خصوصا و أن الدول الفاصلة بينه و بين روسيا (بولندا، رومانيا، فنلندا، و دول البلطيق)، لم تكن تشكل قوة عسكرية و اقتصادية قادرة على وقف أي هجوم روسي على ألمانيا عبورا من أراضيها، فبادر بإرسال وزير خارجيته يوهاكيم فون ريبنتروب (1) إلى روسيا في أواخر شهر آوت (أغسطس، آب) 1939 و عقد معها معاهدة سلام و عدم اعتداء مدتها 10 سنوات، لكن في السر عقدت روسيا مع ألمانيا معاهدة ثانية سرية لم يتم الإعلان عليها ، و هي من بين الأسباب التي دفعت بستالين لقبول هذا الحلف الشاذ مع النازيين.
البرتوكول السري الملحق بمعاهدة السلام و عدم الاعتداء التي عقدة بين ألمانيا و روسيا نص على أن يقتسم الألمان و الروس بولندا نصفان، كما أعطى هذا البروتوكول الضوء الأخضر لروسيا قصد احتلال دول البلطيق (ليتونيا، استونيا، ليتوانيا) كما وضع فنلندا ضمن رقعة النفوذ الروسي. كما نص البروتوكول السري الملحق بالمعاهدة المذكورة على أن تمون روسيا حليفتها الجديدة ألمانيا بالمحروقات من بنزين و غاز و زيت بالإضافة لتموينها بالمؤن الغذائية من قمح و شعير ....ألخ.
قد يظهر للقارئ الكريم أن ألمانيا لم تجني الكثير من هذه المعاهدة لكن الخبراء العسكريين سيدركون حتما أن المستنفع الحقيقي من الاتفاقية هي ألمانيا و ليست روسيا، لأن الألمان ضمنوا ظهر جيشهم، بحيث لن يتعرضوا للغدر من الخلف، كما ضمنوا أن الروس لن ينضموا للحلفاء ضدهم، و ضمنوا أيضا خط إمداد آمن يمونهم بما يحتاجون إليه من بترول خصوصا بعد أن حاصر الأسطول البحري البريطاني ألمانيا بحيث أصبحت واجهتها البحرية المطلة على بحر الشمال مغلقة تماما.
بدورها لم تكن روسيا مستعدة عسكريا لدخول أي حرب، و كان جوزيف ستالين (2) (رئيس روسيا آن ذاك) يريد ربح الوقت قصد إعادة بناء جيشه، مما دفعه لقبول معاهدة السلام و عدم الاعتداء مع الألمان، بالرغم من إدراكه التام أن روسيا ستدخل الحرب ضد ألمانيا أجلا أم عاجلا.
أما هتلر فقد أراد أن يقضي على بولندا ثم فرنسا و بريطانيا و من تم يتفرغ للحرب ضد روسيا منفردة.
و في الفاتح من سبتمبر (أيلول) بدأت الحرب العالمية الثانية بهجوم ألماني كاسح على بولندا، و كما كان متوقعا قامت بريطانيا بإرسال إنذار للحكومة الألمانية في صبيحة 3 سبتمبر (أيلول) تقول فيه أنه في حالة عدم انسحاب الجيش الألماني من الأراضي البولندية خلال 24 ساعة فإن بريطانيا تعتبر نفسها في حالة حرب ضد ألمانيا، و بعد ظهر نفس اليوم (3 سبتمبر أيلول 1939) قدمت الحكومة الفرنسية نفس الإنذار للحكومة الألمانية. بطبيعة الحال لم يكترث هتلر لهذا الأمر لأنه كان متوقعا، و في 17 من نفس الشهر (سبتمبر أيلول 1939) هاجم الجيش الروسي بولندا من الجهة الشرقية كما تم الاتفاق عليه في البروتوكول السري بين الدولتين.
انتهى أمر بولندا في 29 سبتمبر (أيلول) 1939 بدخول الجيش الألماني لعاصمتها فرسوفيا، و استدار هتلر نحو الغرب قصد تصفية حساباته مع فرنسا و بريطانيا، و أراد المبادرة بالهجوم على فرنسا خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1939. لكن الظروف المناخية لم تسمح له بذلك فتأجلت العملية إلى شهر جانفي (يناير، كانون ثاني) 1940، و لأسباب مناخية أيضا لم يتم الهجوم، و بحلول الربيع بدأ هتلر هجومه على الجبهة الغربية في 10 مايو (أيار) 1940.
خلال شتاء 1939، و مباشرة بعد اقتسام بولندا بين الألمان و الروس، أراد الزعيم الروسي جوزيف ستالين بسط سيطرته على فنلندا دائما حسب البروتوكول السري الذي عقده مع ألمانيا، و نظرا لتخوفه الشديد من أي هجوم ألماني مفاجئ قبل أن يكمل استعداداته العسكرية، طلب ستالين من الحكومة الفنلندية أن تتنازل له على بعض الأراضي المتاخمة للحدود بين البلدين حتى يبني فيها خطا دفاعيا. لكن الحكومة الفنلندية رفضت طلب الحكومة الروسية مما دفع بستالين للمبادرة بالهجوم على فنلندا في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1939. الحرب الفنلندية الروسية التي امتدت حتى 12 مارس (آذار) 1940 كانت كارثة حقيقية على الروس أظهر مدى ضعف جيشهم ، و كذا ضعف قيادة الجيش الروسي، فخلال الفترة الممتدة بين 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1939 تاريخ بداية الهجوم الروسي على فنلندا، و حتى الفاتح فبراير (شباط) 1940 عجز الروس على دخول الأراضي الفنلندية و تكبدت قواتهم خسائر فادحة في الأرواح و العتاد.
الهزيمة الروسية الشنعاء خلال الأشهر الأولى من هذه الحرب وضعت ستالين في موقف حرج لأنه شعر أن هتلر قد أدرك أن روسيا ضعيفة عسكريا و عاجزة على قهر دولة صغيرة. و بالرغم من الانتصار الروسي على فنلندا في 12 مارس (آذار) 1940، إلا أن هذا النصر كان مكلفا و فضح الروس و كشف عن ضعفهم.
في 10 مايو (أيار) 1940، بدأت الحرب الألمانية في الجبهة الغربية و احتل الجيش الألماني كل من هولندا، بلجيكا، لكسمبورغ، و فرنسا خلال 40 يوما.
نزل خبر هزيمة فرنسا و حلفائها كالصاعقة على الزعيم الروسي ستالين الذي كان يضن أن ألمانيا ستلقى هزيمة نكراء على يد أكبر قوة عسكرية في العالم آن ذاك (فرنسا و بريطانيا) لكن حتى لا يظهر عداءه لحليفه النازي أرسل ستالين رسالة يهنئ فيها الجيش الألماني على النصر الذي حققه.
النصر الذي حققه الألمان على الحلفاء في الجبهة الغربية، دفع بستالين لارتكاب المزيد من الأخطاء الإستراتيجية، منها أنه منع قادة جيشه من ارتكاب أي حماقة قد تأذي لإشعال نار الحرب بين الدولتين، قبل الانتهاء من الاستعداد لها.
بعد أن سحق هتلر فرنسا و بسط نفوذه على كل من تشيكوسلوفاكيا، بولندا، هولندا، بلجيكا، لكسمبورغ، النرويج، الدنمرك، أراد هتلر أن يعقد صلحا مع بريطانيا بحيث سيمكنه هذا الصلح من التفرغ لاحتلال روسيا لكن بريطانيا رفضت العرض الألماني، و أبلغت روسيا بنية هتلر في احتلال أراضيها. حين وصلت رسالة البريطانيين لستالين ضن هذا الأخير أنها مجرد مسرحية لجره في حرب هو أصلا غير مستعد لها.
لم يستطع هتلر أن يبدأ الحرب التي يخطط لها لغزو روسيا دون القضاء على بريطانيا التي تخنقه بحصارها البحري، و كانت قيادة الجيش الألماني ترفض دخول أي حرب ضد روسيا مادامت بريطانيا واقفة ضد ألمانيا و تحاصرها بحريا، مما يعني أن الاقتصاد الألماني سينهار في حالة مهاجمة روسيا بدون فك الحصار البحري المضروب على ألمانيا. عندها قرر هتلر غزو بريطانيا و بدأت خطة أسد البحر (3).
في شهر جويلية (تموز، يوليو) 1940 بدأت معركة إنجلترا، بقصف جوي ألماني كبير حيث كان هدف السلاح الجوي الألماني تدمير الموانئ و المطارات البريطانية قصد فتح الطريق أمام عبور بحري لغزو بريطانيا. بعد معارك جوية طاحنة قرر هتلر في 17 سبتمبر (أيلول) 1940 تأجيل عملية غزو بريطانيا نظرا لعجز القوات الجوية الألمانية على سحق السلاح الجوي البريطاني الذي كان يمثل عائقا أمام أي عملية عبور نحو الجزيرة البريطانية.
بعد أن عجز على غزو بريطانيا، قرر هتلر غزو روسيا في مارس (آذار) 1941، و بدأ الجيش الألماني يستعد فعلا للتوجه نحو الشرق، لكن حدث ما لم يكن بالحسبان ففي شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 1940 هاجم بنيتو موسوليني (4) اليونان و مصر دون استشارته، ففي اليونان تكبدت الجيوش الإيطالية خسائر فادحة مما أجبرها على الانسحاب، و تمكن اليونانيون و البريطانيون من الزحف على المستعمرة الإيطالية (ألبانيا)، و في مصر هزم الجيش الإيطالي و زحف الجيش البريطاني حتى وصل مشارف مدينة بن غازي الليبية (ليبيا كانت مستعمرة إيطالية من 1911 حتى 1943). لتدارك الموقف استنجد موسوليني بهتلر و طلب منه دعما عسكريا في ألبانيا و ليبيا.
لم يستطع هتلر رفض طلب المساعدة الذي تقدم به موسوليني، لأنه كان يعلم جيدا أن وجود البريطانيين في اليونان و يوغسلافيا سيعرض الخط الجنوبي الألماني لخطر جسيم في حالة هجومه على روسيا، فكان لابد له أن يطرد تماما البريطانيين من القارة الأوربية قبل أن يقوم بأي حركة ضد روسيا.
إن الهجوم الألماني على اليونان و يوغسلافيا في 10 أبريل (نيسان) 1941، و إرساله لقوات خاصة قصد استرجاع ليبيا التي كان البريطانيين على وشك احتلالها كليا سبب لخطة احتلال روسيا تأخر مميت، فالقيادة الألمانية كانت تريد أن تبدأ الحملة على روسيا في شهر مارس (آذار) 1941 مباشرة بحلول فصل الربيع مما سيعطي للجيش الألماني مهلة قدرها 7 أشهر قصد تركيع الروس قبل دخول فصل الشتاء الروسي البارد.
بالرغم من أن الحملة الألمانية على يوغسلافيا و اليونان لم تدم سوى 10 أيام، إلا أن التحضير للحملة، ثم إعادة تجميع القوات قصد توجيهها نحو روسيا لم يسمح للجيش الألماني بالمبادرة بغزو روسيا سوى في 22 جوان (يونيه، حزيران) 1941.
خطة بربروسا
باللغة الألمانية
Unternehmen Barbarossa
بعد أن احكم هتلر قبضته على كامل أوروبا، و بالرغم من التأخر الفادح في بداية الهجوم على روسيا الذي تأخر عن موعده المقرر بثلاث أشهر، قرر هتلر غزو روسيا في 22 جوان (يونيه، حزيران) 1941. لكن و قبل أن نخوض معا في تفاصيل المعارك علينا أن نلقي نضرة على خطة الغزو في حد ذاتها لأنها كانت سببا مباشرا في فشل الحملة النازية على روسيا، مما تسبب لاحقا في خلق أكبر جبهة حربية في تاريخ البشرية العسكري.
الخطة الألمانية لغزو روسيا حملت اسم بربروسا نسبة للإمبراطور الجرماني فريديريش بربروسا (بربروسا تعني اللحية الحمراء)، و قد نصت على أن يقوم الجيش الألماني بثلاث هجمات عبر ثلاث محاور رئيسية هي:
الهجوم الأول: في الشمال انطلاقا من ميمل (حاليا كلابيدا) في بروسيا الشرقية نحو لنينغراد. تحت قيادة المارشال فون ليب (5)، و قد ضمت الجيش 16 و 18 بمجموع 26 فرقة من بينها 3 فرق مدرعة و فرقتان ميكانيكية بالإضافة للأسطول الجوي الأول.
الهجوم الثاني: في الوسط انطلاقا من سوولكي إلى لوبلن نحو العاصمة موسكو. تحت قيادة المارشال فون بوك (6). و قد ضمت هذه القوة الجيش 2 و 4 بمجموع 48 فرقة من بينها 9 فرق مدرعة و 6 فرق ميكانيكية و فرقة خيالة بالإضافة للأسطول الجوي الثاني.
الهجوم الثالث: في الجنوب انطلاقا من لوبلن نحو كييف ثم نحو البحر الأسود و من تم نحو القوقاز فنحو منطقة باكو البترولية.تحت قيادة المارشال فون روندستات (7)، و قد ضمت هذه القوة الجيش 6، و 11 و 17 بمجموع 59 فرقة من بينها فرقة مدرعة واحدة و 6 فرق ميكانيكية ، بالإضافة للأسطول الجوي الرابع.
يضاف إلى كل هذه القوات 64 فرقة احتياطية و سلاح الهندسة و سلاح الإشارة.
مدة الخطة: من جوان (يونيه، حزيران) إلى أكتوبر (تشرين الأول) 1941. أي 5 أشهر بدلا من 7.
دول المحو المشاركة في غزو روسيا: لم يسبق لهتلر أن استعان بأي حليف من حلفاءه قصد غزو أي دولة، فلو نضرنا لكل الحروب التي خاضها الجيش الألماني منذ بداية الحرب العالمية الثانية في 1 سبتمبر (أيلول) 1939 حتى بداية الحملة على روسيا في 22 جوان (حزيران، يونيه) 1941 لوجدنا أن ألمانيا قامت بكل شيء لوحدها حتى لا تقتسم غنائم و عزة النصر مع أي حليف لها؛ و بالرغم من أنها قاتلت الجنب إلى الجنب مع إيطاليا إلا أن قتالها مع الإيطاليين كان دفاعا عنهم و ليس العكس، فأثناء غزوها لفرنسا لم تتحرك إيطاليا حتى العاشر من جوان (حزيران، يونيه) 1940 أي بعد شهر تماما من بداية الحرب الفرنسية الألمانية، و بعد أن تأكدت إيطاليا أن الحلفاء قد خسروا تماما معركة فرنسا، و بعد أربع أيام من دخولها الحرب سقطت باريس العاصمة الفرنسية في يد الألمان في 14 جوان (حزيران، يونيه) 1940، ثم استسلمت فرنسا تماما في 22 من نفس الشهر. لكن نضرا لشساعة روسيا و كبرها الجغرافي أدركت القيادة العليا للجيش الألماني أنها لن تستطيع غزو هذه الأراضي المترامية الأطراف دون إشراك حلفاءها، فاستعانت بقوات من رومانيا، و فنلندا، و إيطاليا، و هنغاريا، و جمهورية سلوفاكيا. فإيطاليا أرسلت قرابة 200 ألف جندي للجبهة الروسية، بينما شاركت رومانيا بجيشها الثالث و الرابع بمجموع 14 فرقة، و شاركت هنغاريا بفرقتين من المشاة. بالرغم من كونها مشاركة محتشمة مقارنة بما خصصت ألمانيا من قوات لغزو روسيا إلا أن حلفاء ألمانيا منحوا هذه الأخيرة قوات إضافية استغلها النازيين في حماية خطوطهم الدفاعية، و في عمليات التطهير و الدفاع، مما منحها فاصلا من المقدرة على المناورة بالقوات و إبقاء موقفها هجوميا تماما.
نقاط ضعف خطة بربروسا: الكمال لله وحده سبحانه و تعالى، و أي شيء يضعه البشر يكون حتما ناقصا لأن البشر ناقصين لحكمة لا يعلمها إلا الله سبحانه، فخطة بربروسا حملت في طياتها الكثير من النقائص، و مع إضافة الخطاء التي سيرتكبها هتلر أثناء عملية غزو روسيا سيؤدي ذلك كما سنراه إلا هزيمة حتمية. فمن بين نقائص أو نقاط ضعف خطة بربروسا أنها لم تأخذ بعين الاعتبار الإجراءات الواجب إتباعها في حالة عدم مقدرة الجيش الألماني على إنهاء الحرب و القضاء تماما على الجيش الروسي بحلول فصل الشتاء، و قد تجلى ذلك بوضوح كبير حين لم تزود القيادة العليا الجيوش المكلفة بعملية الغزو بالملابس الشتوية، كما أن الخطة في حد ذاتها كانت تقليدية محضة بحيث كانت الأهداف المطلوب تحقيقها سياسية كاحتلال مدينة موسكو لما تمثله من قيم سياسية لدى الروس بصفتها عاصمتهم و مركز حكمهم. كما أن النازيين انشغلوا بتطهير جيوب المقاومة و تصفيتها بدلا من محاصرتها، و إتمام زحفهم نحو الأهداف المسطرة. إن كل هذه النقائص ستسبب لاحقا كما سنراه في كسر شوكة الجيش الألماني الذي لم يسبق له أن هزمه أحد حتى هذا التاريخ.
الجبهة الشرقية أكبر جبهة قتال في التاريخ العسكري:
كانت القيادة العليا للجيش الألماني بكافة فروعها و بما فيها الرايخ مارشال هرمان غورنغ (8) وزير الطيران و القائد الأعلى للقوات الجوية الألمانية ضد فكرة غزو روسيا لثلاث أسباب رئيسية هي:
أولا: العمق للإستراتيجي الروسي: العمق الإستراتيجي في المصطلحات العسكرية هي مدى سعة و كبر أي دولة، بحيث إذا تعرضت هذه الدول للغزو و إذا كانت أراضيها كبيرة جدا تستطيع المناورة بحيث تنقل مصانعها الحربية لمناطق نائية من الصعب أو المستحيل الوصول إليها، كما إن سعة الأرض ستتطلب الكثير من القوات و العتاد لغزوها، كما إن بسط النفوذ على جبهة كبيرة ليس بالأمر السهل نظرا لأسباب جغرافية كثيرة.
ثانيا: التعداد السكاني: كانت ألمانيا عام 1939 تضم 80 مليون مواطن، بينما كانت روسيا لوحدها تضم أكثر من 150 مليون مواطن من جنسيات مختلفة، مما يعني أن روسيا لديها احتياط عسكري أكبر من ألمانيا.
ثالثا: تعدد الجبهات: كانت القيادة العليا للجيش الألماني تحرك جيوشها على عدة جبهات في آن واحد، فمن جهة كانت قواتها تقاتل في شمال أفريقيا، و كانت قد خصصت قوات أخرى لإحكام قبضتها على الدول الأوربية التي احتلها الجيش الألماني، و قد أنشأت قيادة مستقلة مكلفة بتمشيط الجبال و الغابات قصد القضاء على الثوار الذين يسعون لتحرير بلدانهم من الاحتلال الألماني بالقوة، و كانت لا تزال في حالة حرب مع بريطانيا. كل هذه الجبهات قلصت من حجم القوات التي كانت ألمانيا سترسلها لغزو روسيا.
بالرغم من تحفظ القيادة العليا للجيش الألماني على دخول أي حرب ضد روسيا، إلا أن هتلر فرض رأيه بالقوة و هدد جميع من يحاول أن يقف في وجهه بالإحالة على التقاعد أو المحاكمة العسكرية.
بعد أن فرض هتلر رأيه بالقوة، أعد مكتب العمليات بالقيادة العليا للجيش خطة عسكرية لغزو روسيا مدتها 5 أشهر، و قد حدد مكتب العمليات القوات المشاركة في الحملة على روسيا كما يلي:
197 فرقة من مجموع 269 فرقة كان يضمها الجيش الألماني بمجموع عام قدره 3.300.000 جندي و ضابط (مما يعني أن الجيش الألماني لم يبقى لديه سوى 72 فرقة من المجموع العام للجيش منها 38 فرقة موجودة في الغرب، و 12 فرقة في منطقة سكوندينافيا، و فرقتان في شمال أفريقيا، و 20 فرقة احتياطية)، كما أرسل للجبهة الروسية 3648 دبابة، و 600 ألف آلية من شاحنات و سيارات، و 7481 قطعة مدفعية، بينما شاركت قيادة القوات الجوية بـ 1160 قاذفة، و 720 طائرة مطاردة، و 120 طائرة استطلاع بمجموع عام قدره 2000 طائرة. بحيث لم يسبق في التاريخ العسكري أن حشدت مثل هذه القوات للقتال على جبهة واحدة. و من جهتها وضعت روسيا كل ثقلها في ساحة المعركة حيث كان لها على الخط الفاصل بينها و بين القوات الألمانية مليونان و ثلاثمائة ألف جندي و 15.000 دبابة و 9.000 طائرة. ففي المجال الجوي و سلاح الدبابات كانت روسيا جد متفوقة على الجيش الألماني، لكن و بالرغم من تفوقها إلا أن الجيش الألماني دمر تماما خلال اليوم الأول للحرب الألمانية الروسية 90 بالمائة من سلاح الطيران الروسي أما الدبابات الروسية فلم تستطع رغم كثرة عددها أن تواجه الدبابات الألمانية التي كانت أكثر حداثة منها.
بداية موفقة و نهاية مأساوية:
في بداية الحملة الألمانية كانت جميع المؤشرات تدل على أن روسيا ستنهار في بضعة أشهر، و أن النازيين قد ربحوا الحرب، و سيطروا على كامل أوروبا. ففي اليوم الأول للحرب سحق السلاح الجوي الروسي على الأرض و لم تتمكن سوى بضع طائرات من الإقلاع و تم إسقاطها فيما بعد من طرف السلاح الجوي الألماني الذي سيطر تماما على الأجواء الروسية، بحث تعرضت أكثر من 1800 طائرة حربية روسية للدمار و هي على الأرض.
مباشرة بعد أن أحكم الألمان سيطرتهم على الجو بدأت القوات البرية في الزحف و بدأت معها المدن الروسية في السقوط الواحدة تلوى الأخرى. لم يصدق ستالين أن هتلر قد خدعه و هجم عليه بدون إعلان للحرب، حتى أنه قال لمقربيه أن ما حدث خطأ و أن هتلر لا علم له بما حدث، لكن سكوت هتلر و استمرار الزحف الألماني نحو شرق روسيا أكد لستالين أن هتلر قد خدعه فعلا، و أن كل المعاهدات التي وقعها مع النازيين كانت مجرد أوراق لا قيمة لها.
بالرغم من تأكد النوايا السيئة، لم يتوجه ستالين بأي خطاب للأمة الروسية ضنا منه بأن هتلر لا علم له بغزو روسيا، و أن كل ما حدث خطا جسيم يمكن تداركه، لكن بعد مرور أكثر من أسبوع دون أن يتحرك هتلر لتدارك الموقف، قرر ستالين التوجه بخطاب للشعب الروسي ليعلن فيه عن بداية الحرب مع ألمانيا النازية.
خلال الفترة الممتدة ما بين 22 جوان (حزيران، يونيه) 1941 و حتى أكتوبر (تشرين الأول) من نفس السنة استطاع الجيش النازي أن يحتل 80 بالمائة من الأراضي الروسية الأوربية، بحث وصل جنوبا إلى جبال القوقاز، و شمالا للنينغراد، و وصل إلى بعد 20 كلم على العاصمة موسكو. خلال نفس الفترة خسر الجيش الروسي قواته الجوية كاملة بحيث أصبحت الأجواء مسيطر عليها تماما من طرف سلاح الجوي الألماني، الذي شكل حاجزا على أي خطة هجومية روسية، كما فقد الجيش الروسي أكثر من 4 ملايين جندي وقعوا في الأسر، بينما قتله أكثر من مليون و نصف المليون جندي.
بداية الحرب في روسيا كانت موفقة تماما لعدة اعتبارات منها:
واحد: عدم إتمام روسيا لاستعداداتها العسكرية لحظة الهجوم الألماني.
اثنان: الهجوم الألماني المباغت الذي لم يعر إليه الروس أي اهتمام بالرغم من وجود الكثير من الأدلة التي كانت تثبت بما لا يترك مجالا للشك أم ألمانيا تستعد لغزو روسيا.
ثلاثة: التفوق اللوجستي الألماني بحيث كانت أسلحتها أكثر تطورا من غريمتها الروسية.
كل هذه العوامل أدت بروسيا للهزيمة و فقدان مساحات شاسعة من أراضيها في فترة قياسية.
الأخطاء الإستراتيجية الروسية: ارتكب ستالين الكثير من الأخطاء الإستراتيجية التي تسببت في انهيار روسيا أمام الزحف الألماني منها:
واحد: في بداية الحرب منع ستالين قيادة الجيش الروسي من سحب قواتها لمناطق تستطيع أن تعيد التمركز فيها قصد لم شملها، ثم المبادرة بالهجوم، و نتيجة لذلك سقط في يد الجيش الألماني أثناء معركة كييف لوحدها أكثر من نصف مليون أسير.
اثنان: ما بين عام 1936 و 1938 قام ستالين بتصفية الجيش الروسي من أغلبية الضباط السامين بحجة أنهم كانوا يتآمرون عليه، مما حرم الجيش الروسي من عصارة ضباطه السامين ذوي الخبرة العسكرية و الإستراتيجية الكبيرة، و لم يبقى من القيادة العليا للجيش الروسي سوى قلة قليلة جدا من كبار الضبط الذين كانوا يفهمون بحق المسائل العسكرية مثل المارشال جوكوف.
لم يكن ستالين يدرك جسامة القرارات التي يتخذها و ما ستشكله من مضرة على الجيش الروسي، فهو مدني سياسي أكثر من كونه عسكري متخصص، فالحرب قد يوجهها مدني بصفته رئيسا لدولة ما و قائدا أعلى لقواتها المسلحة، لكن تسيير المعارك و ضبط الخطط متى خرجت من يد العسكريين و وضعت بين أيدي المدنيين فلا نتيجة منتظرة إلا كارثة حقيقية. يمكن للعسكري أن يكون سياسيا، و لكن يستحيل على المدني الذي لم يدرس في أي معهد عسكري متخصص أن يكون قائدا عسكريا، لأنه في الحرب 1+1 لا تساوي لزوما 2، فعلى سبيل المثال لو اشتعلت معركة بين فرقة مدرعة مشكلة تماما من دبابات طراز ت 62 و بين لواء مدرع واحد مشكل من دبابات طراز ت 72 فالنتيجة ستكون لصالح اللواء المدرع و ليس للفرقة المدرعة، و السبب هنا هو نوعية الدبابة التي تشكل هذا اللواء و تلك الفرقة. لكن علينا في هذا المثال أن لا نغفل عن نقاط أخرى مثل الغطاء الجوي، فسربان أو ثلاث من الطائرات يمكنهم أن يبيدوا فرقة مدرعة كاملة لا تمتلك غطاء جويا يحميها؛ كما أن الخبرة و الحنكة العسكرية و القدرة على المناورة بالقوات يجب أن تتوفر في القائد العسكري حتى يستطيع أن يتدارك متى يجب عليه أن يهجم و متى يجب عليه أن يبقى مكانه و أن يدافع، و إن تطلب الأمر منه أن ينسحب فعليه بالانسحاب. مدمنا نتحدث عن الحرب العالمية الثانية سأعطي مثالا حيا على صحة ما أقول؛ حين وصل المارشال الألماني رومل (9) إلى ليبيا لوقف الزحف البريطاني، لم تكن قواته كلها قد وصلت، فقام بتنظيم استعراض عسكري في مدينة طرابلس (عاصمة ليبيا) و أمر قادة المدرعات أن يدوروا بدباباتهم في ميدان الاستعراض أكثر من عشر مرات، أعني أنه بدلا من أن يرى المتفرجين على العرض العسكري الألماني العدد الحقيقي للمدرات الألمانية الموجودة فعلا في ليبيا سيضنون أن العدد أكبر بكثير، و كان رومل يعلم جيدا أن جواسيس بريطانيا سيحضرون الاستعراض و سوف يبلغون بريطانيا بقوة غير موجودة تماما. و قد تم ذلك بالفعل بحيث فضل البريطانيين البقاء في الدفاع بدلا من المغامرة بأي هجوم، و هذه الخدعة مكنت رومل من كسب الوقت حتى يكمل استعداده لشن الهجوم.
الأخطاء الإستراتيجية العسكرية الألمانية: تماما مثل ستالين، ارتكب هتلر الكثير من الأخطاء التي تسببت لاحقا في كسر شوكة الجيش الألماني، فالهجوم الألماني حسب المخطط الذي وضعه قادة الجيش النازي كان يرى أن الهجوم على روسيا يجب أن يكون على محو واحد باتجاه موسكو، بحيث تندفع الجيوش الألمانية في قلب روسيا إلى أن تصل العاصمة موسكو، مما سيقسم الأراضي الروسية إلى قسمان و سيعزل هذا الهجوم الشطر الروسي الشمالي تماما عن بقية روسيا، مما سيسهل عملية غزوه لاحقا، ثم يسير الجيش الألماني جنوبا بعد أن يكون قد أمن ظهر الجيش و مقدمته. لكن هتلر رفض هذه الخطة و فرض خطة بديلة التي ذكرتها في بداية التحليل مقسما بذلك الجيش الألماني إلى ثلاث أقسام. الخطة التي اعتمدها هتلر تسببت بالرغم من نجاحها عند بدايتها، في خلق عوائق صعبت من مهمة الجيش و أوصلته إلى النكسة. فالهجوم على ثلاث محاور تسبب في خلق جبهة عرضها أكثر من خمسة ألاف كلم، بحيث كلما توغلت الجيوش الألمانية داخل الأراضي الروسية صارت تبتعد عن بعضها مما فتح فجوات و ثغرات كبيرة فيما بينها، كما أن الهجوم على ثلاث محاور مكن الجيش الروسي من تشكيل خطة مواجهة طويل جدا بحيث يكون القتال دائما أماميا، و لم يكن لجبهة القتال جوانب تمكن النازيين من الالتفاف حول المواقع الدفاعية المنيعة قصد ضربها من الخلف. زيادة على كل هذه الأخطاء، و بدلا من أن يوجه هتلر جيوشه نحو موسكو، أصدر أمرا في أواخر شهر جويلية (تموز، يوليو) 1941 أمر فيه قادة جيوش الوسط بأن يقوموا بتصفية ما تبقى من جيوش روسية محاصرة تماما في قلب أوكرانيا قبل أن يتوجهوا لاحتلال هدفهم الرئيسي العاصمة موسكو. هذا القرار كان خطأ جسيم جدا لأن الجيوش الروسية المحاصرة في أوكرانيا لم تكن تمثل أي خطر على الجيش الألماني لأنها كانت محاصرة تماما كما سبق و أن قلت، و كان من المستحيل عليها القيام بأي عمل هجومي اللهم إلا الدفاع، كما كانت أيضا معزولة تماما ليس لديها أي خطوط تموين. إن محاصرة هذه القوات في أماكنها كان أحسن قرار يمكن أن يتخذه هتلر، لأن تصفية هذه المواقع و القضاء عليها تماما تسبب في تأخير إعادة الهجوم نحو موسكو بشهرين، مما خفف الضغط على الروس و مكنهم من الاستعداد للمعارك القادمة،و إعادة رص صفوفهم و تجميع قواتهم المبعثرة.
خطأ أخر تسبب لاحقا في كارثة حقيقة لألمانيا النازية على الجبهة الروسية، بالرغم من أنه قرار سياسيا إلا أن انعكاساته العسكرية كانت وخيمة جدا، فجمهوريات الإتحاد السوفيتي الاشتراكية كانت عبارة عن 14 دولة ضمتها روسيا إليها بالقوة، فبدلا من أن يستغل هتلر هذه النقطة و أن يعلن عن استقلالها حتى يتمكن من تفتيت الكيان السوفيتي و تبقى روسيا منعزلة في حربها معه، قرر احتلال هذه الدول و حول سكانها الذين كانوا يكنون كراهية كبيرة جدا لستالين إلى عبيد، و مارس ضدهم سياسة عدائية شرسة مما أثارهم و دفعهم للالتفاف حول ستالين مشكلين بذلك خطرا كبيرا على مؤخرة الجيش الألماني و على خطوط مواصلاته. لو اتخذ هتلر قرار إعلان استقلال هذه الدول مثل أوكرانيا و جورجيا و بيلاروسيا و غريها من الدول التي سقطت بين يديه لاختلفت المعادلة و لوجد فيهم خير العون على الروس.
بعد شهرين من القتال لتصفية جيوب المقاومة المحاصرة تماما، أذن هتلر لجيوشه بالتوجه نحو موسكو، لكن هذا الإذن جاء بعد فوات الأوان ففصل الشتاء الروسي البارد كان قد دخل فتجمدت البحيرات، و نزل الأمطار الغزيرة التي حولت الطرقات إلى برك كبيرة من الوحل التي لا يمكن اجتيازها، حتى أن اللواء غودريان قائد سلاح المدرعات المكلف بغزو موسكو و العميد ساب ديتريش قائد قوات الصاعقة من وحدات الوافن أس أس كتبوا في مذكراتهم أنهما اجتازا 75 كلم في خمسة أيام بالرغم من أن المقاومة الروسية لم تكن تشل أي عائق أمامهم.
بحلول الفاتح أكتوبر (تشرين الأول) 1941 وصلت مقدمة الجيش الألماني بعد عناء شديد لمشارف موسكو، و هنا بدأت المعركة التي كسرت الجيش الألماني الذي لم يحصل له أن هزم منذ بداية الحرب حتى هذا اليوم، و هنا أيضا بدأت سلسلة الأخطاء الجسيمة التي ستنتهي بهزيمة ساحقة لألمانيا النازية.
معركة موسكو:
حالة القوات الألمانية عند بداية معركة موسكو: شكلت معركة موسكو أول المؤشرات على أن ألمانيا قد بلغت أقصى ما يمكن لأي دولة أن تقدمة في أي مجال، فمن أسباب هزيمة أي جيش أن نطلب منه تحقيق ما لا يقوى على تحقيقه، فلو تفحصنا في التاريخ العسكري لخير البشر سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم لوجدنا أن رسول الله عليه أفضل صلاة و أزكى سلام كان قائدا عسكريا بآثم معنى الكلمة، ففي غزوة بدر الكبرى على سبيل المثال، و حين علم أن القافلة التي خرج ليغير عليها قد هربت بينما يتجه نحوه جيشا عرمرما لن يقوى على قتاله، استشار صحابته في الأمر قبل أن يقرر المواجه، و حين واجه جيش قريش لم يقاتل جيش المسلمين لتحقيق النصر لأنهم كانوا يعلمون أنهم أقل عددا و عدة بل قاتلوا من أجل الشهادة و استماتوا في القتال، مما مكنهم من النصر، بينما كان كفار قريش قد غروا بقوتهم و لم يحسبوا للمعركة حق حسابها، فتسبب لهم طغيانهم و جبروتهم بهزيمة لا تزال تذكر حتى اليوم، و قد قلت فيما سبق أنه عسكريا 1+1 لا تساوي حتما 2 لأن الكثير من الحسابات تدخل في هذه اللعبة و قد تتسبب في نتائج غير مطابقة تماما للمنطق.
فمعركة موسكو يمكننا أن نطبق عليها نفس المقياس الذي ذكرناه في مثالنا، فالجيش الألماني قد بلغ أقصى ما يمكنه أن يحققه، بينما كانت قيادته العليا بإيعاز من هتلر تطلب دائما المزيد، حتى صارت قراراتها غير معقولة تماما، بحيث تجاوزت حدود مقدرة الجيش، و علينا أن لا ننسى أن خطة بربروسا وضعت وفق مخطط زمني بحيث كان على الجيش الألماني أن يحتل موسكو قبل حلول فصل الشتاء، لكن قرار تطهير منطقة أوكرانيا من جيوب المقاومة أضاعت للجيش الألماني الكثير من الوقت، كما منحت قيادة الجيش الروسي فاصلا من الوقت سمح لها أن تعيد ترتيب أمورها، و بحلول الشتاء نزلت درجة الحرارة لأقل من 26 درجة تحت الصفر، و للعلم لم تزود قيادة الجيش الألماني جنودها بالملابس الشتوية ضنا منها أن الحرب ستنتهي بحلول فصل الشتاء، و النتيجة أن الجنود الألمان صاروا يموتون بردا نظرا لعدم امتلاكهم لملابس شتوية تقيهم شر البرد الروسي القاتل.
من جهة أخرى استطاعت روسيا أن تستدرج الجيش الألماني إلى قلب روسيا بحيث صارت مقدمة الجيش الألماني بعيدة جدا عن خطوط تموينها بالذخيرة و المؤن، و نظرا للأحوال الجوية السيئة لم يستطع الطيران الألماني التدخل إلا في حالات نادرة مما جعل الجيش الألماني يقاتل الند للند و فقد أحد أوراقه الرابحة التي كانت تمهد له الطريق لسحق أي قوة روسية تكون أمامه، فقبل هذا التاريخ كان الهجوم الألماني يبدأ بغارات جوية مركزة، و متى دمرت كل الخطوط الدفاعية الروسية تتدفق المدرعات و الفرق الألماني فتبيد ما تبقى من جيوب مقامة روسية، لكن بحلول الشتاء و تردي أوضاع الأحوال الجوية لم يستطع سلاح الطيران القيام بأي غارة مما أجبر الجيش الألماني على تصفية الدفاعات الروسية دون دعم جوي، و هذا المر سبب للجيش الألماني الكثير من التأخر في اختراق الخطوط الروسية.
كما علينا أن لا ننسى أن ستالين قرر إتباع سياسة الأرض المحروقة بحيث و قبل الانسحاب من أي منطقة، كان الجيش و الشعب الروسي يقومان بحرق كل شيء قد يستفيد منه الألمان، ففي أوكرانيا قامت القوات الروسية بتفجير جميع حقول البترول كي لا يستفيد منها الألمان و النتيجة كانت أنه لم يبقى في يد النازيين من الوقود إلا الحقول البترولية الموجودة في رومانيا و هنغاريا مما تسبب لها في نقص فادح في البنزين الذي بدونه لن تستطيع أي آلية أن تتحرك.
فوق كل هذه المشاكل شكلت المقاومة الشعبية الروسية عائقا حقيقيا أعجز الجيش الألماني و تسبب له في خسائر كبيرة جدا، بحيث كانت خطوط التموين معرضة في أي وقت للتفجير من طرف المقاومة الشعبية الروسية، فقررت القيادة العليا للجيش الألماني تشكيل قيادة عسكرية مستقلة مهمتها تمشيط الجبال و الغابات من المقاومين، و لتحقيق هذا الهدف سحبت من جبهة القتال 26 فرقة بينما كانت في أمس الحاجة لكل جندي على جبهة القتال.
بحلول الفاتح من أكتوبر 1941 و بالرغم من الانتصارات الساحقة الذي حققها الجيش الألماني إلا أن وضعه كان مأساويا إلى أقصى درجة، و شكلت معركة موسكو التي نحن بصدد الدخول في تفاصيلها الصخرة التي تحطمت عليها أمال ألمانيا و بددت أمالها في ربح الحرب تماما.
حالة الجيش الروسي عند بداية معركة موسكو: قبل بداية معركة موسكو كان الجيش الروسي في وضع لا يحسد عليه، و كان ستالين يعي جيدا أن سقوط العاصمة السوفيتية في يد المحتل الألماني ستتسبب له في نكسة عسكرية و سياسية لن يقوم لروسيا بعدها قائما أبدا، فتسعين بالمائة من الأراضي الروسية الأوربية وقعت فعلا في يد النازيين، و كانت مدينة لنينغراد مهد الثورة البلشفية محاصرة تماما، كما كان الجيش الألماني جد قريب من نهر الفولغا (10) الذي يقطع روسيا من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، و لو استطاع الجيش الألماني الوصول إلى هذا النهر فإنه سيشكل جبهة يستحيل على الروس اختراقها فعرض نهر الفولغا كان يتطلب سفينة متوسطة الوزن لاجتيازه من ضفته الشرقية لضفته الغربية، و لو وصل الألمان إليه فإن سلاح المدفعية و الطيران سيكسرون أن محاولة عبور روسية، مع العلم أن طوله يتجاوز 3.700 كلم مما يجعله حاجزا طبيعيا حصينا جدا. لذلك كان على ستالين القيام بأي شيء لمنع النازيين من تشكيل خط دفاع طبيعي يمكنهم من تثبيت جبة القتال، و الانتقال من الهجوم المكلف إلى الدفاع الآمن.
فقبيل بداية معركة موسكو بأسابيع قليلة جدا، قام الروس بتفكيك كل مصانعهم الحربية و قاموا بإعادة بنائها في جبال الأورال المنيعة و البعيدة التي تشكل الخط الفاصل بين القارة أوروبا و قارة آسيا، كما أخرجت المصانع الروسية دبابة ت 34 التي كانت أكثر تحصينا و قوة من الدبابة الألمانية (الفهد) و جلب ستالين من منطقة سيبيريا فرقة عسكرية جدا مسلحة و مستعدة تماما لحرب الشتاء التي لم يكن الجيش الألماني مستعدا لها.
قرار مميت: قبل بداية معركة موسكو تقدم الجنرال هالدر رئيس أركان القوات البرية الألمانية بطلب لهتلر جاء فيه أن على الجيش الألماني تثبيت الجبهة كما هي عليه و الانتقال من الهجوم إلى الدفاع إلى غاية حلول فصل الربيع لعام 1942 لأن الجيش منهك و غير قادر على القيام بأي هجوم جديد ما لم توفر له القيادة العليا للجيش الألماني ما يكفي من السلاح و الملابس و المؤن لغزو موسكو و الوصول لنهر الفولغا. لكن غطرسة هتلر و نشوته جعله يرفض هذا الطلب تماما و يصدر أمرا باحتلال موسكو في أقرب وقت ممكن. و كان قرار المبادرة بالهجوم في ظروف مناخية سيئة جدا الخطأ الذي كان المارشال جوكوف يريد من الجيش الألماني أن يرتكبه لأن الهجوم على موسكو في مثل هذه الظروف سيكسر شوكة الجيش الألماني و يبدد ما تبقى له من قوة، كما سيعطي هذا الهجوم في حالة وقوعه فرصة ذهبية للجيش الروسي قصد استرداد المبادرة، و فتح ثغرة في قلب الجبهة الوسطى، لن يستطيع الألمان سدها ما لم يحل فصل الربيع لعام 1942 مما سيعطي المزيد من الوقت لروسيا قصد إعادة رص صفوفها.
قوات الجانبان المشاركة في معركة موسكو: لاحتلال موسكو و الوصول إلى نهر الفولغا قصد بناء جبهة عسكرية طبيعية يستحيل على القوات الروسية اختراقها، رمى هتلر بكل ما يملك في هذه المعركة حيث سخر مليون جندي، و 1.700 دبابة، و 14.000 ما بين مدفعية الميدان و المدفعية المضادة للدبابات، و 599 طائرة، و أسندت قيادة القوات للمارشال فون بوك، بينما أسندت قيادة القوات المدرعة للجنرال غودريان، و قيادة القوات الجوية للجنرال كيسلرنغ.
من جهته؛ رمى ستالين بثقل الجيش الروسي في هذه المعركة الفاصلة التي ستحدد مستقبل الإتحاد السوفييتي، حيث جند مليون و 250.000 جندي، و 1.000 دبابة من طراز ت 34، و 7600 مدفع ميدان و مضاد للدبابات، بالإضافة 545 طائرة.
عسكريا؛ قوات الجانبين المشاركة في معركة موسكو تقريبا متكافئة باستثناء تفوق في تعداد الجنود لدى الروس، و تفوق في سلاح المدرعات و المدفعية لدى الجيش الألماني.
خطة تيفان لاحتلال موسكو: لا يوجد أدنى شك في أن القيادة العليا للجيش الألماني كانت إستراتيجيا قوية جدا، و كانت في وسعها وضع خطط عسكرية بآثم معنى الكلمة، و منذ بداية الحرب حتى بداية معركة موسكو أبدت هذه القيادة حنكة عسكرية قليلة النظير، لكن تدخل هتلر المتكرر و تضارب قراراته و رغبته في تحقيق النصر عن طريق الهجوم فقط، لم يبقي لهذه القيادة مجالا للتحرك أو المناورة، و سوف نرى أثناء دراستنا لمجريات معركة موسكو أن هتلر هو من تسبب في هزيمة الجيش الألماني.
لاحتلال موسكو تقدمت قيادة قوات الجبهة الوسطى (المارشال فون بوك، جنرال المدرعات غودريان،و جنرال الجو كيسلرنغ) بخطة ممتازة سنشرحها فيما يلي:
اقترحت قيادة الجبهة الوسطى احتلال موسكو على ثلاث مراحل يتم خلالها تصفية الجيش الروسي ثم محاصرة مدينة موسكو قصد عزلها عن باقي الأراضي الروسية و قطع عنها أي إمداد بري أو جوي، ثم دخول المدينة بعد قصف جوي و مدفعي مركز و القضاء على ما تبقى فيها من جيوب مقاومة.
فقد جاء في الخطة التي وضعتها قيادة الجبهة الوسطى أنه يجب على الجيش الألماني المبادرة بهجوم مدرع شمال موسكو باتجاه قوات الجنرال الروسي كالينين تقوم بها المجموعة المدرعة الثالثة و الرابعة، بحيث سيتسبب هذا الهجوم في قطع شبكة الاتصال البرية بين موسكو و لنينغراد. و في نفس الوقت يبدأ هجوم بري أخر في الجنوب باتجاه مدينة تولا تقوم به المجموعة المدرعة الثانية و تلتقي المجموعة المدرعة الثالثة و الرابعة مع المجموعة المدرعة الثانية قرب مدينة نوغينسك حوالي 82 كلم شرق موسكو، و هنا ستكون المدينة محاصرة تماما و معزولة نهائيا عن باقي الأراضي الروسية، عندها يتحرك الجيش الألماني الرابع باتجاه مدينة موسكو لاحتلالها نهائيا.
الفرق بين قيادة الجيش الروسي و قيادة الجيش الألماني: أسند الزعيم الروسي جوزيف ستالين رئاسة أركان و قيادة العمليات الجيش الروسي للمارشال جوكوف، و أصدر إليه أمرا بأن يضع خطة دفاعية و أخرى هجومية، يكون الهدف منها القضاء على الجيش الألماني و فتح ثغرة في الجبهة الألمانية الوسطى، و أكد له أن موسكو يجب أن لا تقع في يد النازيين حتى و لو أبيد الجيش الروسي عن أخره، و حتى يرفع من معنويات جنوده قرر ستالين البقاء في موسكو و المشاركة و لو شرفيا في إدارة المعارك.
من جهته كان المارشال جوكوف عسكريا محترفا يعرف جيدا كيف سيتعامل مع الجيش الألماني، فستالين أدرك أن تدخله المستمر في إدارة الجيش سيؤدي حتما لهزيمة نكراء، فقرر التنحي عن القيادة العليا و منح الضوء الخضر للمارشال جوكوف قصد إخراج روسيا من هذا المأزق، و بالتالي أصبح جوكوف قادرا على المناورة بجيشه و لم يكن ملزما بأخذ أي إذن للقيام بهجوم أو دفاع أو حتى الانسحاب.
عكس جوكوف تماما، كانت قيادة جبهة الوسط الألمانية مكبلة الأيدي لا تستطيع اتخاذ أي قرار دون الرجوع لهتلر، مما جعل مقدرتها على المناورة قليلة جدا.
خطة الدفاع الروسية: قصد إنقاذ الموقف و الحفاظ على موسكو وضع المارشال جوكوف خطة دفاعية و أخرى هجومية، ففي الشق الدفاعي بنى جوكوف ثلاث خطوط دفاعية متحركة بحيث يستطيع نقلها متى شاء لإعادة رص صفوف الجبهة متى تعرضت الخطوط الدفاعية لأي عملية اختراق. بينما كانت خطة الهجومية ترمي لاستدراج الجيش الألماني نحو الشرق قصد إبعاده أكثر عن خطوط التموين و من تم القضاء عليه و المبادرة بهجوم معاكس.
معركـــــــــــــــــــة موسكـــــــــــــــــــو
2 أكتوبر 1941 إلى 22 يناير 1942
في 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1941 بدأت رسميا معركة موسكو بهجوم ألماني كاسح في منطقة غلوكوف، حيث اخترقت القوات الألمانية دفاعات الجيش السوفييتي، و اقتحمت المجموعة المدرعة الثانية بقيادة الجنرال غودريان مدينة أوريل، و منها انعطفت جنوبا نحو مدينة تولا على بعد 200 كلم شمال موسكو، مما تسبب في إحداث شرخ كبير في قلب الخطوط الدفاعية الروسية.
أما في الواجهة الجنوبية فتقدم الجيش الرابع و المجموعة المدرعة الرابعة لاختراق جبهة كونييف شرقي روسلاف و واصلا زحفهما نحو مدينة فيازما، مما وضع الجيش السوفييتي في حالة سيئة جدا، لأن جميع خطوط الدفاع التي عول عليها الروس وقعت في يد الجيش الألماني بسرعة كبيرة و بالرغم من المقاومة الشرسة التي أبداها المدافعين الروس.
و في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 1941 سحق الجيش الألماني الجيش السوفييتي 3 و 10 و 13 الذين كانوا تحت قيادة الجنرال تيمشنكو (11)، غيران هذا الأخير استطاع بصعوبة كبيرة جدا أن يكون جيبان مقاومة كبيران شمال و جنوب مدينة بريانسك، و جيب ثالث قرب فيازما. إن عملية تطهير جيوب المقاومة الثلاثة و سحق الجيوش الروسية المحاصرة أفقد الألمان المزيد من الوقت الذي كانوا في أمس الحاجة لاستغلال كل ثانية فيه، فعملية تطهير جيوب مجموعة جيوش الجنرال تيمشنكو استغرقت زهاء ثلاث أيام، بحيث لم يسقط خط الدفاع الروسي رجيف-فيازما إلا مساء 6 أكتوبر (تشرين الأول)، و ابتداء من هذا التاريخ و حتى 11 من نفس الشهر عجزت القوات المدرعة الألمانية عن التقدم نحو أهدافها بسبب رداءة الأحوال الجوية و سقوط أمطار غزيرة حولت الطرقات إلى برك من الوحل يستحيل اجتيازها.
في 12 أكتوبر (تشرين الأول) استولى الألمان بصعوبة كبيرة جدا على مدينة كالوغا، التي تشكل همزة وصل رئيسية بين موسكو و كييف و أبحوا على بعد 160 كلم من موسكو، غير آن القوات الروسية احتمت بخط دفاعها المنيع (موجايسك).
اهتزاز عسكري و سياسي ضخم: نظرا لما حققه الجيش الألماني من انتصارات متتالية منذ بداية عملية غزو العاصمة السوفييتية موسكو، دب الذعر في صفوف الروس، حيث بدا السكان المدنيين في مغادرة المدينة خوفا منهم في السقوط بين يدي المحتل الألماني، و قررت الحكومة السوفييتية إخلاء العاصمة من جميع موظفي السلك الدبلوماسي المعتمد، و كذا من كل الوزارات و تم نقلهم إلى مدينة كويبيتشيف شرق نهر الفولغا، كما شب في العاصمة موسكو موجة كبيرة من الشغب و التخريب قابلها ستالين بنيران الرشاشات. و حتى يستعيد ستالين هيبته التي اضمحلت توجه بخطاب للأمة أعرب فيه عن أمله في أن يقف الشعب الروسي برمته في وجه المحتل النازي، و أعلن أنه باق في العاصمة موسكو للدفاع عنها أو الموت فيها، مما رفع من معنويات الجيش و الشعب الروسي على حد سواء، و قد عرفت هذه الأيام السوداء في التاريخ الروسي باسم يوم الخوف الأكبر (12).
في 18 أكتوبر (تشرين الأول) 1941 سقط خط موجايسك في يد الألمان، و كان هذا الخط الدفاعي يمثل أحد أسس دفاعات الروس عن عاصمتهم موسكو، مما سبب المزيد من الخوف، و أعلن ستالين عن حالة الحصار في العاصمة موسكو و ضواحيها.
في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1941 يقوم الجنرال غودريان بمحاولة جديدة لفتح ثغرة جنوب موسكو بين مدينة تولا و سربوكوف، غير آن رداءة الأحوال الجوية و تحول الطرقات لبرك كبيرة من الوحل شكلت مانعا حقيقيا أعجز الجيش الألماني عن التقدم.
المحاولة الألمانية الأخيرة: بحلول شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1941 بدا جليا أن خطة بربروسا قد فشلت، و أن المغامرة بهجوم جديد لن يزيد الطين إلا بله، ففصل الشتاء الروسي قد حل فعلا، و هبطت درجة الحرارة إلى 26 درجة تحت الصفر، و هطول الأمطار و ذوبان الثلج جعل من الطرقات برك كبيرة من الوحل لا يمكن للمدرعات الألمانية اجتيازها، كما أن قلة البنزين و الذخائر و الملابس الشتوية حد كثيرا من القدرات القتالية للجيش الألماني الذي أنهكت قواه و لم يعد بإمكانه تقديم أكثر مما قدم، كما أن ألمانيا كدولة قد قدمت أكثر مما يمكنها آن تقدم فثلثي قواتها المسلحة تحارب في الجبهة الروسية، و مصادرها البترولية أصبحت شحيحة بينما زادت حاجياتها من بترول كل التوقعات، و حتى هذا التاريخ كانت البحرية الألمانية (كريغ مارين) عاجزة تماما عن فك الحصار الذي ضربه البريطانيين عليهم. إن كل هذه العوامل جعلت القيادة العليا للجيش الألماني في محك صعب، لا تحسد عليه، فهتلر لا يريد إلا النصر و النصر فقط مهما كان الثمن، كما أن عملية تثبيت الجبهة عن الأقل تتطلب المزيد من القوات الجيدة التسليح و المستريحة (أي قوات لم تشارك في أي معركة أو عن الأقل لم تشارك في أي معركة لمدة لا تقل عن شهران أو ثلاث)، بينما لم يبقى للقيادة العليا الألمانية سوى جيش الاحتياط التي لا يمكنها المغامرة برميه في معركة قد باتت خاسرة. لكن تعنت هتلر أجبر هذه القيادة على بدل أخر محاولة لاحتلال مدينة حتى و لو استطاع الجيش الألماني آن يحتلها فإنه لن يستفيد منها إلا الدعاية فقط، و يبقى أمامه الكثير من ال