العلاج الروحي للأمراض النفسية
مما لا يسو إغفاله في المناهج والدراسات التي تهتم بها (المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية) أن كلا من الجانب الروحي الديني والجانب النفسي المستمد من المبادىء الإسلامية هما من أهم مميزات الطب الإسلامي لأن وجودهما يعزز الأسس والمبادىء المرضية في حياة الإنسان المسلم ، عليلا كان أو معافى، لأن هذا العلاج غير المادي ما هو إلا وجه من وجوه التطبيق للإسلام بعقيدته الصافية وشريعته الوافية، وهو في الحقيقة عنصر مساعد على وقاية (الطب الإسلامي) من آفة الاقتصار على العلاج المادي والتعلق به وإغفال الأثر الثابت لغيره من أساليب العلاج التي تمت بصلة مباشرة إلى العقيدة والأخلاق وهما الجانب البالغ الأهمية في حياة الإنسان .
وفي هذا يقول ابن القيم، وهو في أبحاثه القيمة يمثل السفير الناجح للجانب الروحي في ميدان الطب والعلاج: طب الطبائعية (يقصد أطباء الجسم) وعلاجهم بالنسبة إلى العلاج النبوي (يقصد العلاج الروحي) كطب الطرقية بالنسبة إلى طبعهم بل أقل. فإن التفاوت الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية ، بما لا يدرك الإنسان مقداره، فقد ظهر لك عقد الإخاء الذي بين الحكمة (يقصد المعقولات المدركة) والشرع (الغيبيات) وءدم مناقضة أحدهما للآخر ".
وهناك شعار يمكن رفعه في الدعوة إلى رحابة الصدر بهذا العلاج، وهو مستمد من قول r تعقيبا على استعراضه بعض الرقى المتداولة وإقرار ما كان منها خاليا من الشوائب المخلة بالعقيدة أو السلوك الإسلامي حيث قال: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) وإن تسليط الأضواء على هذا النوع من العلاج إتاحة للنفع ، كما أن من ينكره - عن جهل بمضمونه ومستنداته- يوصد بابا للنفع ويصد عن سبيله، وقد غاب عنه أن (وفوق كل ذي علم عليم) (6) ولم يستحضر الخطب الإلهي جملة وتفصيلا (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (7).
والعلاقة بين التوجيهات الدينية والشفاء وثيقة جدا، فالمؤمن كما يدين لخالقه في حال الصحة يستعين به في حال المرض ، والإسلام يقدم علاجات مختلفة متآزرة لإيجاد الإنسان القويم السوي، فكما يحتاج المريض إلى عقاقير الدواء يحتاج إلى عقاقير الفكر المستخلصة من العقيدة، وآثارها عبادة والتزاما.
والعلاج الروحي إما أن يكون معقول المعنى ميسور الإدراك لمن لديه مبادىء إيمانية، لما يلحظ فيه من الصلة المباشرة بمسلمات دينية تنبثق من الإيمان بالله عز وجل.. ومنها أمور لا يدرك العقل سرها لكنه في الوقت نفسه لا ينفيها لأنها لا تعارض مسلمات العقل، بل كل ما في الأمر أنه لا يستوعبها ولا يضع الإصبع على علة الأثر الذي ينسب إليها، وهذا النوع سيأتي منفصلا على حدة لأنه يحتاج مزيد من التوثيق وكثيرا من التوطئة ، وإطارا من التحرز بعدما دخلته الشوائب وتسللت إليه الغرائب.
على أن العلاج الروحي المدرك من حيث الصلة المباشرة بين التصرف والأثر يمكن تقسيمه إلى عام دائم تتحقق به الوقاية والأمان من الوقوع في براثن المرض وإلى علاج تستدعيه الحالة المرضية القائمة وهو- بالرغم من عمومية بعضه وصلاحيته لأكثر- من مرض- يعتبر من قبيل العلاج الرافع للعلة فهو يراد به البرء والشفاء في حين يراد من ذاك الأول السلامة واستدامة الصحة..
هذا ولم يهتم من تعرضوا للعلاجات الروحية بتقسيم مماثل أو مشابه لوقائي وعلاجي بقدر ما اهتموا بإحصاء تلك العقاقير الروحية وأثرها على الأدواء.. وقد أبلغها ابن القيم في معرض علاج (الهم والغم والحزن والكرب) إلى بضعة عشر، بعد أن ورد في مجالات أخرف العلاج بالتعوذات القرآنية، وبالتعوذات النبوية كما تعرض لعلاج حزن المصائب بالتفكير العميق في حقائق الأمور.
وباستعراض ذلك كله يتبين أن منه العام أو الوقائي، ومنه الخاص الموجه أساسا لمداواة مرض معين.
وللقاضي بدر الدين الشبلي اختيار آخر للعلاج الروحي يرشد فيه إلى عشرة أمور تهدف إلى معالجة الضعف الروحي الذي يتسرب معه إلى الإنسان التخبط والوسواس الناشىء عن تسلط أهل الشر من الجنة والناس .
وإن تلمس طبيعة هذه العلاجات كل على حدة، من حيث توقيت اللجوء إليها، يقتضي تصنيفها إلى ما يستهدف به الولاية وما يستهدف به العلاج والاستشفاء..
على أن التفرقة في العلاج الروحي بين الوقائي منه والشفائي ليست واضحة المعالم لسبب جوهري في طبيعتها وهو أنها في معظمها واجبات دينية ثابتة إما بصورة شخصية (فريضة عينية) أو بصوره جماعية (فريضة كفائية) .
ولذا قد ينعدم الخيار أو يضعف في الإقدام على سلوك تلك الأساليب والأخذ بها ما دام الشخص ملتزما بواجباته الدينية... ومن هنا تكون ملازمة هذه العلاجات هي الأصل، فإن كان الشخص معافى سويا قامت بدور الوقاية والتحصين وتعزيز المناعة، حتى إذا عرضت له أدواء وعلل، أو كان في غالب أحواله عليل الروح مريض النفس، فتلك العقاقير الروح، هي الدواء الشافي لما ألم به. ومادام الحديث في إطار العلاج الإسلامي روحيا فإن التوغل في وجهات النظر المختلفة ليس ذ بال هنا لأن هذا العلاج ليس عقارا طبيعيا ينفع للبرء من داء دون آخر ولا سيما أن هذه الأمراض أو الأعراض ملة واحدة في مجافاة الفطرة والتنكب عن الطبيعة السوية.
ولقد استعرض ابن القيم أهم هذه العلاجات (التي يغلب عليها الطابع الوقائي) وبلغت بضعة عشر من الأمور التي يمكن بل ينبئني ، الجمع بينها ليحصل له الدواء الشافي. وعلى رأسها صحة الاعتقاد بتوحيد الله تعالى على النحو الشامل لكل من:
- توحيد الربوبية : وهو اعتقاد العبد أن الله هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير وهو الذي رب جميع الخلق بالنعم، وربى خواص خلقه وهم الأنبياء وأتباعهم بالعقائد الصحيحة والأخلاق الجميلة والعلوم النافعة والأعمال الصالحة.
ب- توحيد الألوهية : وهو العلم والاعتراف بأن الله ذو الألوهية وله حق العبودية على خلقه أجمعين، وإفراده وحده بالعبادة كلها، وإخلاص الدين له وحده.
ج- التوحيد العلمي الاعتقادي ، بإثبات كل كمال أثبته الله لنفسه، وتنزيهه عن كل نقص أو صفة لا تليق بذاته.
والتوحيد الخالص يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والابتهاج، وهذه الصفات زاد للنفس، مناعة للروح من أن تعمل، فيها الأسقام.
وإذا كان منشأ أكثر الأمراض النفسية وأخطرها هو القلق والاكتئاب فإن علاجهما يكون بأمن الإيمان وطمأنينته، وذلك بعقيدة التوحيد التي يوقن فيها الإنسان بأن خالق النفع والضر هو الله عز وجل، ومن ثم فلا يخشى إلا الله ولا يرجو سواه، دون أن يخل ذلك بمواقف التغيير الإصلاحي دون الاستسلام أو العجز. ثم تأتي العبادات معززة لهذه العقيدة فتوثق صلة الإنسان بربه وتجعل له الغلبة على هواه فلا يكون مقهورا تحت وطأة شهواتها أو نوازعه.
وفي أبحاث المؤتمر الثاني جملة صالحة عن أثر الإيمان والعبادات في توفير الصحة النفسية.
ثم يأتي العلاج الوقائي التالي وهو استحضار الكمال في صفات الله وأفعاله الجارية في كونه وخلقه، فهو منزه عن العبث والظلم ولله في خلقه شئون وحكم حكيمة لا يضرها عدم إدراكنا لها.. وحسبنا الاعتقاد الجازم بتلك المسلمات العليا والتي تتضمن على ما ساقه ابن القيم أيضا:
د- تنزيه الله تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك.
هـ- واعتراف العبد بأنه هو الظالم لنفسه كلما كان في المصيبة سمة العقاب. ثم يأتي بعدئذ ما هو توابع لهذه العقيدة الواضحة الصافية، وذلك من مثل:
و- إقرار العبد لله بالرجاء، وهذا يقطع دابر اليأس القاتل والقلق والاكتئاب.. ومن كان الخير كله بيده فخليق بالإنسان تحقيق الرجاء برحمته، وتفويض الأمر إليه والتضرع بأن يصلح له شأنه كله ولا يكله إلى نفسه.
ز- تحقيق التوكل على الله والتفويض إليه والاعتراف بأن ناصية الإنسان في يده يصرفه كيف يشاء وأنه ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه.
ولهذه القناعات القلبية وسائل من كسب اللسان، والمناجاة المباشرة بين المخلوق والخالق تعين على تحقيق النتائج ، بما تفصح عنه من مكنون العقيدة ومضمر القناعات السابقة، وأهم هذه العلاجات:
ح- الإكثار مزج ترداد ( لا حول ولا قوة إلا بالله) مع استشعار المبدأين اللذين تتضمنهما وهما: البراءة من الحول الذاتي ، فلا حائل يقي من لحوق الشر والضرر إلا بالله ، والبراءة من القوة بمعنى المكنة الذاتية على جلب الخير فلا سبيل إليها إلا بالله ، ومما يجدر التنويه به هنا أن كلمة (الحوقلة) هذه للاستعانة بالله ، وليست للاسترجاع من المصيبة- كما يتوهم ، لذا هي علاج إيجابي. وللتصبر على المصيبة العبارة الخاصة المعروفة.
ط- التوسل إلى الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن تلك الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى الله وأقربها تحصيلا للمطلوب.
ي- التوبة، باعتبارها تصحيحا للمواقف والتصرفات الصادرة من الشخص سواء كانت في حق الله ، أو حق العباد وهي إذا كانت توبة نصوحا تزيل كل ما يبدد الطاقة الروحية للشخص ، وتقويه تجاه الضغوط والنكبات النفسية التي يتعرض لها من محاسبة الذات. ولا تخفى صلة التوبة بالتخلص من عقدة الذنب ودفعها الإنسان لاستئناف حياة ومواقف فضلى.
ك- الاستغفار ، وهو رفع لشعار التوبة، ومتابعة دائبة لها، وتعزيز لافتقار الإنسان إلى ربه ليكفر عنه خطاياه ويزيل عن نفسه شبحها الذي يشده لليأس والقنوط والضعف والسقوط.
ل- تكوين الشخصية الإسلامية المتبصرة التي تأخذ وتدع ولا يكون الفرد فيها (إمعة) " لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت وإن أساءوا أسأت ولكن وطنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تتجنبوا إساءتهم "، وهذا يدفع عن الإنسان خطر الانسياق والاستخذاء في مواجهة ما يسود في بيئة ما من أفكار غير سوية أو ما يتعرض له من تحريض على الشر، وتسويل من النفس للإقدام على مالا تحمد عقباه من مواقف .
م- الاستعانة بلله سبحانه بالدعاء :
والدعاء لون هام من ألوان العلاج للأمراض النفسية، وهو علاج روحي (إلهي) بالتعبير المستخدم قديما، فضلا عن كونه مظهرا عباديا بل هو مخ العبادة وخلاصتها.
والدعاء ليس- كما يخيل للبعض- أسلوبا نفسيا لا يقصد لذاته بل لأثره الإيحائي ، بل هو حقيقة قائمة عام مناجاة العبد لخالقه والاستعانة به في كل من حال الصحة وحال المرض (إياك نعبد وإياك نستعين ) (8) فلا صحة للزج بالدعاء ضمن وسائل (التنفيس) أو (الإيحاء) فليست في ذلك إلا طمس الحقيقة والغفلة عن الطبيعة العبادية للدعاء.
ن- الصلاة:
الصلاة علاج شامل ، بل صيدلية ملأى بالعقاقير الروحية لشتى أمراض النفس، وهي ليست علاجا فقط، بل مصدر قوة لنفسه تجعله آمنا من المعاناة ، مصداق ذلك قوله النبي (r): " أرحنا بها يابلال ".
وقد عد ابن القيم ما تكون الصلاة عونا على تحصيله من مصالح الدنيا والآخرة ودفع مفاسدها مما لا داعي لسرده، ومداره ما في، الصلاة من شرح الصدور وشفاء القلوب بلذة المناجاة والراحة النفسية باللجوء إلى الله في تأكيد العبودية له وتحقيق الاستعانة به. على أن ابن القيم لم يكتف بما بينه للمسلم من شأن الصلاة، بل نقل الكلام إلى من اتصف بالزندقة فلم يقم وزنا للأديان والعبادة المتقرب بها والمتوصل بها إلى راحة النفس. فدعا هؤلاء للتأمل فيما تستتبعه الصلاة من حركات فيها تقوية للأعضاء وللنفس مما يقوى طبيعة الجسم ويدفع عنه الألم ثم قال: لكن داء الزندقة والأعراض عما جاءت به الرسل والتعوض عنه بالإلحاد داء ليس له دواء إلا نار تلظى!... ولنا ألا نتفق مع رأي من يرى في الصلاة تحقيقا (للاسترخاء).. فإنه معنى لا يفي بمقاصد الصلاة الإيجابية في النفس والجسم.
س- الجهاد:
لأنه مصاولة للباطل ومدافعة للطغيان، إن أخل به من يطلب منه اشتد همه وغمه، فإن جاهد في الله حق جهاده بأية صورة مقدور عليها، أبدل الله ذلك الهم والحزن فرحا ونشاطا وقوة (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ) (9).
- القرآن، و خصوصا: الفاتحة والمعوذتان :
القرآن شفاء لما في الصدور. ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات، ففي القرآن من البينات ما يميز الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب.. هذا ما يقوله ابن تيمية ، ويقول القاضي الشبلي: وفي التطبيب والاستشفاء بكتاب الله غنى تام ومقنع عام وهو النور والشفاء لما في الصدور. وخواص الآيات والأذكار لا ينكرها إلا من عقيدته واهية، ولكن لا يعقلها إلا العالمون وتعيها أذن واعية..
هذا وإن فاتحة الكتاب، بما تضمنته من إخلاص العبودية والثناء على الله، وتفويض الأمر كله إليه ، والاستعانة به وسؤاله مجامع النعم كلها وهي الهداية، تعتبر من أعظم الأدوية الروحية، وموضع الاستشفاء منها هو (إياك نعبد وإياك نستعين ) (1).
ف- الصوم:
الصوم وقاية من أدواء الروح والقلب والبدن، وهو علاج روحي إذا روعي فيه مقصوده وأسراره، لأنه أمر آخر غير ترك الطعام والشراب، وذلك هو اجتماع القلب والهمة على الله تعالى وتوفير قوى النفس على طاعته.
ص- الصبر:
هو علاج روحي يرفع عن النفس ضغط المصيبة ويريح الشخص من عناء الشعور بالحرمان أو الألم المبرح نفسيا من المكروه الذي نزل به. والصبر مرتبط بالإيمان ارتباطا وثيقا، لأنه يستند إلى الاعتقاد بالحكمة الكامنة في أفعال الله تعالى نافعة كانت أو ضارة بالنسبة للإنسان .
وللعلماء غوص وتحليل دقيق للبواعث على الصبر والمرتكزات التي تحمل على التلبس به من خلال قناعات هادفة وليس خضوعا للأمر الواقع، فذاك أدق منزلة فيه، وهو صبر لا يثاب عليه صاحبه. وشعار هذه القناعات استحضار قوله تعالى (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) (11) فإن هذه الكلمة أبلغ علاج لأنها تتضمن أن العبد وأهله وماله ملك لله ، فإذا أخذه منه فهو كالعارية المستردة، كما يتضمن أن مصير العبد ومرجعه إلى مولاه الحق ولا بد أن يخلف الدنيا وما فيها وراء ظهره.
وممن أسهم في هذه المعالجات النفسية بالصبر للتخلص من القلق والاكتئاب (الغم والهم وألم المصائب) ابن الجوزي، والمنبجي، وابن تيمية، وابن القيم وآخرون. ومما طرحوه من عناصر كثيرة أشير إلى فحوى ما لديهم جميعا دون تكرار، فمن ذلك:
- أن يعلم أن الدنيا دار ابتلاء، وأنها ذات أحوال، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه.
- أن يعلم أن المصيبة ثابتة في القدر السابق ولابد من وقوعها. وهذا العلم بالنسبة للإنسان بعد أن تقع..
- أن يعلم أن الله ارتضاها له، واختاره لها، فالعبودية تقتضي رضاه بما قسم له.
- أن يعلم أن المصائب رغم خشونتها فهي دواء نافع سيق إليه من الحكيم الخبير.
- أن يعلم أن المصيبة ما جاءت إليه لتهلكه بل لامتحان صبره واختباره فإن من سنن الله اختبار عباده وتربيتهم على السراء والضراء والنعمة والبلاء.
- أن يقدر وجود أكثر من تلك المصيبة، ويلحظ أن ما أبقاه الله عليه مثل ما أصيب به أو أفضل.
- أن ينظر في حال من ابتلى بمثلها، أو بأكثر منها، فيهون عليه مصابه بالتأسي، أو بالتخفيف عنه.
- أن يشهد الجزاء والثواب على الصبر، من تكفير السيئات ورفع الدرجات، وأن يرزق الخلف الحسن عنها، وأن فوات ثواب الصبر أعظم من المصيبة.
- أن يراعى حق الله في البلاء وهو الرضا، أو على الأقل الصبر. فأحد هذين واجب عليه.
- أن يلحظ أن تشديد البلاء هو من خصائص الأخيار والصالحين .
- أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها، وأنه يشمت عدوه ويسيء صديقه ويغضب ربه ويضعف نفسه.. وأنه وإن بلغ في الجزع غايته فمآله أن يصبر صبر الاضطرار الذي لا حمد عليه ولا ثواب (الصبر عند الصدمة الأولى).
كما أن هناك درجات للصبر، فأدناها (التصبر) وهو يحصل بتكلف وتحمل على كره. ثم (الصبر) وهو ثمرة التصبر. ثم (الاصطبار) وهو ما يصدر سجية ويرافقه استبشار باختيار الله له. وهو أبلغ من الصبر
العلاقة بين الرجاء والخوف ..
لاشك أن الخوف كعلاج نفسي ليست مقصودا لذاته، بل هو لقمع نزوات الغرور والتسيب مما يقع معه الإنسان في نظير ما يعانيه لو لم يبال بشيء، ولهذا وجب في هذا الخوف ليظل سويا أن يكون متوازنا مع الأمل الذي يحمله الإنسان في جوانحه، فلا يبلغ ، به الخوف درجة اليأس والقنوط، وكي لا يظل إدراك الخوف هنا محل استغراب- من حيث إنه ملاحق في علم النفس ومعدود بين الأعراض غير المرغوبة- أشير إلى أن قصارى ما يعود به الخوف على صاحبه أن يورثه شيئا من القلق.، وهو من القلق غير العصابي إذ له خاصية الدافع إلى العمل والتصرف، ولذا ميزوه باسم (القلق الدافع (DRIVEANXIETY) وهي نظرية جديدة مفادها أن مواقف العمل والتعلم يصحبها شعور بالقلق وعدم الارتياح، وهو شعور يدفع إلى الإسراع في إنجاز واكتساب المعرفة، سعيا إلى تخفيض القلق والتخلص منه فيتلوه الشعور بالارتياح .
ويربط ابز تيمية بين المحبة وكل من الخوف والرجاء بعد أن يجعل المحبة أصل كل عمل ديني قائلا: الخوف والرجاء وغيرهما استلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه، والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) (13) ورحمته اسم جامع ، لكل خير، وعذابه اسم جامع لكل شر.
علاجات روحية غيبية:
والذي يجب أن لا نهمله هو العلاج الروحي الديني بمعناه الغيبي غير المحسوس بالإضافة إلى الاهتمام الملحوظ بالعلاج النفسي الذي أخضع للدراسة على صعيد العلم والتجربة أحيانا.. وبذلك نجمع في العلاج بين الأخذ بالأسباب واللجوء إلى خالقها (وإذا مرضت فهو يشفين ) (13).
والتأثير- كما يقول ابن القيم- غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير تارة يكون بالاتصال وتارة بالمقابلة وتارة بالرؤية وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل..
وهذه الأنواع تأخذ بنصيب متفاوت قربا أو بعدا من المادة المحسوسة الخاضعة للتجريب والضبط بقاعدة. ويهمنا منها ما جاءت في شأنه نصوص مثبتة وتطبيقات شرعية صحيحة النقل.
والغرض من استعراضها أن تؤخذ في الاعتبار سواء احتيج إلى العمل بها أم لا، فإن من الغبن والخيانة أن تطوى مثل هذه الأساليب أو يتنكر لها لمجرد مجافاتها لما يروج في عصر أو بيئة، أو لما يمتد من تأثير لمبادىء عاشت في قطاعات غير إسلامية.
ومن الواضح أن العمل بالشيء أو تركه أمر آخر غير التصديق والجحود فتارك العمل الواجب لا يجني إلا على نفسه، أما من يتمادى حتى ينكر الحقيقة الثابتة فإنه يريد أن يجني عليها وعلى كان من يعمل بها.. ولذلك يكون مدانا بالمعيار الذي توزن به هذه الحقيقة وفي نظر جميع من يعتقد ثبوتها عمل بها أولم يعمل .
على أننا حين نقرر تميز العلاج الروحي ونشير إلى بعض الصور الغيبية لا نلتزم ولا نقبل من صوره إلا ما ثبتت شرعيته بالنصوص الصحيحة بعيدا عن الخرافات والأوهام، وذلك منهج واضح، لأن الإسلام قد وضع الأسس الكفيلة بإبعاد صور الدجل والاستغلال التي يخترعها كثيرون ممن يستغلون حال ضعف المريض واستسلامه لكل من يلوح له بالعلاج.. أن تسليط الأضواء على المنهج الصحيح كفيل بإزهاق الباطل حتى يذهب الزبد جفاء وبإحقاق الحق حتى يبقى ، وهو ما كان قائما على أدعية وتعوذات مشروعة هادفة، ولابد أن يؤدي هذا إلى دحض الشوائب التي علقت بهذا العلاج بسبب الغموض الذي يستغله بعض المشعوذين .
إن ما جاء في الطب النبوي من علاجات روحية في المرض والوجع واللدغة والإصابة بالعين مما صحت به الأحاديث كله قائم على الدعاء مباشرة دون وسيط بأن يلهم الإنسان سواء السبيل للوصول إلى العلاج الناجع (فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله). وهذا الدعاء يصدر من المريض نفسه أو ممن يتوسم فيه استجابة دعائه بعيدا عن حمل التمائم والحجب.
علاج الإصابة بالعين:
لا تخفي صلة الإصابة بالعين بما يطرأ على النفس من انحراف غير جسماني وإن ذلك لا ينشأ عن تصرف مادي يلحق به، وحين تتغير حالة البدن فإن ذلك لا يخرج عن الأمراض النفسية. والإصابة بالعين أصلها من الحسد. ولكن ليس كل- حاسد عائنا ، وكما يقول ابن القيم: لا ينكر تأثير الحاسد بإيذاء المحسود إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، إذ يلحق بالمحسود من الأذى المعنوي ثم المادي بسبب ما تتكيف به نفس الحاسد من كيفية خبيثة فتؤثر بتلك الخاصية. وتقوم الإصابة بالعين على الرؤية الحاسدة غالبا، وإن كانت نفس العائن لا يتوقف تأثيرها على العين فقد يعتمد على الوصال.
وأولى المراحل: إعجاب العائن بالشيء، ثم إتباعه بتوجه نفسه على كيفية خبيثة تهدف للإضرار به، ثم تستعين على ذلك بالنظر إلى الشخص المعين .
ومن الأحاديث الكثيرة في العين الحديث المروى فى صحيح مسلم " العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " كما ثبت عنه (r) الترخيص في الرقية من الحمة (لسعة العقرب ) والغين، والنملة (قروح تخرج من الجنب).
وعلاج العين منه نوع وقائي يلجأ إليه المتعرض للإصابة، كما يدعي العائن إلى قوله لوقاية الآخرين من لحوق الذي يخافه عليهم، وهذا العلاج الوقائي هو (التبريك) أي الدعاء بالبركة بمثل قوله: اللهم بارك عليه. وكذلك استحضار الربط بين حدوث النعمة وسبق المشيئة الإلهية بأن يقول " ما شاء الله لا قوة إلا بالله).
وكذلك الدعاء الذي أخرجه مسلم في صحيحه والذي تعلمه (r) من جبريل " باسم الله أرقيك من كل دار يؤذيك، من شر كل حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك " مع تعوذات قرآنية كآية الكرسي والفاتحة والمعوذتين .
أما العلاج للاستشفاء من العين فهو كما ورد في الأحاديث الصحيحة أن يؤمر العائن بالتوضؤ أو الاغتسال، ثم يغتسل منه المعين ، وفي سنن أبي داود واقعة حصلت في عهده r. وقد اهتم علماء السنة وخاصة الإمام الزهري بوصف ذلك بالتفصيل.
وقد أطال ابن القيم الحديث في التكييف العقلي للإصابة بالعين وتعليل العلاج المأثور ليقرب ذلك إلى العلماء الطبيعيين في عصره .. ولا تزال كثير من الأمور تنكشف وتثبيت أشباه تلك المؤثرات غير المحسوسة في قضايا لم تدعم بنصوص غيبية واجبة التسليم بها..
علاج الصرع غير العضوي:
مما ثبت عن (أبقراط) أنه ذكر بعض علاجات الصرع ثم قال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة. وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج. ونقل القاضي بدر الدين الشبلي. عننه قوله أيضا في شأن بعض المياه الطبية: " إنه ينفع من الصرع، لست أعني الصرع الذي يعالجه أصحاب الهياكل، وإنما أعنى الصرع الذي تعالجه الأطباء " فأثبت نوعا من الصرع لا ينجع فيه العلاج الطبي المعهود لهذه العلة، ولا يزال هذا النوع مائلا للعيان، وإن كان الطب الحديث لا يأخذ بهذا التنويع. مع المشهود من استعصاء بعض الصرع عن العلاج وليس هذا استمرارا للتطبيقات في العلل الأخرى، لأن الحال مختلف فتلك العلل يدخل اللبس في تشخيصها فلا يوقف على الدواء المطابق للداء، وسنة الله التي أشار إليها الحديث أنه " إذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله " وكثير من حالات الصرع المستعصي، يحصل اليقين بوجود الداء ومع ذلك لا يجدي فيه الدواء الناجع في أمثال تلك الحالات مما يدل على أنه حينئذ مرض غير عضوي.
ولهذا النوع من الصرع في التراث تفسير ثابت بالنصوص، فلا يهمنا بعدئذ أن يستنكره البعض أو يستغربوه، وربما بلغ الحال التنديد به في غمرة ما يلتبس لديهم من الخلط بين صور مزيفة من علاجه وبين صور مرسومة متبعة.
ولا يتسع آخر المقام في هذا البحث إلا لبيان ما هناك من ضوابط لدى المنوهين به مع الإشارة لموضع الشاهد من النصوص الشرعية المنقولة وبعض التطبيقات: