وإذا ما تحدثنا عن صبر الصحابة فإنه بلا شك سيطول الحديث ويتشعب ، ويكفي أن أشير إلى صبر هؤلاء النفر الأولين الذين عذبوا في مكة حيث كانت رمضاء الصحراء القاسية تشوي أجسادهم ولكنهم صبروا واحتسبوا ، وقد كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالصبر فما دنت ساعة الصفر حتى الآن ،ولن تدنو حتى نقدم أقصى عذرنا ، وأقصى طاقاتنا.
ومن أجل أن تحقق معاني الصبر في أسمى صورها في حياة الداعية لا بد وأن تمر في تمارين الطاعة والعبادة فالعبادة اسم مشتق من التعبيد تعبيد الإنسان لربه أي تذلله وخضوعه وصبره على أوامر الله ونواهيه ومقاومة شهوات نفسه فالمسلم إن قهر نفسه وأطاع ربه ولجم جماح هواه فقد فاز فإن الهوى يقود إلى ما يعاب كما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. فالطاعة تحتاج إلى صبر ، فإنها لا تسهل على نفس المنافق الذي لم يوطئ نفسه لله ، لذالك تجد المنافقين لا يقومون بالعبادة إلا بتكاسل بين ، وقد قال الله في أمثال هؤلاء:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } . وكذلك قوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا }.
ويصور الله المؤمنين في صورة على النقيض من هذه الصورة ، فالمؤمن صبور شكور وذلك لإقباله على الله وإطاعته أوامره ومقاومته لشهوة نفسه ، ومن ذلك قوله تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }وقوله تعالى:{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}وقوله تعالى:{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وهذه عبادة الصوم كلها تجسد معنى الصبر ، يقاوم فيها الإنسان كل شهواته ويحبس نفسه لله ، لذلك كان الصوم مدرسة للصائمين تخرج أفواجا من أقوياء الشكيمة والعزيمة مدربين التدريب النفسي اللائق بحامل الدعوة وكذلك الحج تمرين رباني للصبر على المشقة والتعب الجسمي والصبر على شهوة حفظ المال ، أو شهوة الإنفاق في ملذات النفس ، والأمر نفسه في الزكاة التي تحتاج إلى نفوس قوية صابرة تخرج أموالها بطيب نفس ولا يقولون كما يقول الكفار :{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }، فكل عبادات المسلم هي لتعويده الصبر ليكون حاملا للدعوة ، فعلينا بالطاعة والصبر عليها والتزود منها بخير زاد لنكون أقدر على قهر النفس وتذليلها لله ، وعندها يتحقق قول الله تعالى فينا:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }، ولتصبح الطاعات عندنا مجال لذة وترتقي من مجال الصبر والتصبر إلى مجال اللذة والتشوق للقيام بالعبادة وهذا معنى ومدلول قول رسولنا الكريم مخاطبا بلالا المؤذن عند إقامة الصلاة: { أرحنا بها يا بلال} .قال الحسن البصري رحمه الله: " تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر وفي تلاوة القرآن فإن وجدتم ، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق"
اللهم أرضنا بعبادتك وارزقنا حسن أدائها ، اللهم ما مننت به فأتمه ، وما أنعمت به فلا تسلبه وما سترته فلا تهتكه ، وما علمته فاغفره ، إنك ولي ذلك والقادر عليه