والواقع أن تقدم بحوث التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية مرتهن بالتقدم الذي يتم على جبهة ابتكار المنهجيات و الأدوات البحثية القادرة على سبر أغوار الحقيقة الواقعية في كليتها، أي الجوانب المحسوسة منها وغير المحسوسة، المادية منها وغير المادية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. والحق أنه لم تكد تبذل إلى الآن أي جهود جادة في هذا السبيل، ولعل هذه الفجوة بذاتها يمكن أن تفسر لنا السبب الرئيسي لعدم إحراز تقدم كبير في البحوث التأصيلية كما نأمل أن نوضح ذلك في دراسة أخرى. بل لعلها تفسر لنا الشعور الذي يتبادر إلى أذهان بعضهم من أن جهود التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية لم تتحقق النتائج المأمولة منها في المرحلة الماضية.
ولقد يخطر ببال بعض الناس أن مهمة ابتكار مناهج وأدوات بحثية جديدة قادرة على استكشاف الجوانب غير المحسوسة من هذا الوجود، أو تلك التي تتصل بعالم الغيب، مهمة غاية في الصعوبة لأنه لم يسبقنا إليها أحد، وأن هذا قد يفسر تقاعسنا إلى الآن عن التعامل مع هذه القضية. ولكن الواقع غير ذلك، فقد يندهش الكثيرون عندما يرون أن هناك بالفعل جهودا جيدة قد بذلت في هذا السبيل عند غيرنا، وأقصد بذلك عند الباحثين من أصحاب التوجهات النقدية للمنظور التقليدي للعلوم الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، فلقد أبلى هؤلاء بلاء حسنا في نقد الطرق والأدوات البحثية الحالية، ثم في ابتكار طرق وأدوات جديدة جديرة بأن ننظر فيها بجدية، سواء استفدنا منها مباشرة أو بطرق غير مباشرة.
ويمكننا التمييز في تلك الجهود النقدية الإنشائية بين اتجاهين: أحدهما رافض متشدد للتوجهات الوضعية التجريبية (الإمبريقية) دون مساومة، ويمثله "أصحاب التوجه الجديد في البحث"New Paradigm Research. والثاني معتدل يقبل كلا من المناهج والطرق الكمية والكيفية معا، ويطلق عليه أصحابه اتجاه التوجه المنهجي Methodological Diversity. وفيما يأتي نبذة تبين موقف أصحاب كل من التوجهين (أنظر: إبراهيم رجب، 1994):
1. التوجه الجديد في البحث New Paradigm Research:
ينادي أصحاب هذا الاتجاه باستعادة المناهج أو الطرق الكمية في البحث Quantitative Methods بالكلية وإحلال الطرق الكيفية في البحث Qualitative Methods محلها، ويشنون هجوما شديدا على من يستخدمون الطرق الكمية، ويحبذون استخدام المداخل الظاهراتية Phenomenological Approaches والمداخل التفسيرية Hermeneutical Approachesالتي يرون أنها تقربنا إلى الوصول إلى الحقيقة في فهم الإنسان من خلال النفاذ إلى "المعاني" التي يضيفها المبحوثون على سلوكهم، وعلى الواقع الذي يعايشونه ويدركونه. ولقد جمع بيتر ريزون وجوان روان19 عددا كبيرا من الإسهامات التي تصف أو تقدم نماذج تطبيقية للطرق والأدوات البحثية المنطلقة من هذا التوجه، مثل طريقة البحث بالمشاركة Endogenous Research والمنهجية الباطنيةParticipative Research والمنهجيات الخبراتيةExperiential Methodologies والمنهجية الحوارية Dialogical Research إلى غير ذلك من الطرق والأدوات التي تحاول النفاذ إلى الحياة الداخلية الذاتية للإنسان توصلا إلى تعميمات موضوعية، واتخاذ ذلك بديلا لطرق الملاحظة الخارجية التي (رغم غلو الوضعيين) تعجز عن الوصول إليها أصلا.
2. اتجاه التنوع المنهجيMethodological Diversity:
وهو اتجاه لا يقوم على استبعاد المناهج والطرق الكمية، ولكن على استكمالها بالطرق الكيفية، حتى يمكن تغطية كل جوانب الحقيقة الواقعية، كما يقرر ذلك بولكنجهوزن20، ويرى لأصحاب هذا التوجه أن هدفنا هو الوصول إلى الموضوعية، وبوسعنا -كما يقول جرجن21- أن نستخدم أية منهجية كانت، طالما أنها تمكن الباحث من الوصول إلى الحقيقة، سواء جاءت قوة تلك المنهجية من البحوث التي تستخدم عينات كبيرة [كما هو الحال في المنهجيات التقليدية]، أو جاءت قوتها من حساسيتها للفروق الدقيقة، أو قدرتها على النفاذ إلى العمق [كما هو الحال في المنهجيات الجديدة]، ويلخص فورد 22رأي أصحاب تلك التوجهات الحديثة، فيقرر بأنهم يركزون على المتغيرات التي تتعلق "بالخبرات الخاصة للأشخاص الذين تجري عليهم الدراسة، والتي لا يمكن أن يلاحظها إلا هم أنفسهم، ولما كان المبحوثون بشرا "قادرين على توجيه سلوكهم بأنفسهم فإنهم يقررون ماذا يفشون ، وماذا يخفون، وماذا يحرفون، في تعبيرهم عن تلك الخبرات، ولذلك فإن إجراءات جمع البيانات ينبغي أن تصمم وتنفذ تعاونيا collaborative بين الباحث والمبحوث، إذا أردنا الحصول على بيانات صادقة"، وينتهي إلى التأكيد أنه لابد لنا من ابتكار طرق بحثية جديدة تلائم طبيعة الظواهر الإنسانية التي ندرسها.
ومن هذا يتبين لنا بوضوح أننا لسنا وحدنا الذين نرى أن المناهج التجريبية والأدوات التي تركز على الملاحظة ليست كافية وحدها في دراسة الإنسان بكل جوانبه المادية والروحية، وأن هناك بدايات يمكن الاستفادة منها لمناهج وأدوات تحاول النفاذ إلى حقيقة الحياة الداخلية، وخصوصا الجوانب الروحية للإنسان، بما يمكن أن يخدم أهداف التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية على الوجه الذي نأمله، ولكن هذا يتطلب أيضا بذل جهود مكثفة ومنظمة لاختبار هذه المنهجيات والأدوات وتطويرها في الاتجاهات التي تتمشى مع الثورة العلمية التي يراد تحقيقها من خلال الجهود التأصيلية.
--------------------------------------------------------------------------------
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]