Esraa Eman Hussein{Admin} Admin المدير العام للمنتدى
الابراج : عدد المساهمات : 4049 تاريخ التسجيل : 15/06/2009 العمر : 35 الموقع : www.esraa-2009.ahlablog.com
| موضوع: علماء الدولة العباسية الأربعاء 01 سبتمبر 2010, 1:43 am | |
| قامت الدولة العباسية باعتمادها على دمج الشعوب ومزجها وصهرها في الدولة الإسلامية. وهذا الاتحاد هو السر في تلك النهضة العلمية العجيبة التي امتدت من، قيام الدولة العباسية إلى نهاية القرن الرابع الهجري. فان كان للدولة العربية الإسلامية في صدر الإسلام، فضل الفتوح والانتشار والاتصال بالحضارات القديمة مما أدى إلى ظهور المنابت الأولى للحضارة الإسلامية في أواخر عهدها، فإن للدولة العباسية فضل رعاية هذه المنابت الحضارية والعمل على تنميتها وازدهارها. فالمسلمون نقلوا وترجموا وعربوا هذا التراث القديم إلى لغتهم العربية حتى إذا ما استوعبوا ما نقلوه، أخذوا ينتجون ويبدعون ويضيفون، حتى قدموا للعالم ما عرف بالحضارة العربية الإسلامية، وهي الحضارة التي توفرت لها تلك المزايا الثلاث التي لا تتوفر إلا في الحضارات الكبرى وهي: ا لامتياز، والأصالة، والإسهام في تطور البشرية.
لهذا أجمع العلماء علي أن الحضارة الإسلامية تحتل مكانة رفيعة بين الحضارات الكبرى التي ظهرت في تاريخ البشرية، كما أنها من أطول الحضارات العالمية عمراً، وأعظمها أثراً في الحضارة العالمية.
وتبدأ هذه النهضة الحضارية في العراق بعد أن أسس الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور" مدينة بغداد (145- 149 هـ) وجعلها عاصمة لدولته، ومقراً للخلافة العباسية صاحبة السلطان الشرعي على جميع الأقطار الإسلامية. فهي لم تكن مثل الفسطاط أو دمشق أو قرطبة، عاصمة قطر بعينه، بل كانت عاصمة العالم الإسلامي كله. ولهذا صارت مدينة دولية COSMOPOLITE واكتسبت صفة عالمية، وسكنتها عناصر من مختلف الأجناس، والملل والنحل، إسلامية وغير إسلامية، فهناك الفرس والهنود والسريان والروم والصينيون وغيرهم. وكل هذه العناصر لم تسكن بغداد بأشخاصها فقط، بل بثقافاتها وتجارتها وعلمها وفنها، فعربت ألفاظ يونانية وفارسية وهندية كثيرة. وظهرت كتب الأدب العربي مثل عيون الأخبار لابن قتيبة، والبيان والتبيين للجاحظ.
وفي خلافة أبي جعفر المنصور (136- 158 هـ) ترجمت بعض أعمال العالم السكندري القديم بطليموس القلوذي CLAUDIUS PTOLOMY (ت. 17 م)، ومن أهمها كتابه المعروف، باسم "المجسطي ". واسم هذا الكتاب في اليونانية " (EMEGAL MATHEMATIKE ، " أي الكتاب الأعظم في الحساب. ويبدو أن المسلمين حولوا لفظ MEGALE في مجال إلى" مجسطي ". والكتاب عبارة عن دائرة معارف في علم الفلك والرياضيات. وقد أفاد منه علماء المسلمين وصححوا بعض معلوماته وأضافوا إليه.
وعن الهندية، ترجمت أعمال كثيرة مثل الكتاب الهندي المشهور في علم الفلك والرياضيات، "براهمسبهطسدهانت " وتختصر بسد هانتاSiddhanta أي " المعرفة والعلم والمذهـب ". وقد ظهرت الترجمة العربية في عهد أبي جعفر المنصور بعنوان "السند هند" وهو تحريف للعنوان الأصلي. ومع كتاب "السند هند" دخل علم الحساب الهندي بأرقامه المعروفة في العربية بالأرقام الهندية فقد تطور على أثرها علم العدد عند العرب، وأضاف إليها المسلمون نظام الصفر، والذي لولاه لما فاقت الأرقام العربية غيرها من الأرقام،ولما كان لها أية ميزة، ولما استطعنا أيضاً أن نحل كثيراً من المعادلات الرياضية من مختلف الدرجات، فقد سهل استعماله لجميع أعمال الحساب، وخلص نظام الترقيم من التعقيد، ولقد أدى استعمال الصفر في العمليات الحسابية إلى اكتشاف الكسر العشري الذي ورد في كتاب مفتاح الحساب للعالم الرياضى؟ المسلم، جمشيد بن محمود غياث الدين الكاشي(ت 840 هـ1436 م)، وكان هذا الكشف المقدمة الحقيقية للدراسات والعمليات الحسابية المتناهية في الصغر، لقد كانت الأرقام العربية بصفرها وكسورها العشرية بحق هدية الإسلام إلى أوروبا. ومن هذا الكتاب أيضاً استخرج العالم "إبراهيم الفزاري "- الذي أشرف على ترجمته- جدولاً حسابياً فلكياً يبين مواقع النجوم ويحسب حركاتها وهو ما يعرف باسم "الزيج ". أما الآلة الفلكية التي تستخدم لرصد الكواكب، فكانت تسمى "بالاصطرلاب ". ويعتبر إبراهيم الفزاري أول من صنع الاصطرلاب من المسلمين.
وفي خلافة المهدي بن المنصور (158- 169 هـ) برز عالم عربي في الكيمياء يدعى جابر بن حيان الأزدي " الذي نسبت إليه كتابات كثيرة في الكيمياء تضم ما وصل إليه هذا العلم من تقدم في هذا الوقت سواء في المركبات الكيميائية التي لم تكن معروفة في ذلك الوقت مثل نترات الفضة المتبلورة وحامض الأزوتيك وحامض الكبريتيك (زيت الزاج) ولاحظ ما يرسب من كلوروز الفضة عند إضافة ملح الطعام أو في وصف العمليات الكيميائية كالتقطير والتبخير والترشيح والتبلور والتذويب والتصعيد والتكليس ونحوها.
وفي خلافة هارون الرشيد (170 هـ/ 786،ـ 193هـ / 808 م) أسس في بغداد في بيت الحكمة" لأعمال النقل والترجمة، الذي ازدهر في عهد ولده عبد الله المأمون (198 هـ/813 م- 218 هـ/833 م)، فترجمت فيه أمهات الكتب اليونانية القديمة، وأقيمت فيه المراصد، ورسمت فيه الرسوم (الخرائط) الجغرافية على أحدث ما توصل إليه العلم في الأرصاد وأعمال المساحة. كما تخرج منه مشاهير العلماء أمثال " محمد بن موسى الخوارزمي (ت 232 هـ846 م) " الذي عهد إليه المأمون بوضع كتاب في علم الجبر، فوضع كتابه " المختصر في حساب الجبر والمقابلة"، وهذا الكتاب هو الذي أدى إلى وضع لفظ الجبر وإعطائه مدلوله الحالي. قال ابن خلدون: "علم الجبر والمقابلة (أي المعادلة) من فروع علوم العدد، وهو صناعة يستخرج بها العدد المجهول من العدد المعلوم إذا كان بينهما صلة تقتضي ذلك فيقابل بعضها بعضاً، ويجبر ما فيها من الكسر حتى يصير صحيحاً". فالجبر إذن، علم عربي سماه العرب بلفظ من لغتهم، والخوارزمي هو الذي خلع عليه هذا الاسم الذي انتقل إلى اللغات الأوروبية بلفظه العربي ALGEBRAولقد ترجم كتاب الخوارزمي إلى اللغة اللاتينية في سنة 1135 م بواسطة مستعرب إنجليزي اسمه " رو برت أوف تشستر" ROBERT OF CHESTER " درس وعاش في أسبانيا حيث كان أسقف بامبلونه ، ومن هناك انتقلت ترجمته إلى أوربا حيث ظلت تدرس في جامعاتها حتى القرن السادس عشر الميلادي. كما انتقلت الأرقام العربية إلى أوربا عن طريق مؤلفات "الخوارزمي ". ومن الملاحظ أن اسم "الخوارزمي " استعمل في اللغة اللاتينية على شكل "الجور تمي "ALGORISMO ثم حور في قالب "الجورزمو " ALGORISMO "للدلالة على نظام الأعداد وعلم الحساب والجبر وطريقة حل المسائل الحسابية .
هذا، وتظهر عبقرية "الخوارزمي " في " الزيج " أو الجدول الفلكي الذي صنعه وأطلق عليه اسم "السند هند الصغير،،وقد جامع فيه بين مذهب الهند، ومذهب الفرس، ومذهب بطليموس (اليونان)، فاستحسن أهل زمانه ذلك وانتفعوا به مدة طويلة فذاعت شهرته وصار لهذا الزيج أثر كبير في الشرق والغرب.
وللخوارزمي مأثرة أخرى، وهي أنه رسم للمأمون خريطة كبيرة للعالم المعمور على أيامه، كما وضع كتاباً جغرافياً بعنوان "صورة الأرض " اعتمد فيه على كتاب المجسطي لبطليموس مع إضافات وشروح وتعليقات. وقد نشر هذا الكتاب وترجم إلى الألمانية سنة 1926 م.
وفي مجال الطب والعناية بالمرضى أنشأ العباسيون عدداً كبيراً من البيمارستانات (المستشفيات)، ومخازن الأدوية، واستأثرت العاصمة بغداد بالعديد منها، فنسمع عن البيمارستان الذي أنشأه الرشيد في الجانب الغربي من بغداد على يد الطبيب "جبرائيل بن بختيشوع "، والبيمارستان الصاعدي أيام المعتضد في الجانب، الشرقي من بغداد، والبيمارستان المقتدري الذي بناه المقتدر سنة 306 هـ 918م، وبيمارستان السيدة الذي أنشأته أمه في الأعظمية، وبيمارستان ابن الفرات الذي أنشأه وزيره أبو الحسن علي بن الفرات، والبيمارستان العضدي... الخ. وكانت هذه محاولة لإيجاد أماكن تعالج فيها المرضى ويخضعون للملاحظة والتسجيل، وهي أساس المستشفيات الحديثة.
وقد توصل الأطباء المسلمون إلى أراء جديدة في الطب تخالف أراء القدماء في معالجة كثير من الأمراض، واستخدموا في مستشفياتهم الكاويات في الجراحة، ووصفوا صب الماء البارد لقطع النزف أو معالجة الحميات، وعالجوا الأورام الأنفية وخياطة الجروح، وقطع اللوزتين، وشق أوراق الحلق، وقطع الأثداء السرطانية، وإخراج الحصاة من المثانة، وجراحة الفتق وجراحة العيون، وإخراج الجنين بالآلة، وإخراج العظام المكسورة، واستخدام المرقد (البنج) (ويدخل في تركيبه الأفيون والحشيش وست الحسن) كما فرقوا بين الحصبة والجدري... الخ.
وكانت الدولة تراقب الممارسات الطبية والأطباء، فكانوا يمتحنون الأطباء والصيادلة فقد امتحن الصيادلة زمن المأمون والمعتصم، وأمر الخليفة المقتدر الطبيب الكبير سنان بن ثابت بن قرة سنة 316 هـ بمنع سائر المتطببين من التصرف وممارسة مهنتهم إلا بعد إجراء امتحان لهم، فامتحن يومئذ أكثر من ثمانمائة طبيب. وكان كل من يقوم بممارسة مهنة الطب، يؤخذ عليه قسم الطبيب المسلم والذي كان يعتمد على المحافظة على سر المريض وعلاجه دون تمييز وأن يحفظ كرامة المهنة وأسرارها.
وفي أيام المعتصم وولديه الواثق والمتوكل، برز الطبيب "يحيى بن ماسويه(ت 243 هـ) " الذي تنسب إليه مؤلفات طبية عديدة من أهمها: "كتاب دغل العين) أي ما يضر العين ويؤذيها، وهو أول كتاب عربي في علم الرمد.
ويعرف " ابن ماسويه " في الغرب باسم "ماسو الكبير" MESUE MAIOR .
كذلك نذكر الطبيب اللامع "حنين بن إسحاق (ت 260 هـ ) الذي عرف عند علماء الغرب باسم يوهانيتس YOHANTUS درس "حنين " الطب على أستاذه "يحيى بن ماسويه" ثم واصل دراسته في بلاد الروم والإسكندرية وفارس، والف كتباً كثيرة أهمها كتاب في الرمد باسم "العشر مقالات في الـعين "، وكتاب " السموم والترياق "، وكتاب في أوجاع المعدة، وكتاب في الحميات، وكتاب في الفم والأسنان. وهذا الكتاب الأخير أعجب به الخليفة الواثق لأنه يصف الفم والأسنان وصفاً دقيقاً. وقد نقل المسعودى في كتابه "مروج الذهب (ج 4 ص 80- 81) " قسماً منه، ذكر فيه أن عدد الأسنان في الفم اثنتان وثلاثون سناً، منها في اللحى (الفك) الأعلى " ستة عشر سناً، وفي اللحى الأسفل كذلك.
وهكذا ازدهرت العلوم العقلية والتجريبية الإسلامية نتيجة لهذه الاستراتيجية العباسية التي قدمت كل تشجيع .
لحركة النقل والترجمة، مما أدى إلى ذيوع الكتب العلمية المنقولة إلى العربية، ومن ثم صارت اللغة العربية لغة علمية بعد أن كانت لغة شعر وأدب فقط.
ومما يجب ملاحظته بهذا الصدد ما تميز به علماء الإسلام من الجمع بين العلوم الفقهية والعلوم الطبيعية، فالكندي مثلاً ت 260 هـ/873 م جمع بين المنطق والحساب والفلك والهندسة والسياسة والطب والفقه وأصول العقيدة، وابن سينا ت 428 هـ 1036 م جمع بين الطب والرياضيات والعلوم الطبيعية والفلك والشعر
قال الله تعالى:
" أو لم ينظروا في ملكوت السموت والأرض وما خلق الله من شيء " سورة ا لأعراف- آية 185)،
وقال تعالى: " فاعتبروا يأولى الأبصر"، (الحشر- أية 2) .
فكانت محصلة كل ذلك دراسة العلوم الدنيوية دون أن تؤثر على العقيدة الإسلامية، إذ عملوا على سد الثغرات التي يمكن أن تؤثر على علمهم وذلك بالبحث والدرس. وهذا ما جعلهم يربطون بين ما تلقوه من تعاليم القرآن وتصوراتهم العلمية بتوازن تام ونسق منهجي باهر، إن أعظم نشاط فكري قام به العلماء المسلمون، يبدو جليا في حقل المعرفة التجريبية ضمن دائرة ملاحظاتهم واختباراتهم، فإنهم كانوا يبدون نشاطاً واجتهاداً عجيبين حين يلاحظون ويمحصون، وحين يجمعون ويرتبون ما تعلموه من التجربة أو أخذوه من الرواية والتقليد، لقد كانت الشمولية المدعمة بالبحث والتفحص أهم ظاهرة تميز بها العلماء المسلمون، حيث أن العالم هو العالم الشامل ولا خطر على العلم من الدين ولا خوف من تأثير العلوم الدنيوية على تعاليم الدين. فجاءت مصنفاتهم وثيقة العرى بالشريعة، موصولة بالعلوم الفقهية.
وإلى جانب هذا الازدهار العلمي التجريبي ،
اشتهرت بغداد أيضاً بالعلوم النقلية أو الشرعية التي تتصل بالقرآن الكريم والسنة النبوية مثل التفسير. والقراءات والحديث والفقه واللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا... الخ. وقد حرص خلفاء بني العباس منذ بداية دولتهم على الاهتمام بهذه العلوم الإسلامية وتشجيع العلماء المشتغلين بها ولا سيما علماء أهل الحجاز الذين كانوا على دراية واختصاص بعلوم القرآن والحديث والسنة. ومثال ذلك الخليفة "أبو جعفر المنصور" الذي حض علماء أهل المدينة على القدوم إلى بغداد ويسر لهدم مكانة مرموقة. وتابعه في هذا الاهتمام ابنه "المهدي " الذي أكرم وفادة القادمين من أهل المدينة وقربهم إليه وأجزل لهم العطاء وأطلق عليهـم اسم الأنصار، وصارت لهم في بغداد قطيعة وقنطرة ومسجد ومقابر خاصة بهم، كما كان لهم نقيب خاص. لهذا كان من أوائل قضاة بغداد عدد من أهل الحجاز مثل "يحيى بن سعيد الأنصاري "، و، " سعيد بن عبدا لرحمن الجمحي" . هذا إلى جانب المحدث، "والإخباري المعروف "محمد بن إسحاق بن يسار (ت102 هـ) " الذي رحب المنصور بمقدمه. ويقال أنه لما دخل على الخليفة المنصور وكان بين يديه ابنه المهدي، قال له المنصور: "أتعرف من هذا يا ابن إسحاق؟ "، فقال نعم، هذا ابن أمير المؤمنين. قال. " اذهب وصنف " كتاباً منذ خلق الله تعالى أدم عليه السلام إلى يومك هذا".. فصنف ابن إسحاق كتابه "المغازي والسير وأخبار المبتدأ ". على أن هذا الكتاب للأسف لم يصل إلينا إلا في رواية مختصرة له كتبها"عبد الملك بن هشام (ت 218 هـ) " وتعرف باسم سيرة رسول الله وتعرف عموما بسيرة ابن هشام. غير أنه يلاحظ من الحوار الذي دار بين المنصور وابن إسحاق " أن الكتاب الذي طلبه المنصور لا يقتصر على السيرة النبوية فقط، بل يشمل تاريخاً منذ خلق الله آدم إلى اليوم الذي يعيشه ابن إسحاق، أي أنه يجمع بين ماضي الأمة الإسلامية وحاضرها، وهذا يدل على أن كتاب المغازي لابن إسحاق كان أشمل وأوسع بكثير مما وصل إلينا عن طريق ابن هشام ، وقد يؤيد ذلك أن ابن إسحاق كان موضع مديح العلماء الذين جاءوا بعده، إذ وصفوه بأنه لم ينزع في كتابه إلى تدوين تاريخ النبي فحسب، بل إلى تاريخ النبوة بذاتها. وقال فيه "الإمام الشافعي (ت 204 هـ) "من أراد التبحر في المغازي، فهو عيال على ابن إسحاق". وعلى أية حال، فإن هذه النقلة التي أقدم، عليها ابن إسحاق من رواية الحديث إلى الاشتغال برواية الأخبار، تعتبر بداية انفصال التاريخ عن الحديث، على اعتبار أن التاريخ كان نوعاً من أنواع الحديث.
وهكذا صار التاريخ علماً مستقلاً، وأخذ يتطور تدريجياً حتى أخذ مظهره الرائع كعلم من أجل علوم المسلمين، وأخذ المؤرخون مكانتهم بين علماء الدولة الإسلامية كرجال لهم خطرهم في الحياة العامة، سياسية كانت أو علمية، بينما تضاءل مدلول لفظ إخباري حتى صار يطلق فقط على من يروي الحكايات والقصص.
ولقد كانت بغداد مركزا لتطور الدراسات التاريخية والحضارية على مستوى عالمي، فلم يعد إنتاجها في هذا الصدد قاصراً على العراق فحسب، بل شمل العالم الإسلامي والحياة الإسلامية. ومثال ذلك تاريخ الرسل والأمم والملوك للطبري (ت 310 هـ)، وكتابا "مروج الذهب "- "والتنبيه والأشراف " للمسعودى (ت 346 هـ)، وكتب المسالك والممالك، كلها صور عامة للحياة الإسلامية بمختلف مظاهرها التاريخية والحضارية.
وما يقال عن التاريخ يقال أيضاً عن علم الفقه الذي يقوم على البحث في الأحكام الشرعية، ومعرفة حكم الدين في القضايا التي تحدث للمسلمين سواء في قضايا دينهم (العبادات) أو في قضايا دنياهم (المعاملات). ومع قيام الدولة العباسية كان المسلمون قد بدأوا في تدوين فقههم واستنبطوا الأحكام والشرائع في القرون الأولى للهجرة، وهو ما لم يتفق لدولة من الدول السابقة، فالقانون الروماني مثلاً لم يستقر أمره إلا زمن الإمبراطور "جستنيان " أي بعد تأسيس الدولة الرومانية بأكثر من عشرة قرون.
وهكذا ظهرت المذاهب الفقهية في عصر الدولة العباسية، واحتلت بغداد مكان الصدارة لهذه الدراسات الفقهية، إذ ظهر فيها الإمام " أبو حنيفة النعمان (ت 150 هـ) " في "خلافة أبي جعفر المنصور، وكان مذهبه يعتمد على الرأي والقياس والاجتهاد، بسبب تعقد الحياة وتطور المدنية في البيئة العراقية لكونها مجمعاً لمختلف الأجناس والملل والنحل مما أدى إلى ظهور قضايا ومشاكل جديدة لا تنطبق عليها نصوص القرآن والسنة، وتحتاج إلى وضعها محل الاجتهاد، والحكم فيها عن طريق الاستنباط العقلي القائم على المنطق الدقيق وهو القياس أو الرأي.
وقد عاصر الإمام أبو حنيفة كلاً من الأئمة "مالك بن أنس في المدينة (ت 79 ا هـ) "، و "الليث بن سعد في الفسطاط (ت 175 هـ) "، وهم جميعاً من أهل الحديث، أي أنهم يتمسكون عند إصدار أحكامهم بنصوص القرآن والحديث، ولا يرضون عما استحدثه الأحناف من أقيسه ذات طابع فلسفي.
وفي السنة التي توفى فيها الإمام أبو حنيفة (150 هـ)، ولد الإمام "محمد بن إدريس الشافعي " في غزة، وعاش في الحجاز حيث حفظ موطأ الإمام مالك بن أنس " بالمدينة المنورة وقرأه عليه وهو صبي في العاشرة من عمره، ثم رحل إلى العراق حيث تعلم في بغداد فقه "أبي حنيفة" قبل رحيله واستقراره قي مصر. ومن ثم جاء مذهبه وسطاً بين مذهب " أبي حنيفة" المتوسع في الرأي، ومذهب "مالك بن أنس " المعتمد على الحديث. وتوفي "الشافعي " قي الفسطاط سنة (204 هـ) ومن أشهر مؤلفاته "كتاب الأم " في الفقه، و "رسالة في أصول الفقه "، تعتبر الأولى من نوعها، إذ وضع فيها لأول مرة قواعد الاستنباط في الأحكام الشرعية وهو ما يسمى بأصول الفقه.
وجاء بعده تلميذه الإمام "أحمد بن حنبل الشيباني "، الذي ولد وعاش ومات في بغداد (164- 241 هـ) وكان يرى أن يقوم الفقه على النص من الكتاب أو الحديث، وأنكر على أستاذه " الشافعي " أخذه بالرأي، واعتبر الحديث أفضل من الرأي، فعاد بذلك إلى رأي الإمام مالك. ومن أشهر كتبه "المسند" الذي يعتبر موسوعة لأحاديث الرسول .
وهكذا نرى أن بغداد عرفت من الفقهاء الذين أقاموا أو درسوا فيها، عدة اتجاهات فقهية، فهناك المتمسك بالرأي، كأبي حنيفة"، وهناك المتمسك بالنصوص "كابن حنبل "، وهناك من لاءم بينهما واتخذ مذهباً وسطاً "كالشافعي. والواقع أن كل المذاهب الفقهية الإسلامية تتفق معاً في العمل بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة والتابعين، ولكنها تختلف في فهم واستنباط الأحكام الشرعية وتطبيقها.
أما دراسات العلوم اللغوية والنحوية، فقد شهدت العراق فيها ثورة واسعة ضخمة على أيدي علماء البصرة والكوفة الذين حققوا إنجازات وابتكارات علمية في هذا المجال للحفاظ على كلام العرب وتقويم اللسان العربي، بعد أن فشا اللحن في كلام المسلمين، نتيجة لاختلاطهم بالأعاجم في البلاد المفتوحة. لهذا قام هؤلاء العلماء بجمع وتدوين ألفاظ اللغة العربية وأشعارها من منابعها الصافية في نجد بقلب الجزيرة العربية. كذلك وضعوا قواعد نحوية للغة العربية، وابتكروا النقط والشكل على الحروف لمعرفة نطق الكلمات نطقاً سليماً، ولا سيما القرآن الكريم، حتى لا يتعرض للتحريف. هذا إلى جانب تصنيف المعاجم اللغوية، ووضع علم العروض لمعرفة أوزان الشعر وأحكامه وبحوره. ومن أشهر الرواد الذين حققوا هذه الابتكارات العلمية مع بداية العصر العباسي العالم البصري العربي، الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 هـ/ا 79 م) "، وتلميذه وشيخ البصريين بعده العالم الفارسي "أبو بشر عمرو بن عثمان الملقب بسييويه (ت 177 هـ/793 م) ". ولم تلبث العاصمة بغداد أن شاركت في هذه النهضة العلمية، حيث انتقل إليها عدد من علماء الكوفة والبصرة أمثال " أبي حنيفة" و"، المفضل الضبي " و "الكسائي "الفراء "، و "ابن السكيت "، بحيث صارت بغداد مسرحاً لمناظرات علمية حامية الوطيس بين أشهر علماء العصر.
أما الأدب، فقد تطور هو الآخر في العصر العباسي تطوراً كبيراً، ونهج الشعراء فيـه مناهج جديدة في المعاني والموضوعات والأساليب والأخيلة، وغير ذلك من فنون الشعر المختلفة التي تناسب ما انتشر في العصر العباسي من حضارة وترف ولا سيما في رصافة بغداد أو بغداد الشرقية. ومن أشهر هؤلاء الشعراء،، أبو نواس " الذي ذاعت قصائده في الخمر والغزل والصيد.. الخ، و" أبو تمام الطائي " المشهور بنزعته العقلية والفلسفية في الشعر، وتلميذه "أبو عبادة البحتري " صاحب المدائح ، و "ابن الرومي " المعروف بطول نفسه وغزارة شعره، و" أبو العتاهية" الذي اشتهر بالحكمة والغزل الرقيق، والمتنبي، الذي اشتهر بالفخر ، وأبو العلاء المعري، شاعر الحكمة، وغيرهم كثيرون. ويكفي أن نشير إلى ما قاله الخليفة الشاعر، "عبد الله بن المعتز (ت 296 هـ) " في كتابه "طبقات الشعراء" من أن عدد شعراء الدولة العباسية في أواخر القرن الثالث الهجري فقط بلغ أكثر من مائة وثلاثين شاعراً.
وإذا انتقلنا إلى عالم الفنون والعمـارة، نجد أن، العباسيين لم يكونوا أقل اهتماما من الأمويين في مجال التشييد والتعمير، ففي العمارة بنى (أبو جعفر المنصور" على نهر دجلة عاصمته" بغداد (145- 149 هـ) على شكل دائري، وهو اتجاه جديد في بناء المدن الإسلامية، لأن مـعظم المدن الإسلامية، كانت إما مستطيلة كالفسطاط، أو مربعة كالقاهرة، أو بيضاوية كصنعاء. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن هذه المدن نشأت بجوار مرتفعات حالت دون استدارتها، ولعل الخليفة "المنصور" تأثر بهندسة بعض العواصم القديمة مثل مدينة الحضر جنوب غرب الموصل ومثل مدينة همذان مثلاً. المهم هنا أن خطة المدينة المدورة بغداد، تعتبر ظاهرة جديدة في الفن المعماري الإسلامي. هذا إلى جانب المدن الأخرى التي شيدها العباسيون مثل مدينة سامراء وما حوته من مساجد وقصور خلافية فخمة.
كذلك وجد الفنانون المسلمون فى الحروف العربية أساسا لزخارف جميلة، ومن ثم صار الخط العربي فناً رائعاً، على يد خطاطين مشهورين. فهناك الخط الكوفي الذي يستعمل في الشئون الهامة مثل كتابة المصاحف والنقش على العملة، وعلى المساجد، وشواهد القبور. ومن أبرز من اشتهر بكتابة الـخط الكوفي، مبارك المكي " في القرن الثالث الهجري في خلافة "المتوكل على الله العباسي "، وهناك خط النسخ الذي استعمله الناس في التراسل والتدوين وفي نسخ الكتب، ولهذا عرف بهذا الاسم، وقد نبغ في كتابته عدد من الخطاطين أمثال "ابن مقلة (ت 328 هـ) " ولابن البواب (ت 13 4 هـ) " وياقوت المستعصمي في القرن السابع الهجري ".
ولقد واكب هذه النهضة العلمية الإسلامية نشاط صناعة الورق، ونسخ الكتب وتصحيحها وتجليدها مما ساعد على انتشار الفكر الجديد في مختلف الأمصار،فأصبحت بغداد بذلك المدينة الممتازة في العالم الإسلامي،( CITY PAREXCELLENCE) وهذه الصفة العالمية التي تميزت بها بغداد جعلتها كعبة يحج إليها المسلمون من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كما جعلت حضارتها تطغى على جميع الحضارات الإسلامية الأخرى </B></I> | |
|