لا... لن تضيع القدس!
مجلة البيان – 113
عبد العزيز كامل
درجت بعض الأوساط العلمانية مؤخراً على تكرار القول بأن القدس قد ضاعت وانتهى أمرها كما انتهى أمر الأندلس من قبل، وذلك بعد أن تكشفت أبعاد الخطوة الأخيرة في إقرار بناء مستوطنة يهودية في جبل (أبو غنيم) قرب القدس الشرقية، وتناست هذه الأوساط أنها على مدى عقود طويلة خلت كانت تنفخ في بوق الدعاية الكاذبة التي كانت تتاجر بقضية القدس تحت مسميات مختلفة؛ كانت الأمة خلالها تخدّر بالوعود الوهمية من قبيل: إلقاء إسرائيل في البحر،.. أو حرق نصف إسرائيل، و... تحرير كل شبر من الأرض العربية، أو...تحرير كل بوصة وكل حبة رمل، أو النضال حتى آخر قطرة في الدم العربي.. إلى آخر هذه الجعجعات التي كنا نسمعها ولا نرى معها طحناً!.
والآن... وقد بات (المناضلون) يعترفون بأن لا سبيل لتحرير القدس إلا في عالم الخيال والمثال.. من حقنا أن نقول لهؤلاء: لِمَ إذن زيفتم الحقائق طيلة هذه العقود؟.. لِمَ تصدرتم في واجهة الصراع ولستم أهلاً له..؟!، لماذا حُلتم بين الشعوب وأداء واجبها في جهاد عدو لا خلاف على وجوب جهاده..؟، لماذا أقصيتم عن سبق إصرار وتعمد رفع الراية الإسلامية في إدارة الصراع، ورفعتم بدلاً منها الرايات العلمانية العُمية في تلك المعركة العقدية أصلاً؟.
الآن وقد بدا للعيان أن العلمانية العربية فشلت في الحرب، وفشلت في السلام.. آن الأوان لأن نقول لهم: كفى!... كفى ضياعاً، كفى تنازلاً.. كفى تخاذلاً، اتركوا الساحة للرجال، أو للأطفال، أو... للحجارة!!.
تلك الحجارة التي أوقفتموها بعد أن خدعتموها ب (مدريد)، و(أوسلو)، و(واشنطن).. إن استدعاء حقائق التاريخ القريب، لتبين لنا بوضوح أن هناك جريمة كاملة اقترفت بإبعاد الإسلام عن المعركة، ولكننا لا زلنا مصرين نحن العرب على أن تَصْدُق فينا كلمة (ديان) الهالك: (العرب لا يقرؤون... وإذا قرؤوا لا يفهمون... وإذا فهموا لا يعملون!!)، ولا نستطيع أن نعقب على مقالته إلا بتلك الكلمة النبوية المأثورة: (صدقك.. وهو كذوب)!، فقد صدق وصفه، فالعرب دائماً بغير الإسلام لا شيء، فالإسلام وحده هو الذي يربيهم، ويزكيهم، ويقويهم، ويزرع فيهم العزة والمسؤولية، وصدق عمر (رضي الله عنه): (لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
لقد ابتغى العرب العزة في عصورهم المتأخرة بغير هذا الدين، ابتغوها في القوميات... وفي الوطنيات... وفي الانتماءات البائدة والفاسدة.. فماذا كانت النتيجة؟.. إنها (الذل).. ولا توجد كلمة أبلغ من هذه الكلمة، (ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله)، والقدس التي يبشروننا بضياعها ويرِّوضون المشاعر والأسماع على نغمة اليأس من رجوعها، هذه المدينة المقدسة، اختزَلَت تاريخاً من الذل العربي في ظل الرايات غير الإسلامية، وإذا كانت قضية فلسطين هي القضية المحورية والمركزية للعرب والمسلمين في الزمن المعاصر، فإن قضية القدس هي محور هذه القضية ومركزها، فهي مركز المركز ومحور المحور، وما هذا إلا لأن تلك المدينة هي ثالث أقدس أرض بعد الحرمين الشريفين، ولقد استمدت قداستها من وجود أرض المسجد الأقصى فيها، ذلك المسجد الذي بارك الله حوله.
ولكي نتذكر كيف اختُصر الصراع في مدينة القدس.. لنسترجع من ذاكرة التاريخ أبرز المحطات على طريق التضييع، حيث كان الأعداء دائماً يمثلون (الفعل) ونمثل نحن ردود الأفعال أو الأقوال، العشوائية والارتجالية والحماسية الخطابية.
- ففي 29 نوفمبر 1947م، صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وكان أساسه إنشاء دولتين: دولة عربية، ودولة يهودية، ضمن حدود جغرافية معينة، وشمل القرار جزءاً يتضمن أحكاماً خاصة بمدينة القدس، حيث جُعلت تحت نظام دولي خاص لمدة عشر سنوات، تسند إدارتها خلالها إلى مجلس وصاية تابع للأمم المتحدة، يرأسه حاكم غير عربي وغير يهودي، فهو حاكم من قبل الأمم المتحدة، ويعاونه جهاز من الإداريين التابعين للأمم المتحدة أيضاً، ولكن العرب رفضوا قرار التقسيم، وكانوا على حق في ذلك الرفض، ولكنهم لم يعدوا للبديل الصحيح، وهو الاستعداد لمنازلة فاصلة لإخراج عصابات اليهود.
- في 15 مايو عام 1948م، استغل اليهود رفض العرب لقرار التقسيم، وأعلنوا من جانب واحد قيام الدولة اليهودية (إسرائيل) على القسم الذي فرضته الأمم المتحدة لهم، ودخلت الجيوش العربية حرباً لم تستعد لها ضد (إسرائيل)، وانتهت الحرب بهزيمة تلك الجيوش العربية!.
- في مطلع عام 1949م، تقدمت الدولة اليهودية بطلب عضوية الأمم المتحدة، فوعدت بالقبول على شرط أن تقر بالوضع الخاص للقدس من حيث تقسيمها بين العرب واليهود في الشؤون البلدية، ومع إبقائها في وضع التدويل سياسيّاً، وبادرت (إسرائيل) بتقديم هذا التعهد، وبموجبه قُبلت في الأمم المتحدة.
- في 4 مارس 1949م، صدر القرار بقبولها عضواً بالأمم المتحدة، ولم تلبث دولة اليهود بعد قبولها أن أعلنت رفضها توحيد القدس تحت قيادة دولية، ولم تكتف بهذا الرفض نظريّاً، بل سارعت عمليّاً إلى فرض أمر واقع جديد، فنقلت بعض مصالحها الرسمية إلى المدينة نفسها.
- في 23 يناير 1950م، أعلنت إسرائيل القدس الغربية عاصمة لها.
- في 5 يونيو 1967م، اجتاح الجيش الإسرائيلي الشق العربي من مدينة القدس، في الحرب التي هزمت فيها الجيوش العربية مرة أخرى، والتي احتل اليهود فيها أيضاً أجزاءً كبيرة من (مصر)، و(سورية)، و(الأردن)، وظل المجتمع الدولي ينظر إلى القدس الشرقية على أنها أرض عربية محتلة، بينما كان اليهود ينظرون إليها على أنها أرض إسرائيلية محررة، واستولى اليهود في العام نفسه على 40% من الأراضي في القدس، وأقاموا عليها مستعمرات ومستوطنات يهودية.
- وفي 1979م، أعلن (مناحم بيجن) أن القدس الموحدة (شرقية وغربية) هي العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، ووصل عدد اليهود في القدس الشرقية إلى 19 ألف يهودي.
- في عام 1990م، تمت مصادرة عدة آلاف من (الدونمات)؛ لتوسيع الأحياء القديمة لصالح اليهود، وبنوا فيها مطاراً دوليّاً.
- في آخر عام 1992م، بلغ مجموع سكان القدس 555 ألف نسمة، منهم 155 ألف نسمة من الفلسطينيين، و400 ألف يهودي، ولا يحصل الفلسطينيون إلا على 5 % من موازنة بلدية القدس.
- في 13 سبتمبر 1993م، اتفقت (إسرائيل) مع منظمة التحرير الفلسطينية فيما سُمِّي بـ(إعلان المبادئ) على تأجيل بحث موضوع القدس إلى ما بعد عامين!.
- في 26 ديسمبر 1994م، أقر الكنيست الإسرائيلي قانوناً يمنع السلطة الفلسطينية من مزاولة نشاطها من داخل القدس.
- في مايو 1995م، أمرت السلطات الإسرائيلية بإخلاء عدد من المؤسسات الفلسطينية الموجودة في القدس، وفي هذا العام استولى اليهود على 4400 دونم، بهدف دعم الاستيطان، وتولى (نتنياهو) بنفسه قبل انتخابه رئيساً للوزراء الإشراف على تنفيذ هذا الاستيطان.
- وبنهاية عام 1995م، لم يبق للفلسطينيين في القدس إلا 21% من الأرض، هي في أغلبيتها مناطق جبلية وعرة، لا يصلح للسكن منها إلا نحو 4% فقط، واتخذت الدولة اليهودية في تلك الأثناء أربعة قرارات مهمة تتجه نحو إتمام تهويد القدس (العربية الشرقية)، وهذه القرارات هي:
1- تحويل الإدارة البلدية للمدينة من إدارة عربية فلسطينية إلى إدارة يهودية.
2- تحويل النظام القضائي من نظام شرعي إسلامي إلى نظام يهودي.
3- تحويل اللوائح والإجراءات والقوانين في المدينة إلى الطابع اليهودي.
4- تغيير أسماء الشوارع والطرق والساحات العربية، واستبدالها بأسماء يهودية صهيونية.
- في عام 1996م، جاء موعد بحث موضوع القدس في المفاوضات المؤجلة، وكانت إسرائيل قد أسرعت قبلها في تغيير وضع القدس، حتى قال أحد المسؤولين الإسرائيليين: (الآن.. يستحيل على عرفات أن يزعم أن القدس الشرقية عاصمته.. إن تقسيم المدينة من جديد سيعد أمراً مستحيلاً) وأصدر (نتنياهو) 23 قراراً استيطانيّاً جديداً خلال أشهر قليلة من عمر حكومته.
- في سنة 1997م، وبعد أن كاد ابتلاع القدس (الشرقية العربية) يكتمل، بدأت (إسرائيل) في الاستيلاء على مناطق أخرى محيطة بالقدس الشرقية، فجاء قرار الاستيطان اليهودي في منطقة جبل (أبو غنيم)، بحيث تشرف على الطريق الذي يصل بين القدس الشرقية ومدينة بيت لحم، وكانت قد تمت مصادرة الأراضي في تلك المنطقة عام 1991م، ومستوطنة (أبو غنيم) يمكن أن تتسع لنحو 25 ألف مستوطن يهودي، فهي حي كامل وليست مجرد مستوطنة صغيرة، ولهذا: فإن هذه المستوطنة الكبيرة من شأنها أن تؤكد التفوق السكاني لصالح اليهود في القدس الشرقية.
هم يبنون، ونحن نشجب:
ومن يوم الإعلان عن بدء العمل في إنشاء مستوطنة (أبو غنيم)، ومشاعر السخط والاحتجاج والتبرم العربي تحدث دويّاً عالميّاً، ولكن بلا صدى، فهي كمفرقعات المناسبات لا تخيف أحداً، ولا تغير واقعاً.. وهذا بالتالي يشجع اليهود أن يتَحَدّوا مَن أمامهم ويسخروا منهم، فالساحة حولهم خاوية، إلا من أطفال عادوا إلى حمل الأحجار، وهم ممنوعون من حمل السلاح مهما بلغ الأمر!.
قال (نتنياهو) وهو يخاطب جمعاً من أنصاره: (أشعر أنني قوي جدّاً، وكما تعلمون فإن لي خصلة، هي أنني أحب التحديات، ولكن الأهم: أحب النصر فيها.. وسوف ننتصر...!!).
هل تضيع القدس؟:
نعود فنقول: هل حقّاً ضاعت القدس بلا رجعة كما يروج العلمانيون العرب ؟!.. نقول: لا.. لن يستمر ضياعها، فرغم كل مظاهر القتامة والعتامة التي توحي بها مشاهد الحاضر المهزوم والمستقبل الغامض المأزوم، ورغم تكدس معالم الفشل العربي سياسيّاً وعسكريّاً وعقائديّاً وقانونيّاً في ظل العلمانية المتسلطة المنهزمة.. رغم كل هذا: فإننا نرى من وراء ذلك فتحاً قريباً، توهجت أنواره، لتكشف عن رايات أمل تخفق في سماء مدينة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام).
ليس هذا تحدثاً من منطق السياسة القاصرة، ولا من منطلق خرافة ذاهلة، ولا هو من معطيات الواقع المرير، ولكنها روح من الأمل الدافع للعمل، الذي تغرسه فينا أهل الإسلام حقائق الوحي، وهدايات النبوة الخاتمة.
نعم: لن تضيع القدس؛ لأن الله الذي كرمها بسكن الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، لن يديمها سكناً لقتلة الأنبياء، والأرض التي كان لها شأنها وقداستها في الزمان الأول، سيظل لها الشأن والقداسة في الزمان الآخر؛ لأن قدسية المكان لا تؤثر فيها صروف الزمان، بل قد عَلِمْنا من إخبار نبينا أن هذه الأرض بيت المقدس سوف تكون موئلاً لأهل الإيمان كلما تقارب الزمان.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) (1).
ولكن في أي بقاع الشام؟، يقول (عليه الصلاة والسلام): (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لايضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق، إلى أن تقوم الساعة)(2).
فلسطين أرض الملحمة:
هناك سيكون الجهاد الحقيقي، وهناك ستنزل الخلافة.. نعم الخلافة؛ فعن أبي حوالة الأزدي (رضي الله عنه) قال: وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على رأسي أو قال: على هامتي ثم قال: (يا ابن حواله: إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة، فقد دنت الزلازل، والبلايا، والأمور العظام)(3).
فأرض بيت المقدس رغم كل ما نرى سوف تكون بؤرة الأحداث العالمية القادمة، ومنطلقاً لكتائب أهل الإيمان فيما يستقبل من الزمان، ولا ينبغي أن يستغرب أهل الإسلام انبعاث شرارة الأمل من تلك الأرض التي كانت في غالب عمر الدنيا قبل الإسلام أرضاً للتوحيد والإيمان، ثم كانت بعد البعثة النبوية معقلاً للقوة ومعقداً للعزة تحت راية القرآن.
وإذا كانت مكة هي مهبط الوحي ومهد الرسالة في عمر الإسلام في الزمن الأول، فإن بيت المقدس هو حصن الإيمان وقلعته في الزمن الآخر.
يقول (ابن تيمية) (رحمه الله): (وقد دل الكتاب والسنة وما رُوي عن الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، مع ما عُلم بالحس والعقل، أن الخلق والأمر ابتداءً من مكة أم القرى، فهي أم الخلق، وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وهي التي جعلها الله قياماً للناس، إليها يصلون ويحجون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم، فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة أن ملك النبوة بالشام، والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس، فأول الأمة خير من آخرها، كما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام كما أسرى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) (4).
وهذه الفضائل ليست متعلقة بآخر الزمان فقط، بل إن مناقب بيت المقدس وما حوله من أرض الشام كانت تدفع على مر الزمان في تاريخ الإسلام إلى الانطلاق من تلك الأرض لإقامة الدين وإحياء الجهاد.
يقول (ابن تيمية) (رحمه الله) أيضاً: (ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحضيض المسلمين على غزو التتار، وأمري لهم بلزوم دمشق، ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي العسكر المصري إلى الشام، وتثبيت الشامي فيه)(5).
فإذا كانت أرض بيت المقدس وما حوله هي الصخرة التي تحطمت عندها أكبر التحديات في الماضي (في تبوك، واليرموك، وحطين، وعين جالوت).
فإن الطغيان اليهودي اليوم لن يكون إلا حلقة في تلك السلسلة الخبيثة، التي لا تفصم عراها إلا بالدين والعقيدة والتوحيد... ولن يفل الحديد إلا الحديد.
((وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)).
الهوامش:
1) رواه أحمد(11/88)، ح/6871، وقال أحمد شاكر: صحيح الإسناد، ورواه الطيالسي بنحوه (2293).
2) رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، انظر: مجمع الزوائد، 10/63، 64.
3) رواه أحمد في المسند، 5/288، وأبو داود، 3/41 (9) كتاب الجهاد (37)، ح/2535، ورواه الحاكم في المستدرك، 4/425، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج27، ص 43 44.
5) مجموع الفتاوى، ج 27، ص 505.
انتهى عرض المقال