من أكثر الأمور التي تؤكّد على أنّ مكانة القدس العالية هي عند المسلمين كافة.. فترة حكم المماليك، فالمماليك من المعروف عنهم أنهم من أجناسٍ شتى، وأمم متفرقة مختلفة العادات والتقاليد، ومع ذلك نجدُهم قد اهتموا بالقدس اهتمامهم بالحرم الشريف في مكة، ومع ذلك فإنّ جهود المماليك، وما أدّوا للمسلمين بشكلٍ عام وللقدس بشكلٍ خاص لا تزال مجهولة لكثيرٍ من الناس، ولذا كانت هذه الصفحات كإسهام في توضيح ما بذله هؤلاء العظام من جهود تخدم المسلمين والمسجد الأقصى، لعلّ ذلك يردّ لهم بعض الجميل.. وفي هذه الصفحات توقّفنا عند بعض المحطات التاريخية، والتي تخصّ المماليك بشكلٍ عام ثم عرجنا على ما بذلوه من جهود في خدمة المسجد الأقصى...
نبذة تاريخية عن المماليك
المماليك هم طائفة من الأرقّاء أو ممّن كانوا يؤسَرون في الحروب أو يُستدْعون للخدمة في الجيش وكانوا خليطًا من الأتراك والشراكسة وغيرهم من الأجناس.
يرجع ظهور المماليك في العالم الإسلامي إلى ما قبل قيام دولتهم بمصر بأمدٍ طويل، وكان أوّل من استخدمهم الخليفة العباسيّ المأمون خلال فترة حكمه الممتدة بين السنوات 198هـ/813م إلى 218هـ/833م، إذ كان في بلاطه بعض المماليك المعتَقين ثم الخليفة العباسي المعتصم بالله الذي استخدم فِرَقًا من الشباب الأتراك في جيشه لتدعيم سلطانه وذلك لقلّة ثقته بالعرب ومن ثم أخذ بمبدأ استخدام المماليك ولاة مصر من الطولونيين والإخشيديين والفاطميين ثم الأيوبيين الذين أكثروا من شراء المماليك الترك وألّفوا منهم فرقًا عسكرية خاصة.
ولعلّ اسمهم (المماليك) الذي ينبّئ بالعبودية ويستخدم للتعريف بهم والإشارة إلى عهدهم لا يعطي صورة حقيقية لهم، ولا يدلّ على دورهم الكبير في القضاء على بقايا الفرنجة الصليبيين والوقوف في وجه التتار، ولا يُعرَف بدورهم الحضاري الظاهر، حيث يعتبر قيام دولة سلاطين المماليك في منتصف القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي بداية مرحلة جديدة لها طابعها الخاص في تاريخ مصر والشام والذي يتصف بالأمن والاستقرار والثراء والازدهار، خصوصًا بعد سيطرة التتار الوثنيين على بغداد وسقوط الخلافة العباسية فيها، كما أخذت دولة المسلمين في الأندلس في ذلك الوقت بالانحسار سياسيًا وحضاريًا بعد أنْ اشتدّتْ عليها وطأة الفرنجة.
أحسّ المماليك منذ البداية أنهم محرَجون بسبب أصلهم غير الحرّ، فضْلاً عن أنهم ظهَروا على المسرح السياسي في صورة من استولوا على الحكم من سادتهم بني أيوب، لذلك سلَك المماليك ثلاثة اتجاهات لمحو هذه الصورة عن الأذهان، والتي تركت كلها آثارًا إيجابية ومباشرة في الأوضاع العامة لمدينة القدس بشكلٍ خاص، وهذه الاتجاهات هي:
1- اتخذ المماليك الجهاد أداة لإثبات جدارتهم بالحكم ولحماية المقدسات الإسلامية، مما أدّى إلى ثبات الأمن والاستقرار في ظل حكمهم.
2- بإحياء المماليك للخلافة العباسية في القاهرة، أضفوا على الحكم صفة الشرعية، وذلك بوصفهم مفوضين بحكم المسلمين من قِبَل الخلافة العباسية وهي أعلى سلطة شرعية في البلاد.
3- استغلّ المماليك جزءًا كبيرًا من ثرواتهم الضخمة في العناية بالمنشآت الدينية في الأماكن المقدسة وخصوصًا في مدينة القدس، مما زاد من مكانة هذه المدينة المقدسة في عصرهم لدى المسلمين ويقسم العهد المملوكي إلى قسمين:
أولاً: عهد المماليك الأتراك أو المماليك البحرية:
وهم من جند الملك الصالح نجم الدين الأيوبي ويسمون المماليك البحرية لأنّ الصالح أسكنهم ثكنات في جزيرة الروضة في بحر النيل.
ثانيًا: عهد المماليك الشراكسة أو المماليك البرجية:
وهم من جند السلطان المنصور قلاوون المملوكي التركي، وكانوا يسكنون في أبراج القلعة في القاهرة فعرفوا بالبرجية.
موقف المماليك البحرية من القدس
على إثر تولّي الملك عز الدين أيبك عرش مصر 648هـ/1250م-656هـ/1258م انفصلت الشام عن مصر واستقلّ بحكمها الأمراء الأيوبيون، فراح الفريقان يقتتلان إلى أنْ تم الصلح بين الفريقين سنة 651هـ/1253م وبموجب هذا الصلح دخلت مدينة القدس تحت الحكم المملوكي لكنّ السلطان عز الدين أيبك قُتِل بمكيدة دبرتها زوجته شجرة الدر، فخلفه ابنه الصغير نور الدين علي.
وفي عهد السلطان سيف الدين قطز 607هـ/1259م-658هـ/1260م اجتاحت جحافل التتار بلاد الشام من شمالها إلى جنوبها وشاء الله أنْ ينقذ بيت المقدس من همجيتهم وكان واضحًا أنّ حملتهم الأولى على بلاد الشام عبرت في جوهرها عن هجمة صليبية شرسة خطّط لها ملك أرمينية الصغرى هيثوم الأول مع هولاكو، وطلب الأخير من حليفه أنْ يلتقي به عند الرها ليرافقه إلى مدينة القدس ليخلّص الأراضي المقدسة من قبضة المسلمين ويسلّمها للمسيحيين.
بعد استيلاء التتار على دمشق وتدميرها سنة 658هـ/1260م قرّروا التفرّغ لمواجهة خطر المماليك في مصر، فأرسل هولاكو إلى السلطان قطز طالبًا منه التسليم، جمع قطز الأمراء واتفقوا جميعًا على محاربة التتار وإعلان التعبئة العامة.
سيّر قطز الجيوش المؤلفة من العرب والأتراك ونزل مدينة غزة، ثم سار بمحاذاة الساحل إلى أنْ التقى الجمعان عند عين جالوت في 25 رمضان سنة 658هـ/1260م وتولّى السلطان قطز بنفسه قيادة الجيش ومعه الأمير ركن الدين بيبرس، وانتهت المعركة بنصر حاسم للمماليك على التتار الذين قتل قائدهم كتبغا وانهزم جيشهم شر هزيمة، فكانت تلك المعركة فاصلة في تاريخ الشرق مما أنقذ بيت المقدس والشام كلّها من براثن التتار، كما ترتّب على تلك المعركة امتداد سيطرة المماليك على بلاد الشام وانحسار النفوذ الأيوبي عنها، وهكذا عادت وحدة مصر والشام في ظلّ حكومة مركزية قوية مما أشاع قدرًا من الاستقرار لأول مرة في بلاد الشام بوجهٍ عام، وفي بيت المقدس بوجه خاص.
بعد انتهاء المعركة الحاسمة وبينما كان قطز في طريق عودته إلى مصر انحرف مع بعض أصحابه للصيد فقتله بعض خواصه، وقيل إنّ الظاهر بيبرس البندقداري قتله بيده ومن ثم استولى على الملك من بعده.
ولقد اهتمّ بعد ذلك كلّ من السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس والسلطان المنتصر سيف الدين قلاوون وكذلك أبناؤه أيما اهتمامٍ بالقضية، وكانت نهاية الصليبيين على يد الأشرف خليل بن قلاوون والذي أخرج آخر جنديّ صليبيّ في الشرق الإسلامي.
القدس في عهد الظاهر بيبرس مؤسس سلطان المماليك:
كان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس 658هـ/1260-676هـ/1277م في خاصةٍ خدم الملك الصالح نجم الدين أيوب ثم أعتقه وارتقى حتى أصبح أتابك أيّ قائد العساكر بمصر في أيام قطز، وتولى سلطنة مصر والشام من بعده.
يُعَدّ الظاهر بيبرس أول المماليك العظماء، ومؤسس سلطانهم الحقيقي وتستند عظمته إلى الحملات الموفقة التي جرّدها على الصليبيين ومهّدت السبيل للانتصارات التي جناها حلفاؤه من بعده، حيث قضى على مملكة أنطاكية الصليبية عام 666هـ/1268م واستولى على كثيرٍ من مواقع الصليبيين وقلاعهم، وفتح قيسارية وصفد وهونين وتبنين والرملة وقلعة شقيف، كما هاجم مدينتي صور وعكا أكثر من مرة حتى سعى إليه الفرنجة ليعقدوا معه الصلح، فوافق على عقد هدنة معهم مدتها عشر سنين وعشرة أشهر وعشر ساعات تبدأ من 21 رمضان من عام 670هـ/1272م.
وإلى جانب المآثر الحربية اهتمّ الظاهر بيبرس بتجديد الخلافة العباسية في القاهرة لإعطاء الصفة الشرعية لسلطتهم الوليدة، فكان بيبرس أول من تلقّب بـ"قسيم أمير المؤمنين من قِبَل الخليفة" وهذا اللقب أجلّ الألقاب.
كما اهتمّ الظاهر بيبرس بتعمير البلاد التي دخلت في حوزته وبتدبير شئونها كما أولى مدينة القدس عناية كبيرة لما لها من مكانة خاصة ومقدسة لدى المسلمين جميعًا، وتمثّل ركيزة دينية هامة من الجانب الديني في سياسته.
ومن أهمّ التعميرات التي تمّت في عهده في المدينة المقدسة نذكر منها:
1- عمارة قبة الصخرة المشرفة:
في سنة 659هـ/1260م جهّز الظاهر بيبرس الأموال والآلات والصناع لعمارة قبة الصخرة التي كانت قد تداعت للسقوط.
2- تجديد قبة السلسلة وزخرفتها:
وهي القبة الموجودة داخل الحرم القدسي الشريف وتم ذلك في سنة 659هـ/1260م.
3- رباط البصير:
وهو من العمائر ذات الصبغة الدينية المهمة التي أقيمت في عهد السلطان الظاهر بيبرس في مدينة القدس، وقد عمره الأمير علاء الدين آيدغيدي البصير ووقف عليه أوقافًا كثيرة سنة 666هـ/1267م، كما أقام الأمير علاء الدين أبنية أخرى منها المطهرة بجانب المسجد الأقصى، وكذلك بلّط صحن الصخرة المشرفة.
وقد قام الظاهر بيبرس بزيارة مدينة القدس عدة مرات، كانت على التوالي:
الزيارة الأولى: تمت في عام 661 هـ/1262 م وهو في طريق عودته من الشام إلى مصر فكان أوّل من زار المدينة من سلاطين المماليك فاطّلع على أحوالها ونظّم أوقافها ثم أمرَ بترميم المسجد الأقصى وخصّص له في كلّ سنة خمسة آلاف درهم.
الزيارة الثانية: وقد تمّت في سنة 662 هـ/1263م أمرَ خلالها بإنشاء خان السبيل ولما تمّ بناء الخان نقل إليه باب قصر من قصور الفاطميين معروف بالقاهرة باسم قصر باب العيد. وبنى بالخان مسجداً وطاحونةً وفرناً ولما تم بناء هذا الخان أوقف عليه أوقافًا عدة على أنْ يُصرَف ريع هذه الأوقاف على من يرد هذا الخان من المسافرين المشاة للإنفاق عليهم في خبزهم وإصلاح نعالهم وغير ذلك.
الزيارة الثالثة: تمت في سنة 664 هـ/1265م.
الزيارة الرابعة: وهي الزيارة الأخيرة التي قام بها الظاهر بيبرس للقدس، وتمّت في عام 668 هـ/1270م وجدّد خلالها الفصوص التي على الرخام في مسجد الصخرة المشرفة كما أمرَ في السنة نفسها بوضع الدرابزين حول الصخرة المشرفة وعمل فيها منبرًا وسقفه بالذهب.
وفي سنة 676 هـ/1277 م توفّيَ الملك الظاهر بيبرس في دمشق بعد أنْ ملك مصر والشام سبع عشرة سنة وشهرين، وتولّى المُلك من بعده ابنه الملك السعيد ناصر الدين محمد ثم ابنه الثاني الملك العادل بدر الدين سلامش ولم يذكرْ التاريخ أنهما قاما بعملٍ في القدس وقد ترك المُلك كلاهما خلعًا.
القدس وعائلة قلاوون
كان أوّل من تولّى السلطنة من أبناء قلاوون هو السلطان المنصور سيف الدين قلاوون 679هـ/1280م-689هـ/1290م، وكان يلقّب بالصالحي الألفيّ، وقد برز في أواخر عهد الأيوبيين وخلع ابن الظاهر بيبرس سلامش وبويع بالسلطنة كان على ما وصفه المؤرّخون فارسًا شجاعًا لا يحبّ سفك الدماء واهتمّ بجمع المماليك من كلّ جنس، وفي أيامه عُرِفت جماعة المماليك البرجية.
اهتم الملك المنصور قلاوون بمدينة القدس كثيرًا وأقام فيها أعمالاً عمرانية تدلّ على اهتمامه بها نذكر منها:
1- الرباط المنصوري:
ويقع في الجهة الجنوبية من طريق باب الناظر المؤدّي إلى الحرم القدسي، قبالة رباط علاء الدين البصير، وقد أمرَ ببنائه السلطان قلاوون سنة 681هـ/1288م وأوقفه على الفقراء وزوار بيت المقدس.
والرباط المنصوري من المؤسسات السلطانية القليلة التي بُنِيَت خارج الحرم، لأنّ السلاطين كانوا يقيمون منشآتهم داخل الحرم نفسه، وقد أشرف على بنائه علاء الدين آيدغدي بعد بناء رباطه.
2- المسجد القلندري:
في عهد السلطان قلاوون وتحديدًا في سنة 686هـ/1287م جدّدت عمارة هذا المسجد، وهو واقع على طريق دير اللاتين في الناحية الجنوبية من المدينة المقدسة ولم يبقَ منه اليوم إلا الاسم.
وقد زار السلطان قلاوون فلسطين أكثر من مرة ونزل في مدينة القدس سنة 682هـ/1283م وأقال نائبها عماد الدين بن أبي القاسم وأقام مكانه نجم الدين السونجي.
وبعد أنْ توفّي السلطان قلاوون تولى ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل، ثم ابنه الثاني السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري المعروف بالصغير، وبعد مقتل الملك المظفر المنصور لاجين تولّى الملك للمرة الثانية الملك الناصر محمد بن قلاوون ثم تسلطَن الملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوري، ثم عاود للمُلك الناصر محمد بن قلاوون للمرة الثالثة.