صفحات من التاريخ الإسلامي في الشمال الأفريقي
دولة الموحدين
علي محمد محمد الصلابي
الفصل الأول
محمد بن تومرت
المبحث الأول
اسمه ونسبه، ورحلاته في طلب العلم وشيوخه
أ- اسمه ونسبه:
اختلف المؤرخون في تحديد نسب بن تومرت فبعضهم قال بأنه عربي ، وينتهي نسبه الى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق ابنته فاطمة من زوجها علي ، والبعض الآخر يجعل نسبه بربرياً صرفاً. والبعض الآخر يجعله نسباً مختلطاً بين البربر والعرب هذا وإن كان ابن تومرت والموحدون من بعده يصرون على أن المهدي عربي النسب، قرشي الأصل من صلب الرسول(1).
والمتتبع لتاريخ ابن تومرت يدرك أنه لم يظهر ادعاءه النسب القرشي دفعة واحدة بل إنه تدرج في هذا الأمر، حتى يضمن قبول الناس له، فبعد أن اطمأنَّ لقبول دعوته، وإلى تمكنه من اتباعه، أخذ يشوقهم إلى المهدي ونسبه، ثم لما قبلوا هذا الأمر، ادعى ذلك الأمر لنفسه.
ويذهب ابن خلدون إلى اثبات أن نسبه يرجع إلى الرسول صلى الله عليه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر سقوط دولة الموحدين د. مراجع عقيله ص36.
وسلم، حيث قال: (وأما إنكارهم نسبه في أهل البيت فلا تعضده حجّة لهم، مع أنه إن ثبت أنه ادّعاه وانتسب إليه، فلا دليل يقوم على بطلانه لأن الناس مصدّقون في انساهم"(1).
وقول ابن خلدون فيه نظر، لأن المؤرخين الأثبات والثقات اثبتوا أن محمد بن تومرت لايتورع في الكذب والدجل من أجل الوصول إلى أهدافه(2).
ووافق بن خلدون من المعاصرين الدكتور عبدالمجيد النجار(3) في صحّة نسب بن تومرت إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وادّعى أن صحة هذا النسب تبقى قائمة من حيث الامكان التاريخي والجغرافي والعقلي.
ويرأى محمد بن عبدالله عنان من المعاصرين أن هذا الادعاء ماهو إلا نحلة باطلة، وثوباً مستعاراً قصد ورائها ابن تومرت أن يدعم بها صفة المهدي الذي انتحلها أيضاً شعاراً لامامته ورياسته(4).
والذي يظهر من البحث العلمي النزيه، إن محمد بن تومرت ادعى النسب القرشي الهاشمي كوسيلة لكسب الانصار لدعوته الناشئة والذي قادنا إلى هذا الاستنتاج مايلي:
1- إنه لم يشتهر بين المؤرخين لاسيما علماء الانساب منهم أن ابن تومرت يعود إلى أصل عربي، وإنما معظم الذين قالوا بهذا هم من مؤرخي الدولة الموحدية الذين سجلوا تاريخها بوحي من سلاطينها وامرائها، أو بتأثر بدعوة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن خلدون - المقدمة ص26.
(2) انظر الذهبي سير اعلام النبلاء (19/539).
(3) انظر : تجربة الاصلاح في حركة بن ترمرت د. عبدالمجيد النجار ص56.
(4) انظر: عصر المرابطين والموحدين ص557.
ابن تومرت(1).
2- ان هذا الادعاء كان مألوفا عند أصحاب المطامح الدينية والسياسية في بلاد المغرب كما لاحظنا في دراسة الدولة العبيدية الرافضية.
3- ويضاف إلى ما سبق أن انتساب ابن تومرت إلى الأصل العربي لم يكن معروفاً عند اتباعه إلا بعد أن ادّعى ذلك لحاجة في نفسه(2).
أما تاريخ ميلاده فقد ذكر المؤرخون عدة روايات تدل على اضطرابهم في تحديد سنة الولادة، فمنهم من قال 473هـ(3) ومنهم من قال، 485هـ(4) ومنهم من قال 469هـ ورجح الدكتور عبدالمجيد النجار أنه ولد سنة 473هـ(5).
ولم تعطي المصادر التاريخية نبذة موسعة عن اسرته وإنما وردت الأخبار التي تدل الباحث على أن اسرته كانت من أواسط القوم غير بارزة الجاه والثروة وكانت على مكانة دينية حيث يقول ابن خلدون: "وكان أهل بيته أهل نسك ورباط"(6)، كما أنها كانت تحافظ على العلاقات الأسرية الحميمة بين أفرادها كما يبدو من شوق والد بن تومرت وأخويه عيسى وعبدالعزيز وأخته زينب إليه لما طالت غيبته بالمشرق، ثم احتضانه ومؤازرته بعد عودته من تلك الغيبة"(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من هؤلاء المؤرخين ، ابوبكر الصنهاجي المعروف بالبيذق، وابن القطان ، وغيرهم .
(2) انظر: مجلة جامعة الامام محمد بن سعود العدد السادس ص558.
(3) انظر: سقوط دولة الموحدين ص36.
(4) انظر : وفيات الاعيان لابن خلكان (5/52).
(5) انظر : تجربة الاصلاح في حركة المهدي بن تومرت ص57.
(6) ابن خلدون - العبر: (6/226).
(7) ابن خلدون - المقدمة: 506.
وعندما كان طفلاً تلقى دراسته الأولية بالكتاتيب في قريته، فتعلّم القرآن حفظاً ورسماً وقراءة على عادة المغاربة كما وصفها ابن خلدون في قوله: (أما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء الدراسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه... إلى أن يجاوزوا حدّ البلوغ إلى الشبيبة)(1).
وربما قبل رحلته إلى المشرق تعلم العربية وادبها وشيئاً من الفقه، لقد ظهر اهتمامه وشغفه بالعلم منذ شبابه قال ابن خلدون: "وشبّ محمد هذا قارئاً للعلم، وكان يسمّى "آسفو" ومعناه الضياء لكثرة ماكان يسرج في القناديل بالمساجد لملازمتها"(2).
ب- رحلته في طلب العلم
تاقت نفسه للمزيد من العلوم الشرعية، فقصد المشرق الإسلامي لينهال من منابع العلم، ومصادر المعارف، ومهد الحضارات مايفيده في تحقيق اهدافه التي يرنو إليها.
فبدأت رحلته في عام 500هـ ، فحج وشرع في طلب العلم، ودامت رحلته خمسة عشر عاماً كان لها الأثر المباشر في تشكيل شخصيته والتأثير في آرائه وأفكاره.
ومكث في العواصم الإسلامية من أجل التعلم والتتلمذ على العلماء في كل من بغداد، والاسكندرية والحجاز، وكان قبل الرحلة المغربية سافر إلى الأندلس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن خلدون - المقدمة ص506.
(2) تاريخ ابن خلدون (6/226).
حيث نزل بقرطبة(1) ودرس بها على القاضي أبي جعفر حمدين بن محمد بن حمدين إلا أن الاقامة في قرطبة لم تدم طويلاً بل كانت محطة للعبور(2).
ومن الأندلس توجه المهدي إلى تونس بحراً ونزل بالمهدية حيث درس بها على أبي عبدالله المازري ثم قصد مصر على طريق جزيرة جربة حيث أقام بها بعض أيام(3).
ثم توجه إلى الديار المصرية وتلقى دروساً وأخذ علماً من الشيخ أبي بكر الطرطوشي ولم يمكث طويلاً في مصر حيث فضل الذهاب إلى الحجاز لحج البيت الحرام ويؤدي الفريضة(4) وتوجه من الحجاز نحو العراق ومكث بها مايزيد على عشر سنوات وهناك تبحر في علم الكلام وعقائد الاعتزال، والأشاعرة وأخذ من كل مايخدم فكرته طرفا قال ابن خلدون: (ودخل العراق، ولقي جلّة العلماء يومئذ وفحول النظار، وأفاد علماً واسعاً)(5).
ومن أشهر شيوخه في بلاد المشرق الإسلامي: الغزالي، والكيا الهرّاسي، والمبارك بن عبدالجبار، وأبو بكر الشاشي.
وكان الإمام الغزالي (ت:555) مبرزاً في علم أصول الدين والتصوف ومتبحراً في علم الكلام ووقع في اغلاط واخطاء قال الذهبي عن كتابه الاحياء: (أما الاحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا مافيه من آداب ورسوم، وزهد في طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية نسأل الله علماً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البيان المغرب (1/435).
(2) نفس المصدر السابق: (1/435).
(3) انظر : تجربة الاصلاح لابن تومرت ص59.
(4) انظر : ابن خلدون (6/226).
(5) ابن خلدون العبر (6/226).
نافعاً.
تدري ما العلم النافع؟ هو مانزل به القرآن وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، ولم يأت، ولم يأت نهي عنه قال عليه السلام: (من رغب عن سنتي فليس مني(1). فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله وبإدمان النظر في الصحيحين، سنن النسائي، ورياض النووي، وأذكاره، تفلح وتنجح. وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضيات، وجوع الرهبان وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه ياالله، اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم، نعم" ولم ينسى الذهبي أنه يوفي الإمام الغزالي حقه قائلاً: "فرحم الله الإمام أبا حامد فإين مثله في علومه وفضائله؟ ولكن لاندعي عصمة من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول"(2).
وقال الشيخ الطرطوشي(3) في رسالة له إلى ابن مظفر: (فأما ماذكرت من أبي حامد فقد رأيته، وكلمته فرأيته جليلاً من أهل العلم واجتمع فيه العقل والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وفاق على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له العدول عن طريق العلماء، ودخل في غمار العلماء ثم تصوف وهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل "الاحياء"، عمد يتكلم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولاخبير بمعرفتها، فسقط على أمِّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اخرجه البخاري، كتاب النكاح رقم 5063، ومسلم رقم 1401.
(2) سير اعلام النبلاء (19/340).
(3) توفى عام 521هـ.
رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات"(1).
وأما شيخ الإسلام، ابن تيمية فقد أثنى على كتاب الاحياء قائلا بأن غالبه جيد وأن فيه فوائد كثيرة لكنه أشار إلى أن فيه مواد مذمومة وفاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، وأضاف أن بعض أئمة الدين أنكر على أبي حامد هذا الذي في كتبه وقالوا أمرضه الشفا - يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة - وقال: "وفي الاحياء أحاديث وآثار ضعيفة بل موضوعة كثيرة. وفيه اشياء من أغاليط الصوفية وترّهاتهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة وما هو أكثر مما يُردّ منه"(2).
وقد كان يتعرض دائماً لآراء الغزالي في أكثر كتبه وينقد ماجاء فيها بأسلوب هادئ علمي وغالباً ماكان يختم الكلام عنه بأنه مات على أحسن أحواله بعد ان كان في أواخر عمره مقبلا على كتب الحديث وأنه قد مات وصحيح البخاري على صدره(3).
إن بعض الكتاب عرضوا الغزالي كعالم قد تتلمذ على يديه ابن تومرت وإن الغزالي كان ينزع منزع التحرر العقلي ويشجب الجمود على التقليد(4) وإن بن تومرت تأثر به وكأن بن تومرت رجل متحرر من الجمود والتقليد ومتنور في اطروحته التغييرية.
ولابد من بيان أن الغزالي كان مضطرباً في منهجه العقدي ولم تكن مسائل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سير اعلام النبلاء (19/341).
(2) درء تعارض العقل والنقل (6/210).
(3) فتاوى ابن تيمية (10/551-552)، (6/55).
(4) انظر تجربة الاصلاح في حركة ابن تومرت ص61.
العقائد التي طرحها منسجمة مع أصول منهج أهل السنة والجماعة، وأن بن تومرت تأثر به واستفاد منه في بعض المسائل ووظفها لأهدافه السياسية.
وأما شيخه أبو الحسن علي بن محمد الملقب بعماد الدين، والمعروف بالكيا الهرّاسي (ت 504هـ/1110م)، فقد كان عالما في الفقه والأصول والخلافيات والتفسير، وله في التفسير كتاب (أحكام القرآن).
وأمّا المبارك بن عبدالجبار (ت500هـ/1106م) فقد كان محدّثاً مكثر، إلا أن بن تومرت لم يطل تتلمذه عليه حيث توفي في نفس السنة التي قدم فيها إلى بغداد.
وأما أبو بكر الشاشي (ت507هـ ، فقد كان عالماً في أصول الدين وأصول الفقه، كما كان في الفقه رأس الأئمة الشافعية بالعراق، وألّف في المذهب كتابه "المستظهري"(1) وكان من شيوخه أيضاً أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي (ت 521هـ) الذي أخذ عنه بن تومرت العلم في الاسكندرية، وكان متميزاً في الفقه، ومتمكناً في السياسة الشرعية التي ألف فيها كتاب "سراج الملوك" ، كما كان الطرطوشي مهتماً بنشر السنة ومحاربة البدعة وألف كتابه "الحوادث والبدع" .
لقد استطاع ابن تومرت أن يستفيد من رحلته المشرقية وأن يتحصل على علوم متنوعة تجمع بين العلوم العقلية والنقلية، فضبط الأصول، وعلم الكلام وعقائد الأشاعرة وتأثر بالمعتزلة وغير ذلك من العلوم(2). ورأى عن كثب اقطاب المدارس الفكرية من الأشاعرة والمعتزلة والشيعة وغيرها من المذاهب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر : تجربة الاصلاح في حركة ابن تومرت ص61.
(2) المصدر السابق نفسه ص62.
وحضر مناقشتهم وندواتهم واطلع على فلسفتهم وروح حركاتهم وبذلك تبلورت آراؤه وأفكاره.
وساعدته رحلاته المغربية والمشرقية على الوقوف على أحوال العالم الإسلامي، واستوعب اسباب الانهيار والتدهور التي تعانيها دول أمارات بلاد المغرب. وكان ذلك من الأسباب القوية التي دفعته إلى الطموح في القضاء على أنظمة الحكم الموجودة في المغرب، والتخطيط لاقامة دولة موحدية قوية لا في بلاد المغرب وحدها، بل والعالم الاسلامي كله(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: سقوط الموحدين ص 37،38).
يتبع