التعريف بالمماليك
في تاريخ الأمة الإسلامية دولة قامت على أكتاف الرقيق الذين جُلِبوا في الأصل من مختلف البلدان لأجل الحروب، ولأجل حماية الخلفاء والسلاطين، هي دولة المماليك، وقد قامت هذه الدولة بجهد عظيم في الدفاع عن الإسلام، وإقامة مجده؛ فما قصة هذه الدولة؟!
* من هم المماليك؟!
المماليك في اللغة العربية هم الذين سُبُوا ولم يُسْبَ آباؤهم ولا أمهاتهم[1]198 هـ إلى 218 هـ، وأخيه "المعتصم"الذي حكم من سنة218 هـ إلى 227 هـ ..ففي فترة حكم هذين الخليفتين استجلبا أعدادًا ضخمة من الرقيق عن طريق الشراء، واستخدموهم كفرق عسكرية بهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نفوذهما...ومع أن لفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عامًا على معظم الرقيق، إلا أنه اتخذ مدلولاً اصطلاحيًا خاصًا في التاريخ الإسلامي، وذلك منذ أيام الخليفة العباسي الشهير "المأمون" والذي حكم من سنة
وبذلك ـ ومع مرور الوقت ـ أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية ـ وأحيانًا الوحيدة ـ في كثير من البلاد الإسلامية..وعندما قامت الدولة الأيوبية كان أمراؤها يعتمدون على المماليك الذين يمتلكونهم في تدعيم قوتهم، ويستخدمونهم في حروبهم، لكن كانت أعدادهم محدودة إلى حدٍّ ما، إلى أن جاء الملك الصالح أيوب، وحدثت فتنة خروج الخوارزمية من جيشه، فاضطُرَّ ـ رحمه الله ـ إلى الإكثار من المماليك حتى يقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك، وخاصة في مصر[2].
* تاريخ المماليك
فقد كان الملك الصالح يستعين بالجنود الخوارزمية الذين كانوا قد فرُّوا من قبلُ من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها، وكان هؤلاء الجنود الخوارزمية جنودًا مرتزقة بمعنى الكلمة ..بمعنى أنهم يتعاونون مع من يدفع أكثر، ويعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح أيوب بالأجرة، ودارت موقعة كبيرة بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وعُرِفَت هذه الموقعة باسم موقعة غزة، وكانت في سنة642 هـ، وكانت هذه الموقعة قد وقعت بالقرب من مدينة غزة الفلسطينية، وانتصر فيها الملك الصالح انتصارًا باهرًا، حرَّر بيت المقدس نهائيًا، ثم أكمل طريقه في اتجاه الشمال، ودخل دمشق، ووحّد مصر والشام من جديد، بل اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر بالفعل طبرية وعسقلان وغيرهما.
غير أنه حدث تطور خطير جدًا في جيش الصالح أيوب رحمه الله، حيث انشقت عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة..!وذلك بعد أن استمالها أحد الأمراء الأيوبيين بالشام مقابل دفع مال أكثر من المال الذي يدفعه لهم الصالح أيوب، ولم تكتفِ هذه الفرقة بالخروج، بل حاربت الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذه الحرب إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه قائده المحنَّك ركن الدين بيبرس.
وخرج الصالح أيوب من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لابد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله..فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية..وكانت هذه الطائفة هي: "المماليك"[3].
* من أين جاءوا ؟
كان المصدر الرئيسي للمماليك إمّا بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة.. ومن أكثر المناطق التي كان يُجلَب منها المماليك بلاد ما وراء النهر (النهر المقصود هو نهر جيحون، وهو الذي يجري شمال تركمانستان وأفغانستان، ويفصل بينهما وبين أوزبكستان وطاجيكستان)، وكانت الأعراق التي تعيش خلف هذا النهر أعراقًا تركيةً في الأغلب؛ لذا كان الأصل التركي هو الغالب على المماليك، وإن كان لا يمتنع أن يكون هناك مماليك من أصول أرمينية، أو مغولية، أو أوربية، وكان هؤلاء الأوربيون يُعرَفون بالصقالبة، وكانوا يُستَقدَمون من شرق أوربا بوجه خاص.
* معاملة خاصة .
وقد كانت الرابطة بين المملوك وأستاذه من طرازٍ خاص؛ فقد كان السلطان الصالح نجم الدين أيوب ـ ومن تبعه من الأمراء ـ لا يتعاملون مع المماليك كرقيق.. بل على العكس من ذلك تمامًا..فقد كانوا يقربونهم جدًا منهم لدرجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم ..ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رابطة السيد والعبد أبدًا، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته .. وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة ..حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب "الأستاذ"وليس لقب "السيد".
* تربية متميزة .
كما كانت تربية المماليك تربيةً متميزة للغاية، يمتزج فيها تعليم الشرع بفنون الفروسية، بالمحاسبة على السلوك والآداب، ويشرح لنا المقريزي رحمه الله كيف كان يتربى المملوك الصغير الذي يُشترى وهو ما زال في طفولته المبكرة فيقول:
"إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يُدفع إلى من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية ..ويُهتم جدًا بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية، ويُراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأً يمس الآداب الإسلامية نُبه إلى ذلك، ثم عُوقِب..".
ثم إذا وصل المملوك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال فيعلمونهم فنون الحرب والقتال وركوب الخيل والرمي بالسهام والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جدًا في المهارة القتالية، والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب..
ثم يتدربون بعد ذلك على أمور القيادة والإدارة ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك وهو متفوق تمامًا في المجال العسكري والإداري، وذلك بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة ..وهذا كله ـ بلا شك ـ كان يثبت أقدام المماليك تمامًا في أرض القتال..
وكل ما سبق يشير إلى دور من أعظم أدوار المربين والآباء والدعاة، وهو الاهتمام الدقيق بالنشء الصغير، فهو عادة ما يكون سهل التشكيل، ليس في عقله أفكار منحرفة، ولا عقائد فاسدة، كما أنه يتمتع بالحمية والقوة والنشاط، وكل ذلك يؤهله لتأدية الواجبات الصعبة والمهام الضخمة على أفضل ما يكون الأداء..
* اهتمام خاص من سيدهم .
وفي كل هذه المراحل من التربية كان السيد الذي اشتراهم يتابع كل هذه الخطوات بدقة، بل أحيانًا كان السلطان الصالح أيوب رحمه الله يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيرًا ما يجلس للأكل معهم، ويكثر من التبسط إليهم، وكان المماليك يحبونه حبًا كبيرًا حقيقيًا، ويدينون له بالولاء التام..[4].
وكان المملوك إذا أظهر نبوغًا عسكريًا ودينيًا فإنه يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، فيصبح قائدًا لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أُعطِي بعض الإقطاعات في الدولة فيمتلكها، فتدر عليه أرباحًا وفيرة، وقد يُعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، وهم أمراء الأقاليم المختلفة، وأمراء الفرق في الجيش وهكذا..
وكان المماليك في الاسم ينتسبون عادة إلى السيد الذي اشتراهم.. فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالصالحية، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالكاملية وهكذا[5].