مدينتان للفجور والعبادة تحت الماء بالإسكندرية
مفاجآت كثيرة تم اكتشافها تحت مياه الإسكندرية في غضون الأيام الماضية.. أهمها أن المدينة التي لُقِّبَت بعروس البحر المتوسط، وكانت عاصمة العالم الثقافية في بعض الفترات التاريخية، تلك المدينة التي انتسبت دائمًا إلى الفاتح الإغريقي الشهير تلميذ أرسطو "الإسكندر المقدوني" كانت موجودة بالفعل قبل أن يقف الإسكندر بقدميه على أرض مصر متأملاً أمواج البحر التي تضرب شاطئها محاولاً أن يحدق؛ ليرى مقدونيا ملعب طفولته مهد صباه تلوح له بيدها من الجانب الآخر من البحر المتوسط.
فقد عثرت البعثة الفرنسية للآثار بالإسكندرية على مدينتين غارقتين تحت مياه خليج أبى قير.. أطرف ما في هذا الاكتشاف أن ثنائية الخير والشر وضحت فيه بجلاء.. فقد تم اكتشاف دور العبادة التي كانت عامرة بجوار الملاهي والمراقص التي كانت عامرة أيضاً.. وكأننا لم نعثر على آثار حجرية صامتة.. بل عثرنا على الإنسان ذاته بما فيه من خير وشر وتقى وفجور.. مما يذكرنا برواية الكاتب الفرنسي أناتول فرانسى عن"تاييس" تلك الراقصة السكندرية الشهيرة التي كرهت حياتها الفاجرة وتوجهت إلى راهب في الصحراء لتهتدي على يديه، لكنها قابلت الراهب في منتصف الطريق.. كان الراهب قد تعب وملَّ من كثرة العبادة واستحوذ عليه الشيطان، ودفعه للذهاب إلى الإسكندرية للارتماء في أحضان تاييس.. إنها الحياة بكل تناقضاتها تكشف عنها مياه خليج أبي قير.
ففي القرن الخامس ق.م جاء المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوت إلى مصر عام 450 ق.م وبدأ زيارته لمصر من مدينة كانوب وقدم وصفًا لها ولمعبد سيرابيس، وكذلك لمدينة "الهيراكليوم" وجزيرة كانوب "نلسون حاليًا" شمال شرق الإسكندرية التي كانت تقع أمام مصب الفرع الكانوبي لنهر النيل، كما قَدَّم المؤرخ سترايون - الذي زار مصر في حوالي 25 ق.م - وصفًا أكثر تفصيلاً بدءاً من الإسكندرية وحتى مدينة كانوب يليها مينونيس ثم الهيراكليوم ثم مصب الفرع الكانوبي أو الفرع الهيراكليوتي، وعلى الرغم من تأسيس الإسكندرية 332 ق.م وانتقال النشاط التجاري إليها، فإن المنطقة ظلت مزدهرة بفضل معابدها وآليتها التي كان الناس يفدون إليها من كل مكان.
وظلت هكذا حتى العصور المسيحية، فأخذت المعابد تضمحل، وتفقد أهميتها حتى أنه مع أواخر القرن الرابع الميلادي تشير المصادر التاريخية إلى تشييد أحد الأديرة الكبيرة بجوار موقع معبد مينوتيس، وأصبح هذا الدير أعلى بناء في المنطقة يراه الوافدون من مسافات بعيدة. ومع القرن الثامن الميلادي لم يَرِد أي ذكر لهذه المنطقة في المصادر التاريخية وترددت تساؤلات عن أسباب اختفاء هذه المدن، هل كان مردها إلى إحدى التحويلات البيئية أو البيولوجية في خليج أبي قير مثل ارتفاع مستوى البحر أو انخفاض مستوى الأرض أم كل هذه العوامل مجتمعة ؟!
ولا شك أن أولى المحاولات الجادة للبحث عن الآثار الغارقة على يد الأمير عمر طوسون عام 1933م، حيث استعان ببعض الغواصين وتم انتشال رأس الإسكندر الأكبر (والموجودة حاليًا بالمتحف اليوناني)، وتم رسم أول خريطة للآثار الغارقة في الخليج… وعلى الرغم من أن هذه المحاولة من جانب عمر طوسون كانت الأولى من نوعها، فإن النتائج لم تكن كافية للإجابة عن كثير من التساؤلات بشأن المدن الغارقة في أبي قير، واليوم وبعد جهود استمرت أربع سنوات تم الكشف عن كل من مدينة "منيوتيس" ومدينة "الهيراكليوم" وتحديد مصب الفرع الكانوبى..
ويقول إبراهيم درويش مدير الآثار الغارقة بالإسكندرية: إن هذه الاكتشافات بدأ العمل فيها منذ عام 1996م، وذلك بالتعاون بين المجلس الأعلى للآثار الغارقة، والمعهد الأوروبي للآثار الغارقة بهدف الكشف عن هذا التراث الغارق، فبدأت أعمال المسح الأثرى باستخدام أجهزة التردد المغناطيسي وأجهزة مسح القاع وأجهزة تحديد المواقع الجغرافية بالأقمار الصناعية، وقد أسفرت أعمال المسح الأثري بهذه الأجهزة التي استمرت عامين عن عمل أول خريطة تحت مائية دقيقة للمنطقة توضح وتحدد المواقع الأثرية الهامة بالخليج.
وأخيرًا تم اكتشاف مدينة مينوتيس التي تبعد عن الساحل نحو 2كم، واستمرت أعمال الكشف عنها عامين تم خلالهما إزالة طبقة الرمال التي تغطي الموقع، والمدينة تمتد بمساحة 500 × 700م، وتحوي أطلالاً تمتد بمحور من الشرق للغرب تتكون من مئات الأعمدة والكتل الحجرية مختلفة الأشكال والأحجام، وكذلك تماثيل لأبي الهول ورؤوس ملكية، وكذلك تماثيل لبعض المعبودات مثل إيزيس وسيرابيس، إضافة إلى العثور على بعض الكتل الحجرية التي تحمل نقوشًا هيروغليفية يرجع بعضها للأسرة 26 وبعضها للأسرة 30 الفرعونيتين، ولعل أهمها أجزاء من ناووس يصور الأبراج والفلك في مصر القديمة، فضلاً عن العديد من العملات الذهبية يرجع بعضها للعصر البيزنطي وبعضها للعصر الإسلامي (العهد الأموي)، مما يشير إلى استمرار الحياة بالمنطقة قبل غرقها حتى القرن الثامن الميلادي، كما تم الكشف في المنطقة التي تمتد غرب الموقع وباتجاه الساحل عن العديد من أساسات المباني ذات الكتل الحجرية الضخمة تبلغ مساحاتها 30 × 30م وبعضها 50 × 50م وهي أساسات تشير إلى أنها أطلال لمبانٍ ضخمة كانت تجاور موقع المعبد.
وإلى الشرق من الموقع السابق بنحو 4كم تم الكشف عن موقع آخر يحوي العديد من المباني الضخمة والتماثيل التي تصور الملوك بالطراز الفرعوني، ويصل حجمها إلى 4 أمتار في الارتفاع كما عثر على ناووس كامل، وفى حالة جيدة ومئات من الأعمدة الجرانيتية فضلاً عن تماثيل أبي الهول والكتل الحجرية، وهو نفس الموقع الذي يطابق النصوص القديمة، وما زالت أعمال الحفائر جارية في الموقع للكشف عن المزيد من الحقائق والقطع الأثرية..
كما أن من أهم النتائج التي تَمَّ التوصل إليها تحديد مَصَبِّ الفرع الكانوبي، وذلك باستخدام مغناطيسية تعطي مقطعًا في قاع خليج أبي قير وطبقاته المختلفة، وهو ما سوف يساعد على معرفة التطورات الجيولوجية في هذه المنطقة.
ويقول أحمد عبد الفتاح مدير عام الآثار بالإسكندرية: إن هذه الاكتشافات تؤكد أن الإسكندرية موجودة قبل مجيء الإسكندر الأكبر، وهذا ما ينفيه البعض كما أن مدينتي مينوتيس وهيرالكيوم عبارة عن ضاحيتين: الأولى كان بها مجموعة جميلة من تماثيل الآلهة إيزيس، والثانية كان بها معبد البطل اليوناني هرقل، والضاحيتان وردتا في الكتابات الكلاسيكية. والآثار التي اكتشفت حاليًا أول آثار يُكْشَف عليها بشكل مباشر كما أن هذا الكشف يعتبر انتصارًا عظيمًا لعلم المِصْريَّات في مصر، ولم يكن مثيرًا لنا من قبل التوصل لهذه الآثار، ولكن مع وجود الإمكانات البشرية المتمثلة في الغطاسين الأثريين أصبح الأمر مختلفًا إضافة إلى الإمكانيات التكنولوجية بالطبع، والجدير بالذكر والطريف أيضًا أن هاتين الضاحيتين ضَمَّتا النقيضين؛ حيث كانت مشهورة بأنها منطقة فجور وفي نفس الوقت كانت مدينة للمعابد.. فجمعت بين النقيضين.
ومن الآراء الأجنبية الهامة حول هذه الاكتشافات رأي البروفيسور (جون يويوت) في كلية فرنسا بباريس الذي يقول: إن أجزاء الأحجار المغطاة بالأشكال المصرية والنصوص الهيروغليفية التي اكتشفت في أبي قير تنتمي إلى بناء فريد من نوعه، وهو "ناووس الديكادات" وتساعدنا على فهم أحسن للنصوص وتسمح لنا بتجديدها، وبنسبها بصورة أوضح إلى القرن الخامس ق.م، وهى فعلاً من أقدم الوثائق المعروفة التي تسلط الأضواء على أصل علم التنجيم الكلاسيكي، أي كيف نشأ في مصر عن مزج بين التنجيم الآشوري ومفهوم التقويم الفرعوني؟، لقد أنشأ الفرعوني (منيكتانيبو) في القرن الرابع قبل الميلاد في مدينة سافت على الشاطئ الشرقي لِدِلْتا النيل معبدًا صغيرًا من البازلت يُطْلَق على شكله اسم ناووس بين علماء الآثار المصرية، وكان منحوتًا على سطح جوانبه صدر وكتابات تمثيل الديكادات وتصفها أي المراحل التي تستغرق 10 أيام، والتي يتم تحديدها بواسطة شروق وغروب نجوم معينة يطلق عليها اسم (ديكانات)، وكانت مراقبة هذه الديكانات تساعد على عَدِّ ساعات الليل، وفى القرن التاسع ق.م وصف المصريون هذه التحولات للسماء الليلية بالقوة المهددة أي التي يمكنها أن تؤثر على المصير الإنساني، ولما أتى الإغريق بعد ذلك بعلم التنجيم إلى الإسكندرية الذي يمكن متابعة جذوره إلى بلاد الأثوربين والكلدانين، ثم اعتبار الديكانات المصرية كتقسيمات للبروج 12 (وهى نفسها حتى يومنا هذا بالنسبة للذين يهتمون بعلم التنجيم).
ودراسات القطع الموجودة مكَّنَت بعض الباحثين من القيام بإعادة بناء النظام النظري للنظام الأيقوني المعقد الذي أسس الديكادات، أما الكتابات الهيروغليفية فتساعد على وصف الأشكال الغربية التي تمثل سير الديكادات فوق السماء الليلية، واكتشف كذلك أن المدونات التي تحدد تأثير كل ديكادة على الطبيعة وعالم الحيوانات والمجموعة الإنسانية والارتياح الفردي تظهر في نفس الأسلوب والصنف الأدبي الذي ظهرت فيه المقالات الإغريقية اللاتينية المنتمية للعصر الروماني، إلا أن تدوينها تمَّ في القرن الرابع ق.م وفى هذا السياق نُسِبَ للنجوم التأثير على نظام المملكة الفرعونية وعلى البلدان المجاورة لها