د. محمد عابد الجابري
لعل القارئ يتساءل: ماذا يعنيه كل هذا الكلام التراثي الذي أقحمناه هنا، خلال المقالات السابقة بالنسبة لحاضر العالم العربي اليوم؟ ما علاقة مفهوم "التركيب" كما وظفه ابن رشد وابن خلدون في فهم مجتمعهما ودولتهما بحال المجتمع والدولة الآن؟ وما أهمية التذكير هنا بالنزعة الحتمية الخلدونية والنزعة الإصلاحية الرشدية؟ وبعبارة قصيرة ما العلاقة بين أفق ابن خلدون وابن رشد والأفق المعاصر، أفق القرن الحادي والعشرين؟
أسئلة لابد من طرحها والوعي بما تطرحه من ضرورة مراعاة الفارق الزمني!
إذا نحن أردنا أن نفسر اختلاف رأي ابن رشد عن رأي ابن خلدون في مسألة الإصلاح فلابد من الأخذ بعين الاعتبار عاملين اثنين: النموذج العلمي الذي استوحاه كل منهما ثم طبيعة العصر الذي عاش فيه.
أما ابن رشد فقد فكر في "التركيب"، في سياسات الدول، مستوحياً نموذجاً رياضياً هندسياً هو فكرة "الوسط". هو يرى أن التركيب ليس مجرد جمع بين عناصر كيفما اتفق. بل التركيب عنده هو نوع من "الوسط" بين طرفين متناقضين. فحكومة الأخيار في طرف وحكومة الطغيان في الطرف المقابل، والدولة المركبة تقع بينهما، تماما كما هو الشأن في الألوان التي تقع بين الأبيض والأسود، فهي تتدرج من الأبيض عبر ألوان لا حصر لها تزداد فيها نسبة السواد إلى أن تصير إلى الأسود الكامل. وهذا الفهم للتركيب بوصفه مجالا للحركة من طرف إلى طرف هو ما جعل ابن رشد يؤمن بإمكانية الإصلاح، وبالتالي يتجنب تشاؤم أفلاطون بل ويعترض عليه، كما سنرى بعد.
أما ابن خلدون فقد فهم "التركيب" في الدولة على غرار نموذج "كيميائي" هو "المزاج". فمزاج الإنسان حسب النظرية الطبية القديمة هو حصيلة الأخلاط الأربعة (المرتان الصفراء والسوداء والبلغم والدم). والمزاج يسمى باسم الخلط الغالب. ومزاج الدولة عند ابن خلدون هو مزاج العصبية صاحبة الدولة، ويتغير مزاجها حسب الطور الذي تكون فيه. هو يرى أن "حالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار". طور "الظفر بالبغية" أي التأسيس ويكون "صاحب الدولة أسوة قومه… لا ينفرد دونهم بشيء"، وتكون سياسته بمشاركة أهل العصبية وهم العمود الفقري في جماعة "أهل الحل والعقد" آنذاك كما تكون أقرب إلى الفضيلة والشريعة. يأتي بعد ذلك طور "الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك… واصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع". ثم تنتقل الدولة إلى "طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك". يأتي بعده "طور القنوع والمسالمة" وتقليد السابقين. ثم "طور الإسراف والتبذير"، وفيه "تحصل في الدولة طبيعة الهرم". فالتركيب هنا متداخل مع "أطوار الدولة" إلى الدرجة التي يمكن القول معها إن لكل طور مزاجه الخاص. وواضح أن هذا النموذج لا يسمح بالتفكير في الإصلاح، فأطوار الدولة كأطوار عمر الإنسان لا تقبل الانعكاس، فالشباب لا يعود… يوما!
أما تأثير العصر ومعطياته في فهم "التركيب" في السياسة لدى مفكرينا العتيدين، ابن رشد وابن خلدون، فيمكن رصده كما يلي:
أما فيلسوف قرطبة فقد عاش في عصر الدولة الموحدية التي عرفت فترات من الازدهار خاصة على عهد عبدالمومن وابنه يوسف، الأمير الفيلسوف صديق ابن رشد. وإذا كانت هذه الدولة قد شهدت انتكاسة على مستوى التضييق على الفلسفة والفلاسفة وبالتالي على حرية الفكر وازدهاره في أواخر عهد يعقوب المنصور الذي تزامن مع أواخر عمر ابن رشد، فلم يكن ذلك مما لا يمكن تداركه، فعنصر "الفضيلة" –حسب تعبير ابن رشد- لم يكن قد توارى تماما، لم يكن قد اقترب من "اللون الأسود" بعد، ولذلك نجد فيلسوف قرطبة يقول بإمكانية الإصلاح.
وأما ابن خلدون الذي عاش في عصر كان كله تراجعات في الميدان السياسي كما في الميدان الثقافي والازدهار الحضاري، في المغرب والأندلس وفي المشرق كذلك، فلم يكن يرى من سبيل للإصلاح إلا إذا انقلبت الأمور رأساً على عقب، وحينئذ يكون التغيير ليس مجرد إصلاح بل إنشاء شيء جديد تماما. لقد كان وضع العالم الإسلامي في ذلك الوقت "كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة". والتغيير في مثل هذه الحال لا يكون بـ"الإصلاح" وإنما يكون بحدوث انقلاب كبير في الأوضاع تتبدل به الأحوال جملة: "وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث"، حسب تعبير ابن خلدون نفسه.
هذا النوع من "الخلق الجديد والنشأة المستأنفة والعالم المحدث" كان مرتبطا في أفق ابن خلدون بسقوط ما يسميه بـ"الدولة العامة"، وقيام أخرى مثلها مكانها، كسقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية مكانها، وذلك لا يكون بـ"الإصلاح" بل بالثورة العارمة، كالثورة العباسية، أو ثورة المرابطين أو الموحدين وهلم جرا.. ففي مثل هذه التغييرات الكبرى التي تأتي بعد ثورات شاملة عميقة يمكن حصول التجديد والإصلاح، أما في غير ذلك فكل ما يمكن أن يحصل هو أن تزيد الدولة عمرا إلى عمرها بالتحالف مع قوى جديدة، كما ذكرنا، ليأتي بعد ذلك الهرم المحتوم.
وفي جميع الأحوال تكون سياسة الدولة مركبة و"مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية". قد يتغلب هذا العنصر في وقت وقد يهيمن عنصر آخر، ولكن هذه العناصر تبقى حاضرة بشكل أو بآخر كـ"المزاج للمتكون" كما شرحنا.
ما الذي يمكن أن نستفيده من هذا الاستطراد في موضوع "التركيب" في الدولة والسياسة؟
هناك علاقة بين النظرية والواقع الذي تفسره: النظرية تشهد بالوجود للواقع الذي تفسره، والواقع يشهد للنظرية بالصحة، عندما تقدم عنه فهما مقبولا في مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري. وعندما تحتفظ نظرية من النظريات بشيء من الصحة عندما يقرأ بها واقع معين، في وقت يقع خارج وقتها، فذلك دليل على أن ذلك الواقع ما زال يحتفظ في جوفه بشيء ما من الواقع الذي منه انبثقت تلك النظرية أولا. وهكذا فإذا كانت الدولة العربية المعاصرة تقبل أن تقرأ، كليا أو جزئيا، وفق نظرية ابن خلدون أو ابن رشد فذلك دليل على أنها ما زالت تحتفظ بشيء ما من الصدق. وبالعكس: إذا كانت نظريتاهما تجدان صدى في تفكيرنا يضفي عليهما نوعا من الصدق، فذلك دليل على أن في الواقع العربي المعاصر شيئا ما من "زمن" ابن خلدون وزمن ابن رشد!.
وسيتبين هذا في المقال القادم.
"الاتحاد" الاماراتية
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]