مكانة القدس في العقيدة الإسلامية
أ0د/ عبد العزيز الخياط - وزير أوقاف الأردن السابق و رئيس مجمع الحضارة في الأردن
ما أعرف بلدا كالقدس له منزلة مقدسة عند سائر الناس كافة على اختلاف عقائدهم ولا اذكر مكانة لبلد بعد مكة والمدينة ترتفع إلى التقديس عند المسلمين كالقدس ولسنا نقدس أحجارا ولا نعبدها ولا نمجد بنيانا يتغير ويتبدل على مر السنين ولكننا نقدس ما قدسه الله مدينة تزهو على كل المدائن وبلدا يباركه الله في الدنيا وجعل فيه من دواعي التبريك والتقديس أنبياء بررة ونجيع دم زكي ورسلا هداة وصخرة مقدسة ومسجدا طهورا وغاية إسراء لإكرام الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام ومنطلق معراج له إلى السماوات العلا ومهبط رسالة عيسى ومصدر الإشعاع الحضاري الإسلامي عبر القرون وأرض بطولات وذكريات عزيزة صلاة المسلمين إليها قبلة مرموقة وبلدا مزارا وأرض داء قام فيها عمر أمير المؤمنين في ليله أحياها حتى الفجر قائلا ليبك اللهم لبيك بما هو احب إليك وصلى فيها إماما بالصحابة قرأ في الركعة الأولى بهم سورة (ص) وفيها حديث الأنبياء وعبادتهم في القدس وعلا صوته وهو يقول أم لهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب وقرأ في الركعة الثانية أوائل سورة الإسراء وردد الفضاء صدى صوته الجهور عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا أكد تبريكها عهدة عمرية تنزيهية تقر الحق وتحقق العدل تؤكد السماحة.
ومن دواعي التبريك صحابة وعلماء وزهاد وأتقياء عاشوا في أرضها وأظلتهم سماؤها واسهروا ليلها سجودا على ترابها أو كتابة للعلم وملأوا رحابها تدريسا وجهادا ومذاكرة وواراهم ترابها وزكت مآثرهم تاريخها وقادة كرام كانوا نموذج الحكم والقيادة والفتح والسيادة والعدل والريادة تبريك نور أرجاءه يوم بنيت على صخرتها قبة المجد والجامع الأقصى وتليت فيها آيات الله آناء الليل وأطراف النار وجدد بهاءه يوم استمع صلاح الدين بعد الفتح إلى خطبة القاضي محي الدين القرشي وقد امتلأت ساحات المسجد والصحون واستعبرت للفرح بما يسره الله العيون ووجلت القلوب وخشعت الأبصار وردد القاضي كلمات الصدق "فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم محمد عليه السلام وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء ومقر الرسل ومهبط الوحي ومنزل تتنزل الأمر والنهي وهو في أرض المنشر وصعيد المحشر وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في الكتاب المبين".
وزاده التبريك أن سالت دماء المجاهدين على أسواره وفي رحابه كان نعم الدم الهاشمي المبرور. فحق أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدس في الحديث الشريف الذي رواه عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر "بيت المقدس بيت بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبي وقام فيه ملك".
وقول الشاعر:
هي القدس محراب السماء وبابها ومنها إلى الرحمن تفضي شعابها
حجارتها للمؤمـنـيـن قـلائد وكـحـل عيون المؤمنين ترابها
وقول الشاعر:
عـربـية يا قدس ما من رملـة إلا وضـمخهـا الزكي الأطهر
عربـيـة أرضا سماء ومحتـدا عـمرا وتاريخا يضيء ويزهر
هم يحـلـمون بأن تضيع معالم لك شادهـا شعـب عظيم خير
هيهات والإســلام أنت منارة ولواؤه والملتقـى والمحشــر
***
يـا قدس يا وطن النبيين الألـى حملوا إلى الدنيا الضياء وبشروا
وبقـيت والمعراج فوقك مشرع أعـلامـه يحنوا عليك ويسهر
ومحمـد والأنبياء شــواخص أبصارهم لـك والبراق الأطهر
يا قدس مذ أسرى النبي تـشوقا لك والدنى بك تهـتـدي وتنور
يا قدس أبواب السماء جميعهـا في سقفك الزاهي تضيء وتبهر
***
وقال آخر:
يا قدس كم فيك من ذكرى مقدسة طارت بأجنحـة الأضواء نجواها
توهج الحزم في جلي محمدهـا وأورق الطهر في أهداب عيساها
مسرى الحنيفية السماح وقبلتهـا يـا طـهر قبلتها يا عز مسراها
***
ابتداء القدس
بدأ تاريخ القدس ببناء المسجد الأقصى فيها أي ببدء سلالة آدم في هذه الأرض وذلك لأن الله سبحانه وتعالى يقول "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين" وقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما بسندهما عن أي ذر رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض؟ قال "المسجد الحرام" قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: وكم بينهما؟ قال: أربعون عاما ثم جعلت الأرض لك مسجدا فحيثما أدركتك الصلاة فصل" فمن المعلوم أن أول من عين مكان الكعبة هو الله سبحانه وتعالى للملائكة ثم بناه آدم عليه السلام وبنى آدم بعده بأربعين سنة المسجد في القدس كما ورد في الحديث الشريف ذكر ابن هشام في كتاب التيجان: أن آدم عليه السلام لما بنى البيت (أي الكعبة) أمره جبريل بالمسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه وفي رواية "وسكن فيه" ثم أصاب الخراب المسجدين الكعبة والمسجد الأقصى نتيجة الطوفان وغيرها كما قال الزركشي وصنعا قديما ثم خربا حتى جدد إبراهيم عليه السلام الكعبة كما ذكر الله عز وجل "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل".
وظل الأمر كذلك حتى جاء العرب الكنعانيون من جزيرة العرب إلى بلاد الشام قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة ونيف وسميت الأرض باسمهم أرض كنعان ومن الكنعانيين اليبوسيون الذي سكنوا جنوب بلاد الشام وجاء زعيمهم سالم فأقام هيكلا للعبادة على مرتفع عال في الأرض التي سميت باسمه "أور سالم" و(أور) معناها مدينة وذلك قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة وقبل ظهور إبراهيم عليه السلام ب 1850 سنة ولما جاء الآراميون حرفوا كلمة (سالم) فنقطوا السن شينا فصارت (أورشليم) وازدهرت المدينة بعد ذلك وعاقب عليها السكان على اختلاف أجناسهم وأديانهم وأطلقوا عليها أسماء مختلفة فصار لها عدة أسماء منها "أورسالم"، أورشلم، يورشالم، أورشليم، مدينة الرب، إيليا" وفي العهد الإسلامي سميت بيت المقدس القدس، دار السلام، مدينة السلام" وقد ورد اسمها (أورشاليم) في ألواح مصرية سميت (نصوص الطهارة) ترجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد وقبل دخول اليهود إلى القدس أي 1004ق.م.
وقد أوردت التوراة أن إبراهيم عليه السلام وفد إلى فلسطين وأحسن الملك العربي اليبوسي (ملكي صادق) وفادته ولم يجز إبراهيم لنفسه أن يملك قطعة من أرض القدس ووهبه الحيثيون قطعة من أرض حبرون (مكفيا) ليدفن فيها زوجته سارة كما يقول الكاتب اليهودي (جان ليجول).
ومن هذا السرد نرى أن تقديس القدس وتبريكها كان من تقديس الله لها لأنه أمر آدم أن يبني فيها ثاني بيت بني في الدنيا للعبادة فيه هو المسجد الأقصى وزادها تبريكا أن سالم اليبوسي (كما تقول الروايات عنه) كان رجلا صالحا بنى المعبد فيها على مرتفع وهو الصخرة (أي جدد بناء المسجد الأقصى) وجاء ملكي الصادق الذي أيد أول جماعة ظهرت للتوحيد في بيت المقدس فعزز هذا التبريك بأن فيها معبدا سماه "بيت المقدس" وكان ملكا عربيا نقيا ورعا محبا للسلام حتى أطلق عليه لقب "ملك السلام".
يتبع باقي الموضوع