الأسس الفكرية للتناقضات في السلطة الزيدية – دراسة تاريخية لظاهرة تعارض الأئمة الزيدية في اليمن 284-840هـ
الباحث:
د/ سلوى علي قاسم المؤيد
الدرجة العلمية:
دكتوراه
الجامعة:
جامعة صنعاء
بلد الدراسة:
اليمن
لغة الدراسة:
العربية
تاريخ الإقرار:
2008
نوع الدراسة:
رسالة جامعية
الخاتمة
تأسست السلطة الزيدية في اليمن سنة 284هـ عندما دخل الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين مدينة صعده. وجاء تأسيسها في وقت غادر اليمن وضعه ولاية من ولايات الدولة العربية الإسلامية، ليشهد عدداً كبيراً من مراكز النفوذ والقوى المحلية، وفي وقت بدأ الفكر الشافعي يفرض نفسه في الجبال وتهامة. هكذا شهدت نهاية القرن بداية خطين فكريين في اليمن هما الزيدية، والشافعية، إلى جانب بؤرة قرمطية إسماعيلية، محدودة النفوذ (مسور سنة 303هـ).
ارتبطت الزيدية في اليمن بالهادي يحيى بن الحسين، ولا يمكننا الحديث بمرونة عن فلسفته في إقامة السلطة الزيدية، كما أن إجراءاته لتأسيسها لم تحو ما يمكن الإستدلال من خلاله عن تلك الفلسفة، وغالب الأمر أنه انطلق من إحساسه بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى مبادئ العدل والتوحيد بحكم خلفيته الفكرية التي تشكلت على مرتكزين أساسين هما؛ فكره الإعتزالي حسب آراء شيخه أبي القاسم البلخي، وفكره الزيدي المنطلق من خروج زيد بن علي، الذي نجهل رؤيته له. وقد استمرت السلطة التي أسسها بقيادة أئمة من أسرته ومن أسر علوية أخرى، أما فكره فقد تناقله تلاميذه وعلى رأسهم أحمد بن موسى الطبري.
غطت الدراسة الزمن بين 284 و840هـ (656سنة). مارس خلالها الإمامة 42 إمام ومحتسب، تعارض منهم (39)إماماً ومحتسب. تنوعت الأسباب التي وقفت وراء تعارضهم. وعلى الرغم من أن التعارض يعد الشكل البارز من أشكال التناقض في السلطة الزيدية، غير أنه ليس بالضرورة كل التناقض، فقد كانت ثمة تناقضات شهدها الوسط الزيدي دون أن ترتبط بحالة تعارض. يصعب الوصول إلى تفصيل دقيق عن تلك التناقضات بسبب غياب الكتابة التاريخية لتطور الزيدية، فحتى القرن العاشر لم يؤلف في التاريخ الزيدي من وجهة نظر التاريخ، وكلما كتب كان سيرا وكتبا في شؤون المذهب. وحتى عندما ظهرت الكتب التاريخية، فإنها لم تغادر حدود شرح البسامة لصارم الدين، وإلى وقت طويل من تاريخ الزيدية (القرن الحادي عشر)، حين ظهر أول كتاب في تاريخ الزيدية على وفق منهج المؤرخين وهو للمؤرخ العالم يحيى بن الحسين، لذلك بقي التاريخ الزيدي مؤجلا فترة طويلة من الزمن، إلى أن كُتِب. الأمر الذي أضفى على أحداثه نوعا من الضبابية. ومع هذا يمكن القول أن التناقضات في الوسط الزيدي لم ترتبط فقط بحالات التعارض، فالحالات التي شهدت عدم توافق في الحركة بين طموحات الأئمة واستجابة القاعدة البشرية، تؤشر مستوى من التناقضات، كانت مبكرة في ظهورها، كما كشفت عنها أقوال ابني الهادي لمبايعيهما من الأتباع، وتكررت في عهود أئمة لاحقين. وبشكل عام كانت هذه التناقضات ناتجة عن عدم تحول القاعدة البشرية للزيدية تحولا اعتقاديا (عقائديا) وسلوكيا بما ينسجم ومتطلبات الفكر الزيدي (الإمامة الزيدية)، وبقيت مؤشرات هذا الخلل تظهر في عدم استقرار الولاء، وحالات التقلب التي كان تظهر لاسيما بعد وفاة الإمام أو في سنوات القحط.
يمكن ملاحظة التناقض الداخلي في الفكر الزيدي بين إتجاهين رئيسين، عرف الأول بالفكر الهادوي الذي انتسب إليه من سموا بـ (المطرفية)، وأطلقت على الثاني إسم (المخترعة) الذي كان تأثره الأكثر فكر (الجارودية) وهي الفرقة الزيدية في العراق وطبرستان والديلم. أدت الرغبة في إظهار التناقض وكأنه ليس مع خط الهادي، قاد إلى إطلاق مصطلح (المطرفية) على أتباع الفكر الهادوي. حسم الصراع أخيرا لصالح فكر المخترعة مع بعض التأثيرات الهادوية، فالفترة التي تلت إنتهاء نفوذ الحمزات شهدت نشاطاً فكرياً تركز على مبادئ العدل والتوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفكر الهادي بشكل عام. يمكن القول إن هذه المحصلة تنسجم إلى حد كبير مع نظرة البطون العلوية، على اختلافها إلى طبيعة وجودها في اليمن، وعلى شكل علاقتها بالقاعدة الزيدية، التي كانت تحمل نوعا من الوصاية على الدين، ظهرت واضحة في عهد عبد الله بن حمزة، رغم أنها بدأت قبله، فجاءت تصفيته للمطرفية وهم جميعا تلاميذ الهادي، إلى اطمئنان العلويين لاستمرار وجودهم على وفق السياق الذي كانوا يرغبونه، لهذا اقتصرت تصفيتهم لذيول الفترة الحمزية بالعودة للهادوية بشكل عام، والنظر إلى مسألة الإمامة على أنها سلطة، أي النظر لها نظرة واقعية أعمق، فأصبحت النظرة إلى تاريخ الزيدية نظرة إلى تاريخ معتنق لدى جميع الأطراف. وهو ما يفسر عدم تصريح أحد من الأئمة اللاحقين أو الكتاب الزيديين برأي صريح في أي من حالات التناقض التي شهدها تاريخ الزيدية. لقد كان لهذا الفهم إيجابياته على مستقبل الزيدية في اليمن، إضافة إلى عوامل أخرى. والواقع أن تاريخ الزيدية شهد، إلى جانب تناقضاتها الداخلية، مثابرة فكرية وسياسية لضمان استمرار خط الزيدية في اليمن. وشهد قدرات إدارية في إدارة التناقضات وإحكام صلتها بالتطور العام في آن واحد. أي إن المحصلة التي ظهرت نتائجها بعد القرن العاشر في التأريخ الزيدي كانت بِنت تلك المدة قبل القرن العاشر.
لقد ظهر عامل الفكر واضحاً بقوة في كل التناقضات التي شهدها الوسط الزيدي، سواء كان في إطار حالات التعارض أو خارجها. ويمكن تفسير ذلك بنوعين من العوامل؛ الأول، عامل جنيني في الفكر العلوي عموما، الذي مال في وقت مبكر إلى النخبوية المرتبطة بشخصية الرسول (ص)، وهو ما كان يراه الآخرون تناقضا مع جوهر الإسلام، غير أن الزيدية من العلويين حكمت مواقفهم عدة أمور؛ أولها، إنطلاقهم من زيد بن علي الذي لم يكن فكره نخبويا، وثانيها، شعورهم بخطر الاتجاه الآخر من الفكر العلوي (الإثنا عشرية)، وثالثا، تأثرهم بالمدارس الفكرية حولهم، ورابعا، الإتجاهات السائدة في الوسط الزيدي الذي قادوه في اليمن. وإذا كانوا لم يستطيعوا أن يحافظوا على ارتباطهم بجوهر موقف زيد بن علي، فإنهم نجحوا وإلى حد كبير في أن يثبتوا تمثيلهم لفكر آل البيت أمام الإثناعشرية. ففكرة الإثنا عشرية التي قالت بالتوقف في الإمام الغائب أوجت بنوعين من التعطيل، الأول مباشر، تعطيل للدور العلوي، والثاني غير مباشر، تعطيل الدين، لذلك قال الزيدية بالدعوة، فكل من يجد في نفسه الأهلية من نسل فاطمة، يستطيع أن يدعو لنفسه بالإمامة. وهنا ظهرت قيمة العاملين الثالث والرابع المشار لهما أعلاه، فالعلاقة بين الإمام الداعي والرعية المدعوة لم تتوقف عند موروث آل البيت الفكري، إنما تحاورت في الوقت نفسه مع الإتجاهات الفكرية حولهم، ومع مطالب القاعدة الاجتماعية للزيدية. ولعل هذه المعادلة هي التي وقفت بقوة وراء استمرار الزيدية، فالنظرة الواقعية للسلطة والعيش في جزيرة من الأفكار كانا واضحين في أواخر المدة التي شملتها الدراسة في شكل محصلة لتفاعل عناصر ثلاثة، العلويون في اليمن، وقاعدة الأتباع ومحيط السلطة.
لقد عزز هذه التوجهات في الفترة الثالثة من تطور الزيدية (فترة الإعتدال)، ظهور علم الكلام الزيدي، الذي ما كان بالإمكان أن يكون تداولاً تعاملاً للفكر، إنما يشترط أن يكون الفكر موضع حوار، والحوار يفترض مسبقا وجود فرضيات واحتمالات. والذي يقرأ مؤلفات الأئمة (يحيى بن حمزة وعز الدين بن الحسن...وغيرهم)، يجد إنعكاسا واضحاً لهذه المسألة. لقد عززت عملية الجدل التوجه المعتدل لدى الأئمة للوقوف على المذاهب الفكرية الأخرى، إن كان عن طريق التعلم، أو عن طريق القراءة والحوار. وقد صبت محصلته الإيجابية في نوع من الحوار البناء بين الزيدية والمذاهب الأخرى، في وقت لم يعد لتلك المذاهب سند سلطوي، مثلما كان للزيدية.