الحياة العلمية في بلاد الشام في القرنين السابع والثامن الهجريين
الباحث:
د / عبد المنعم محمد كندو
الدرجة العلمية:
دكتوراه
الجامعة:
جامعة صنعاء
بلد الدراسة:
اليمن
لغة الدراسة:
العربية
تاريخ الإقرار:
2008
نوع الدراسة:
رسالة جامعية
الخاتمة
بحمد الله وتوفيقه، انتهى موضوع البحث الذي تناول دراسة شاملة ومتكاملة لموضوع الحياة العلمية في بلاد الشام في القرنين السابع والثامن الهجريين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين. ولابد من الخروج منه ببعض النتائج التي تم التوصل إليها، والتي تحتاج لمزيد من التفصيل والبحث والدراسة لتكتمل الاستفادة منها إن شاء الله في المستقبل:
1- إن الأحداث السياسية الخطيرة التي مرت بها بلاد الشام في تلك الفترة من الدراسة، والتي تمثلت باحتضار وزوال دولة الأيوبيين بسبب التنازع والتنابذ والخلاف بين أبناء ملوكها المتأخرين حول الاستئثار بالسلطة. مما حدا بتلاميذهم المماليك القيام بدورهم وإنهاء تلك الدولة الأيوبية بقتل آخر ملوكها توران شاه. ومن ثم قيامهم بالدور المنوط بهم في تلك المرحلة الحرجة من التاريخ، تجاه دينهم وأمتهم وشعبهم، للتصدي للخطر الداهم عليهم، وذلك برفع راية الجهاد والتوحيد تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. ووقوف العلماء المخلصين بجانبهم، بالدعوة للجهاد والتحريض عليه، بل والمشاركة والاستشهاد فيه، ضد أعداء الأمة من تتار وصليبيين، فلقد تم النصر على التتار وكسر شوكتهم وسحقهم في معركة عين جالوت، وذلك عام (658هـ/ 1260م)، بل وطردهم من بلاد الشام، بل واستمرار التصدي لهم طوال فترة حكم المماليك لبلاد الشام.
كما استطاع هؤلاء المماليك بالجهاد المستمر والمتواصل القضاء على الوجود الصليبي في بلاد الشام وطردهم نهائياً منه.
إن كل تلك الأحداث لم تعق سير الحياة العلمية ونشاطها في بلاد الشام، بل كان ذلك دافعاً قوياً شرائح المجتمع كافَّةً للوقوف في وجهها والتصدي لها من خلا إقامة الحياة العلمية التي تمثلت بإنشاء العديد من المراكز العلمية والتعليمية، وقيام العلماء بواجبهم تجاهها.
2- إن نمو الحياة العلمية وإزدهارها في تلك الفترة من الدراسة، إنما هو ثمرة من ثمار التزام المسلمين بشكل عام حكاماً ومحكومين بإرشادات وتوجيهات القرآن والسنة النبوية المطهرة، إذ جاء في الكثير من نصوصهما الحث على العلم ورفع شأنه ورايته، كما جاءت هذه النصوص مبشرة بالثواب والأجر العظيم لمن يساهم في رفع لوائه، ونفض غبار الجهل عن إخوانه المسلمين، لذلك أصبحت محبة العلم والحرص على نشره ومدارسته جزءاً من كيانهم، فتسابقوا في إنشاء مراكزه الكثيرة والمتنوعة، وأمنوا له لوازمه واستمراره.
3- إن الملاحظ لتلك الفترة من الدراسة يرى تنوع وكثرة المراكز العلمية والتعليمية عما سبقها من قرون، وما ذلك إلا لتعرض بلاد الشام عموماً للأخطار التي هددتها من قبل الصليبيين أولاً ثم التتار ثانياً، بمحاولتهما فرض مشروعهما المسيحي والتتاري، ومن ثم القضاء على مظاهره ومؤسساته الإسلامية، فالتتار قاموا بتدمير وحرق مكتباته ومدنه، والصليبيون حولوا كثيراً من مساجده إلى كنائس. فكان لابد من الإكثار من مؤسساته العلمية والدينية لإعادة الصبغة الإسلامية عليه.
4- وفيما يتعلق بنظام الدراسة والمواد التي تدرس، فقد كان نظام الدراسة مقسماً على ثلاث مراحل، مرحلة أولية تكون لتعليم الصبيان في المكتب، ومرحلة متوسطة تكون في المساجد أو المدارس وتكون للصبيان الذين تجاوز العاشرة من عمرهم، ثم المرحلة العليا وتكون في المدارس وبعض المساجد حيث تعقد فيها الحلقات العلمية المتنوعة، والمجالس العلمية المتنوعة أيضاً، وتمنح فيها الإجازات لطلبة العلم الذين تم اختبارهم من قبل علمائهم.
وأما مواد الدراسة فكان قراءة القرآن وحفظه ومن ثم بعض مبادئ الحساب واللغة للمرحلة الأولى. أما في المرحلة الثانية فكان حفظ المختصرات وبعض الشروح عليها. وفي المرحلة الثالثة كان التخصص في العلوم الشرعية المتنوعة سواء كانت في القراءات أو الحديث أو الفقه أو اللغة العربية... وفي هذه المرحلة يرافق الطالب شيخه، ويأخذ عنه العلم أينما حل أو ارتحل.
5- إن نظام الدراسة والمواد التي تدرس في مدارسه ومساجده هي شبيهة بما هو عليه في مدارس ومساجد العالم الإسلامي آنذاك. مثل العراق ومصر واليمن والأندلس، وغيرها. وهذا يعطينا انطباعاً بالتواصل العلمي لأهل بلاد الشام وعلمائها مع مدارس ومساجد وعلماء تلك البلاد الإسلامية السابقة الذكر، خاصة بعد أن ظهر في هذا البحث وفود وأعداد لا بأس بها من علماء تلك البلاد الذين وصلوا إلى بلاد الشام للتعلم والتعليم بها أو للمجاورة بأماكنها المقدسة أو لتولي المناصب المتنوعة بها. كما رحل أعدادٌ من علماء بلاد الشام إلى تلك البلاد للغرض نفسه، مما جعل نظام الدراسة والتعليم متشابهاً إلى حد كبير بين أرجاء العالم الإسلامي، مما يؤكد على وحدة هذه الأمة، وعلى تاريخها المشترك، ودينها الواحد، ومما يجعلنا نطالب بإعادة توحيد الأمة وجمعها للوقوف أمام الأخطار التي تهددها وتحاول تمزيقها وتشتيتها.
6- لقد تبين من خلال البحث كثرة المدارس للمذاهب الفقهية الأربعة عما سبقها من قرونٍ قبلها، وخاصة مدارس المذهب الشافعي التي كانت الأكثر عدداً وانتشاراً في بلاد الشام لتلك الفترة. وما ذلك إلا لتبني ملوك وسلاطين تلك البلاد لهذا المذهب، والعمل على نشره وانتشاره، ثم تلتها مدارس الفقه الحنفي فالحنبلي فالمالكي.
7- كثرة دور القرآن، ودور الحديث في تلك الفترة بشكل واضح، وذلك لبناء جيل مسلم ومؤمن ومتسلح بالقرآن، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام قولاً وفعلاً.
8- ظهور مدارس للطب ولأول مرة في تاريخ بلاد الشام، إذ وجد في دمشق وحدها ثلاث مدارس للطب فيها، غير البيمارستانات الكثيرة والمنتشرة في عموم بلاد الشام، مما يدل على ظهور التعليم الطبي النظامي في تلك المرحلة من الدراسة، والذي انعكس بدوره على المستوى الصحي والخدمات الطبية ليس في بلاد الشام فحسب بل في أرجاء العالم الإسلامي آنذاك.
9- بالرغم من الآثار الحميدة لإنشاء المدارس الفقهية المتنوعة المذاهب والتي عملت على نشر العلم وتعلمه، ومحاولة القضاء على الجهل وتخلفه في عموم بلاد الشام، إلا أنها من ناحية أخرى وبحسب رأينا كان لها أثر غير محمود تمثل في إذكاء روح التعصب المذهبي.
10- لم تكن الحياة العلمية في فترة الدراسة تعرف التقيد المحدد للعلم أو للانتهاء منه. لا من حيث الزمان ولا المكان، إذ كان طالب العلم يظل طوال حياته متعلماً، يأخذ العلم ممن وجده سواء كان ذلك من كبار العلماء أو ممن هو في بداية حياته العلمية، مثلما حدث لمجلس العلم الذي أقامه تقي الدين ابن تيمية وعمره آنذاك اثنتان وعشرون سنة، والذي استفادوا منه، بل ونقل بعضهم كالعلامة تاج الدين الفزاري الكثير من فوائد هذا الدرس في كراسه.
11- إن انتشار المراكز العلمية والتعليمية في عموم بلاد الشام، قد أتاح الفرصة لكل فرد من أفراد المجتمع مهما كان مستواه الاجتماعي أو المعيشي، لكي ينهل من العلم دون مقابل في معظم الأحيان.
12- بالنسبة لصبيان المسلمين الفقراء من الأيتام أو ممن مستواه المادي ضعيف، فقد تم إنشاء مكاتب خاصة بهم للتعليم سميت بمكاتب الأيتام، وقد وفرت لها كل المستلزمات الضرورية لاستمرارها.
13- إن معظم المراكز العلمية والتعليمية في بلاد الشام قد وفرت لنزلائها أماكن للإقامة ووضع القائمون عليها شروطاً للراحة فيها، مع تأمين الراتب لكل من الطلاب والمدرسين بحسب ما تحدده لهم وثيقة الوقف، ولا ريب في أنَّ هذا الأمر جعل الطلاب والعلماء يبذلون طاقة جهدهم للتفرغ للعلم والارتقاء به، مما أدى إلى ازدهار ونشاط الحياة العلمية وتقدمها.
14- لم تهمل الحياة العلمية في بلاد الشام تعليم المرأة، فهي مطالبة مثل الرجل بالعلم والتعلم، وذلك لتعرف به فرائض دينها وما يمكنها من تعليم وتربية أبنائها في المستقبل، وبني جنسها أيضاً. وقد وجدنا في فترة الدراسة العديد منهن، تَعَلَّمْنَ وعَلَّمْنَ، بل وأجزنَ الكثير من طلبة العلم سواء كانوا ذكوراً أم إناثاً.
15- مارس الكثير من العلماء في فترة الدراسة التدريس للطلبة بدون أجر مادي، مريدين به الثواب والمثوبة من الله سبحانه وتعالى، ومعتمدين في أرزاقهم على حرف تعلموها أو أموال ورثوها ونمّوها.
16- كثرت الرحلات العلمية للعلماء ولطلبة العلم سواء كان ذلك داخل بلاد الشام أو خارجها، ودون أية عوائق، ثم قيام هؤلاء العلماء بمهام التدريس والوعظ والإرشاد في عدد كبير من مساجد ومدارس وربط وخانقاهات وزوايا وترب تلك الحواضر.
17- مشاركة عدد كبير من العلماء في الحياة الواقعية لأمتهم، فتولى بعضهم منصب القضاء، والكتابة بأنواعها ومناصبها، والحسبة، والخطابة، والسفارة في الأغراض المختلفة.
كما أسهم الكثير منهم في الجهاد والحض عليه، والمشاركة فيه، وفي أعمال الخير وأوجه البر والإحسان، وفي قضاء حوائج ومصالح بلدانهم ومواطنيهم. نعم تسابق العلماء لخدمة مجتمعهم ومصالحه، فعملوا لأجل ذلك في كل اتجاه كان، فكانوا خير من يقومون بتلك الأعمال، وما ذلك إلا لأنهم ورثة الأنبياء، فنعم الوارثون، ونعم المورثون.
18- وأما ما يتعلق بالمعارف العلمية ونتاجهم العلمي به، فقد لوحظ الآتي:
أ- وجود أعداد كبيرة من العلماء المصنفين، والمتعددي المواهب والفنون حيث وجد كثير منهم جمعوا فنوناً متعددة من العلوم وأحاطوا بها، كالحديث والتفسير والفقه وأصوله، واللغة والأدب، والتاريخ والجدل والمناظرة والطب والفلك وغيرها. وكان بعضهم قد أتقن كثيراً من تلك الفنون تدريساً وتأليفاً ومناظرة.
ب- وصف عدد لا بأس به من علماء تلك الفترة وخاصة الفقهاء منهم بأنهم من المجتهدين أو ممن بلغوا درجة الاجتهاد وسداد الرأي.
ج- المؤلفات التي صنفت في تلك الفترة لم تكن مقصورة على الشروح والاختصارات للكتب السابقة لهم فحسب، بل صنفت مؤلفات اتصفت بالإبداع والابتكار والتجديد، فكان من بينها المتون التعليمية، والمؤلفات التي تدرس في مدارس ومساجد تلك الفترة.
د- تركز تصنيف العلماء في فترة الدراسة بشكل كبير وواسع على العلوم الشرعية، لما لها من أثر في معتنقيها وقارئها للتصدي عملياً للعدوان المتمثل آنذاك بالتتار والصليبيين والروافض الباطنيين الذين تعرضت بلاد الشام ومصر لعدوانهم.
لذا نشطت روح التأليف والتصنيف بتلك العلوم، ومما زادها نشاطاً المنافسة المحمودة بين علماء مصر والشام والبلاد الأخرى آنذاك، لترث كل واحدة منها إرث بغداد المدمرة في رعاية العلوم والثقافة الإسلامية، وإن كان حظ الشام منها راجحاً على من سواها.
- ففي علم القراءات وجدت مصنفات كثيرة لعلماء كثيرين سواء كانت شرحاً لكتب سابقة أو تصنيفاً جديداً في هذا العلم.
وعلى الرغم من أنَّ علم القراءات مجاله ضيق والإضافة فيه محدودة إلا أن علماء تلك الفترة قد مدوا في مداركه باعاً، وتوغلوا في مسائله علماً وطباعاً، فأتقنوا وعلموا تلاوة القرآن بالسبع والعشر. ورسخت أقدامهم في فهم دقائقه، حتى أصبحوا أئمة مقرئين، ومجودين متقنين.
- وأما في علم التفسير فقد وجدت مصنفات عظيمة في تلك الفترة أهمها على الإطلاق كتاب (تفسير القرآن العظيم) للعلامة ابن كثير الدمشقي (ت774هـ)، إذ اعتبره المفسرون من أشهر ما دون في تلك الفترة فيما يسمى بالتفسير المأثور بعد تفسير الطبري.
- وأما علم الحديث فنال العناية العظمى في دراسته والاهتمام به، إذ بلغ الذروة في الاتساع والكمال خاصة من حيث الرواية والدراية، ومن حيث دراسة السند والمتن. وظهر علماء كبار في ذلك العلم، ما زالت مؤلفاتهم تدرس حتى الآن.
- وفيما يتعلق بعلم الفقه وأصوله، فقد وجدت مصنفات كثيرة فيه لم تخرج في معظمها عن نطاق المذهب الذي ألفت له، سوى عدد قليل جداً منها.
- وبالنسبة لعلوم اللغة العربية، فقد حاز علم النحو قصب السبق على بقية علوم اللغة العربية في النتاج العلمي، وتأتي بعده بغية فروع هذا العلم مثل علم البلاغة والعروض، وعلم الأدب وفنونه من الشعر والثنر.
- ومن أهم العلوم المزدهرة في تلك الفترة من حيث النتاج العلمي علما التاريخ والجغرافية، إذ ظهر فيهما كبار العلماء المصنفين للتاريخ والجغرافية، إذ تعتبر مصنفاتهم مصدراً ومرجعاً ليس لفترة الدراسة فحسب بل لتاريخ الإسلام حتى وقتهم وبعده.
- بينما كانت العلوم الطبيعية مزدهرة أيضاً مثل علم الرياضيات والموسيقى والفلك والطب والصيدلة، وظهر لهذه العلوم العلماء والمصنفات الممتازة في بابها.
وهكذا نخلص من كل ذلك إلى وجود نهضة علمية عظيمة، تعتبر فترة إعادة لإحياء وتجديد التراث العلمي السابق واللاحق لها. وذلك بما ألفه العلماء وشرحوه واختصروه وحققوا فيه، وزادوا عليه. لقد ظهر في ذلك العصر أساتذة بارعون في فنون العلم كافة، تمتعوا بكفاءات علمية قوية، كانوا مرجعاً للخلق، بعد أن طار صيتهم العلمي في الآفاق، ولذلك تستحق هذه الفترة من الدراسة، المزيد من البحث والتنقيب والدراسة، ونرجو أن يأتي من الباحثين من يكمل ذلك.