الأنباط وعلاقتهم بالإمبراطورية الرومانية من(30ق.م-106م)
الباحث: أ/ شعبان علي عبدالله أبو راس
الدرجة العلمية: ماجستير
تاريخ الإقرار: 9/5/2004 م
نوع الدراسة: رسالة جامعية
الملخص:
إن الكتابات التي تطرقت إلى تاريخ وحضارة الأنباط كثيرة ويصعب إحصاؤها غير أنه يمكن القول من ناحية أخرى إن هذه الكثرة ما كانت لتقف حائلاً دون دراسة علاقة الأنباط بالرومان ، منذ بداية العصر الإمبراطوري وإلى سقوط الدولة النبطية في بداية القرن الميلادي الثاني ولاسيما أن الجزء الأكبر من الكتابات السابقة – حسب تقديري المتواضع- يتسم إما بالعمومية في التناول أو التركيز على آثار وحضارة الأنباط معاً .
وعلى فرض أن هناك كتابات متخصصة سبق لها التطرق إلى بعض جوانب هذا الموضوع، فلا يمكن منطقياً القول بأن أصحاب هذه الكتابات قد انتهوا في تناولهم إلى نتائج قطعية ونهائية، ويمكن القول أن المجهول من تاريخ الأنباط يفوق كثيراً ما هو معروف عنه وبما في ذلك تحديداً علاقة الأنباط بالقوى السياسية المختلفة . وقد كانت هذه القناعة من بين العوامل الرئيسة التي دفعتني لدراسة موضوع العلاقات النبطية الرومانية في الحقبة الإمبراطورية .
وقد اقتضت الدراسة تقسيم هذا الموضوع إلى أربعة فصول، وخاتمة وتدعيمه بملاحق وخرائط ولوحات تاريخية .
الفصل الأول – وهو فصل تمهيدي - وعنوانه " تاريخ ونشاط الأنباط الاقتصادي قبيل قيام الإمبراطورية الرومانية" فهو يتناول العوامل التي دعت الأنباط إلى استيطان البتراء، واتخاذ أغلبهم التجارة حرفة رئيسة ، وعلاقة هذا الأمر بمحاولة القائد المقدوني انتيجنوس إخضاع الأنباط لسيطرته بعد وفاة الإسكندر الأكبر ، ودلالة نجاح الأنباط في مقاومة الحملتين الحربيتين اللتين أرسلهما هذا القائد المقدوني إلى عمق بلادهم . وإضافة إلى تناوله علاقة الأنباط بكل من البطالمة والسلوقيين والمكابيين ؛ قبيل التدخل الروماني في سورية فقد خُصِّص جزءٌ كبيرٌ من هذا الفصل لدراسة العلاقات النبطية الرومانية في الحقبة السابقة لإعلان أوكتافيوس أغسطس التحول إلى نظام الحكم الإمبراطوري .
وأما الفصل الثاني الموسوم بـ" علاقة الأنباط بالرومان في عهد الإمبراطور أغسطس" فهو يشمل بالدراسة أثر الأنباط في الحملة العسكرية الرومانية التي استهدفت بلاد العرب السعيدة، بأمر من الإمبراطور أغسطس وقد جرى التركيز بشكل خاص على توضيح مسئولية الوزير النبطي سيلايوس عن دفع الأنباط إلى الإسهام في هذه الحملة وتقديم المصالح الرومانية على مصالح المملكة النبطية التجارية .
وقد استدعى هذا الأمر تتبع خطى الحملة الرومانية في مختلف مراحلها ، ومناقشة الاتهامات التي ألصقها سترابو بالوزير سيلايوس والأنباط، ومحاولة هذا الكاتب الإغريقي تحميل هذا الوزير النبطي مسئولية الإخفاق الذريع الذي انتهت إليه محاولة الرومان غزو جنوب شبه الجزيرة العربية ويتضمن الفصل أيضاً مناقشة جملة من الإشكالات المتعلقة بأحداث هذه الحملة ، بما في ذلك حقيقة وصولها إلى مأرب عاصمة السبئيين الشهيرة .
وفيما يتعلق بطبيعة العلاقات النبطية الرومانية بعد هذه الحملة ، يتناول الفصل التأثير السلبي الذي خلفه دخول سيلايوس في صراع مصالح مع الملك هيرود "الكبير" ، ومحاولة هذا الوزير النبطي الوصول إلى عرش المملكة النبطية بعد وفاة الملك عبادة ، وعلاقة هذا الأمر باتخاذ أغسطس قراره بالتخلص من سيلايوس ، والموافقة على تولي حارثة الرابع مقاليد العرش النبطي. ويختم الفصل بتناول دور الأنباط في إخماد الثورة اليهودية التي تعرض لها الرومان عقب وفاة هيرود "الكبير" ، والتأثير الإيجابي الذي خلفته هذه المشاركة في العلاقات النبطية الرومانية في سنوات حكم أغسطس الأخيرة .
أما الفصل الثالث وهو بعنوان " علاقة الأنباط بالرومان حتى سنة70 ميلادية"،فيتناول علاقة الأنباط بالرومان في عهود حكم الأباطرة : تبيريوس ، جايوس قيصر، كلاوديوس ، نيرون . وهو يركز على إظهار جوانب السياسة التي أتبعها الملك حارثة الرابع في تعامله مع الرومان، ومحاولته تأمين كيان المملكة النبطية من تقلبات السياسة الرومانية وإمكانية تحول علاقة التحالف إلى علاقة عداء ومحاولة سيطرة من جانب الرومان .
وقد أقتضى الأمر التطرق إلى تفاصيل سياسة هذا الملك النبطي ، ابتداء من محاولة إيجاد طرق تجارية بديلة للطرق التي توقّع تعرضها لخطر السيطرة الرومانية ، والاعتماد على الزراعة مورداً إضافياً وانتهاءً بمحاولة إعداد منطقة الحجر (مدائن صالح) ، لتكون مقراً بديلاً للحكم إذا تعرضت البتراء لأية مخاطر.
وقد ركز الفصل أيضاً على إبراز الوسيلة التي أعتمدها حارثة الرابع على إبقاء السلام قائماً بين الأنباط واليهود ، وعدم إعطاء أي ذريعة للرومان للتدخل في شئون بلاده ، وعلاقة فشل المصاهرة التي كانت بينه وبين الملك هيرود انتيباس بانحياز الرومان إلى جانب هذا الأخير ، في نهاية عهد الإمبراطور تيبريوس . وقد جرى التركيز على توضيح الظروف التي مكنت الأنباط من استعادة مدينة دمشق مرة أخرى ، والتأثير الإيجابي الذي خلفه تمسك مالك الثاني بسياسة والده حارثة الرابع ، ومساهمته في ازدهار أحوال الأنباط ، واستمرار علاقة التحالف بين الأنباط والرومان وتوثقها أكثر وأكثر بعد مشاركة الأنباط في إخماد الثورة اليهودية التي شهدتها فلسطين في أواخر عهد الإمبراطور نيرون ، واستمرت إلى ما بعد سنة 70ميلادية .
أما الفصل الرابع الموسوم بـ" علاقة الأنباط بالرومان إلى نهاية عهد الملك رب إيل الثاني" ، فهو يتناول بدايةً التمرد الداخلي الذي قام به أهالي الحجر على الأسرة المالكة النبطية عقب وفاة الملك مالك الثاني ، وعلاقة هذا التمرد بقيام الملك رب إيل الثاني بنقل مقر الحكم من البتراء إلى مدينة بصرى ، وإهمال منطقة الحجر وإخراجها من حساباته في أن تكون مقراً بديلاً للحكم كما كان مرسوماً لها .
وقد اقتضى الأمر مناقشة العوامل والأسباب التي يرى المؤرخون المحدثون أن لها صلة بعملية نقل مقر الحكم إلى بصرى وليس إلى أي مكان آخر . كما تناول الفصل وضع العلاقات النبطية - الرومانية في زمن حكم أباطرة أسرة فسباسيان ، وطبيعة أحوال المملكة النبطية في سنوات حكم رب أيل الثاني الأخيرة، وعلاقة هذه الأوضاع ، وحالة الضعف التي لحقت البتراء والحجر من جراء نقل مقر الحكم إلى بصرى ، وإهمال منطقة الحجر ، بتبدل سياسة الرومان تجاه الأنباط ، وإجبارهم رب إيل الثاني على الموافقة بتسليم بلاده إليهم ، مقابل موافقتهم على بقائه في سدة الحكم إلى حين وفاته . ويتضمن هذا الفصل محاولة لإزالة الغموض المحيط بكيفية سقوط الدولة النبطية ، وإبراز الأسباب التي مكنت الرومان من الاستيلاء على البتراء وبصرى دون الدخول في مواجهة عسكرية كبرى مع القوات النبطية .
وقد اقتضت الدراسة توضيح الظروف التي دعت الإمبراطور تراجان إلى تأجيل إعلان ضم ممتلكات الدولة النبطية إلى ما بعد سنة 111 ميلادية وعلاقة هذا الأمر بالحرب الفرثية وعدم تمكن قواته من بسط سيطرتها إلا على الأجزاء الشمالية من بلاد الأنباط وبقاء الحجر وبقية المناطق تحت سيطرة أحد أفراد الأسرة النبطية وقد ختم هذا الفصل بالإشارة إلى الترتيبات التي اتخذها الرومان بعد سيطرتهم على الأجزاء الشمالية من بلاد الأنباط .
وقد تضمنت الخاتمة أبرز النتائج التي انتهت إليها دراسة هذا الموضوع.
جديد الدراسة :
برغم أن أولية المرحلة العملية تجعل الباحث المبتدئ يكتفي فقط بجمع أطراف الموضوع في دراسة شاملة أظهرت لي دراسة هذا الموضوع إمكانية الإتيان بجديد ولو على المستوى الجزئي ، وتصويب بعض الأخطاء الواردة في الكتابات العامة وشبه المتخصصة . ونظراًَ لأن المجال لا يتسع لذكر كثير من التفاصيل سوف نكتفي هنا بالإشارة إلى الأمثال الآتية :
أولاً : الجديد على المستوى الجزئي : ويمكن أن نلمسه بوضوح في الأجزاء المخصصة لدراسة دور الأنباط في الحملة الرومانية التي قام بها أيلوس جالوس على جنوب الجزيرة ، والعوامل الفعلية التي أدت إلى سقوط الدولة النبطية ، وكيفية هذا السقوط .
ثانياً : الجديد من ناحية تصويب الأخطاء :
وأبرز مثل لهذه الحالة يتمثل في وصف بعض الكتابات العامة وشبه المتخصصة الحملتين اللتين أرسلهما القائد المقدوني انتيجنوس نحو بلاد الأنباط في أواخر القرن الرابع ق.م على أنهما حملتان سلوقيتان ، والثابت أن الأنباط لم يتعرضوا لهجوم هاتين الحملتين ، إلا لأنهم كانوا محالفين للسلوقيين والبطالمة. والراجح أن أصحاب هذه الكتابات خلطوا بين هاتين الحملتين والحملتين اللتين قام بهما الملك السلوقي انطيوخوس الثاني عشر – ضد بلاد الأنباط - في أوائل القرن الأول ق.م . وليس ذلك وحسب بل إنه يمكن القول إن حملة انطيوخوس الثاني عشر الثانية ، والتي انتهت بمقتله على أيدي الأنباط في موقعة موتو ، من بين الأحداث التي اهتمت هذه الدراسة بتصويب بعض الكتابات التي تناولتها ، ولاسيما تلك التي تحدثت عنها وكأنها حملتان مختلفتان وليس حملة واحدة لا غير .
الخــاتمــة
نخلص مما سبق عرضه ،إلى أن موقع وطبيعة البتراء الجغرافية والطبوغرافية كان لها الأثر الأكبر في احتراف الأنباط مهنة التجارة بشكل أساسي ، وتحديد طبيعة علاقتهم بالقوى الكبرى التي توارثت السيطرة على مصر وسورية وفلسطين .
وقد أظهروا منذ بداياتهم الأولى مهارة فائقة في التعامل مع القوى السياسية الكبرى . فبرغم أن اتخاذهم جانب البطالمة والسلوقيين كان أحد العوامل التي دعت انتيجنوس المقدوني إلى مهاجمة بلادهم إلا أن الطريقة التي تعاملوا بها مع الحملتين الحربيتين اللتين أرسلهما هذا القائد المقدوني تؤكد أنهم كانوا على قدر كبير من الحنكة السياسية ، وأنهم كانوا مهرة في توظيف تضاريس بلادهم الطبيعية في المواجهات العسكرية .
ومعرفة البطالمة بهذا الأمر دفعتهم إلى اتخاذ وسائل أخرى في محاولتهم انتزاع تجارة الجزيرة العربية من يد الأنباط . غير أن الأنباط أظهروا مقدرة على المقاومة ، سواء من خلال استخدام القوة ، أو عقد التحالفات السياسية الضامنة لتحقيق مصالحهم . ولعل ما يؤكد قدرتهم على التعامل مع المتغيرات الطارئة ؛ أنهم لم يترددوا في استخدام القوة البحرية ضد سفن البطالمة التجارية ، والدخول في تحالف وثيق مع السلوقيين .
وإذا كانوا قد خسروا الجولة الأولى في صراعهم مع البطالمة ، فقد مكنهم نجاح حلفائهم السلوقيين في استرداد سورية من أيدي البطالمة ، من أن يحققوا الجزء الأكبر من الطموحات التي كانوا يحلمون بتحقيقها . فإضافة إلى معاودتهم نشاطهم التجاري مع المراكز السورية التي آلت إلى السلوقيين ، لم يترددوا في استثمار تغير موازين الصراع في التوسع نحو النقب ، ومنطقة الحجر ، ووضع أيديهم على الطرق والمراكز التجارية المؤدية إلى مصر وشمال الجزيرة .
وبرغم التقلبات التي شهدتها علاقتهم بالقوى السياسية المختلفة في المرحلة الهلنستية إلا أنهم لم يسمحوا لهذه التقلبات بأن تهدد مصالحهم ونفوذهم السياسي. وغالباً ما كان النصر حليفهم في الحروب التي خاضوها ضد المكابيين والسلوقيين.
وقد جاء انتصارهم على السلوقيين في معركة موتو ، وتمكنهم بعد ذلك من دخول دمشق ليؤكد بأنهم أصبحوا القوة الرئيسة في سورية. ولو لم يبادر الرومان بالتحرك نحو سورية لكانت السيطرة النبطية طالت جميع أجزائها .
وبرغم محاولة المكابيين دفع الرومان للتحرك ضد الأنباط خلال هذه المرحلة إلا أن خلفاء بومبي لم يتمكنوا من المساس باستقلال المملكة النبطية. واقتصر الأمر على دفع الأنباط لبعض المال للرومان في مقابل عدم التدخل في شؤونهم ؛ وقد ساهمت الظروف بعد ذلك في تحول العلاقة بين الجانبين إلى علاقة تحالف وولاء كامل في عهد كل من يوليوس قيصر وأوكتافيوس (أغسطس). واللذين استمدا دعم الأنباط في أصعب مراحل الصراع على العرش الروماني في المرحلة التي سبقت تبني نظام الحكم الإمبراطوري في إدارة الدولة الرومانية .
وقد ازدادت العلاقات بين الجانبين توثقاً بعد انفراد أغسطس قيصر (اوكتافيوس) بمقاليد الأمور ، ودخول الدولة الرومانية في العهد الإمبراطوري. وكان للوزير سيلايوس النبطي الدور الأكبر في مشاركة الأنباط في الحملة الحربية ، التي أمر أغسطس قائده جالوس بقيادتها نحو جنوب شبه الجزيرة . وتناول هذه الحملة يؤكد أن هذا الوزير النبطي قدم مصالحه الذاتية على مصالح بني جلدته من نبط وعرب جنوبيين . ولم يكن أقل إخلاصاً لأغسطس من قائد الحملة الروماني أيلوس جالوس. وإذا كانت هذه الحملة قد حققت شيئاً يذكر من أهدافها فالفضل في ذلك يعود إلى سيلايوس ، الذي تكفل بمهمة إرشاد الحملة في البر والبحر ، وتوفير المؤن والمياه ووسائل النقل البرية . والاحتمال الأكبر أن هذه الحملة ردت على أعقابها بعد مدة قصيرة من مغادرتها ممتلكات الأنباط المؤدية إلى جنوب الجزيرة .والمرجح إنها لم تصل مطلقاً إلى مأرب ، ولم تتمكن من الاستيلاء على أية مدينة جنوبية كبرى . ولو كان لسيلايوس والأنباط أي دور في إخفاقها ، لما تركهم الإمبراطور أغسطس دون عقاب . وإذا كان قد حدث بعض التبدل السلبي على طبيعة علاقة الأنباط بالرومان بعد زمن هذه الحملة ، فما ذاك إلا نتيجة لمحاولة سيلايوس تحقيق مصالحه الذاتية على حساب الملك عبادة والملك الأدومي هيرود "الكبير" .
وبرغم أنه حقق بعض النجاح في هذا الأمر إلا أن أغسطس اقتنع في آخر المطاف أن القلاقل والاضطرابات التي شهدتها علاقة الأنباط بكل من الرومان والهيروديين من صنع الوزير النازل في ضيافته . ومن ثم فقد آثر التخلص منه والموافقة على تولي حارثة الرابع مقاليد العرش النبطي. وقد كان للدعم الحربي الذي قدمه هذه الملك النبطي (حارثة) للرومان ، في عملية إخماد التمرد اليهودي الذي نشب ضدهم ، عقب وفاة الملك هيرود الكبير ، الأثر الأكبر في إعادة العلاقات النبطية الرومانية إلى حالة الوفاق التي كانت عليه سابقاً ، وإبقائها على هذا الحال إلى نهاية عهد الإمبراطور أغسطس .
وفيما يخص علاقات الجانبين من نهاية عهد أغسطس حتى عام 70 ميلادي ، كانت أقرب إلى الاستقرار التام . ولم يعط الملك حارثة الرابع أي مجال لتعكير صفو هذه العلاقات ، وكان حكيماً في تعامله مع الأباطرة الرومان والملوك الهيروديين ، سواء باكتساب صداقتهم بواسطة الهدايا وإظهار الولاء للأباطرة،أو الدخول في علاقة مصاهرة مع الملوك الهيروديين . ولإدراكه بأن مطامع الرومان في السيطرة على مصادر الثروة في بلاده ستظل قائمةً استثمر حالة السلم الطويل في تقوية بلاده ، وإيجاد بدائل لمقر الحكم ، وطرق التجارة ، وموارد الثروة المادية . وبرغم أن تزويج إحدى بناته من الملك هيرود انتيباس الأدومي قد كفل له بقاء حالة السلم مع اليهود والأدوميين مدة طويلة إلا أن محاولة هيرود التخلص من ابنة الحارثه بعد العلاقة الزوجية الطويلة أعادت العلاقة بين الجانبين إلى حالة الحرب . وكان ذلك مدعاة لتدخل الرومان ووقوفهم إلى جانب انتيباس المهزوم،في السنة الأخيرة من حكم الامبراطور تيبريوس . غير أن وفاة هذا الإمبراطور جنبت الأنباط والرومان عواقب الصدام . وساهمت سياسية الإمبراطور جايوس قيصر في إعادة العلاقات بين الجانبين إلى سابق عهدها. وتوجت بقيام هذا الإمبراطور بإعادة مدينة دمشق إلى الأنباط. ولم تشهد مرحلة حكم مالك الثاني أي تغير يذكر على علاقة الأنباط بالرومان. وكان ذلك نتيجة لتمسك مالك الثاني بسياسة حارثه الرابع. وقد أدت مساهمة مالك الثاني في إخماد الثورة اليهودية التي واجهها الرومان أواخر عهد الإمبراطور نيرون إلى تعميق العلاقات النبطية الرومانية ، والقضاء على التهديد المستمر الذي كان يشكله اليهود على كيان المملكة النبطية ، واستمرار حالة السلم بين الأنباط والرومان.
وقد كان في وسع الملك رب أيل الثاني السير على السياسة التي رسم خطوطها جده حارثه ، والتزم بمعالمها والده مالك الثاني ، والتي كان هدفها الأول تأمين كيان الدولة النبطية وتجارتها من مخاطر تقلبات السياسة الرومانية.غير أن حالة السلم الطويلة الذي شهدتها علاقة الأنباط بالرومان ، وتمرد أهالي الحجر في بداية حكمه دفعته إلى إهمال منطقة الحجر ، ونقل مقر الحكم من البتراء إلى مدينة بصرى ، المحادة لأملاك الإمبراطورية الرومانية في سوريه ، وتؤكد هذه الدراسة أن هذه الخطوة غير الحكيمة كانت في مقدمة العوامل التي شجعت الإمبراطور تراجان على وضع حد لاستقلال المملكة النبطية ، وتحقيق ما لم يتمكن من تحقيقه من سبقه من قادة وأباطرة ، من إغريق وبطالمة وسلوقيين ورومان .
وقد اهتمت هذه الدراسة بإزالة الغموض المحيط بعملية سقوط الدولة النبطية ، وتبيان الوسائل التي استخدمها الرومان في عملية الاستيلاء على كل من البتراء ، وبصرى . ومن أهم النقاط التي انتهت إليها هذه الدراسة ، أن السيطرة الرومانية اقتصرت على البتراء ، وبصرى ، ومراكز الأنباط الشمالية الرئيسة . وأن منطقة الحجر والمراكز النبطية القريبة منها ، ظلت بعيدة عن السيطرة الرومانية . وترجح لدينا أنها بقيت تحت سيطرة أحد أفراد الأسرة النبطية المالكة لمدة طويلة .
أما الترتيبات والإجراءات التي أتخذها الرومان بعد الاستيلاء على البتراء وبصرى ، فإن هدفها الأول كان فرض السيادة الرومانية الفعلية على الأجزاء النبطية التي تم الاستيلاء عليها . ولذلك اقتصر الأمر على إنشاء شبكة من الطرق الفرعية ، إلى جانب طريق كبير (حمل اسم طريق تراجان الجديد) ، يمتد من دمشق إلى ميناء إيلة على خليج العقبة ، واقتضت المصلحة أيضاً إنشاء مجموعة من القلاع على طول هذا الطريق ، وتجديد الطرق والقلاع القديمة التي كان يستخدمها الأنباط قبل خضوع بلادهم الشمالية للسيطرة الرومانية ، والتي ثبت لنا أنها (أي السيطرة) لم تؤكد رسميا إلا في عام 111م .