السياسة الخارجية لمملكة الفرنجة في عهد شارل مان (768-814م)
الباحث: د/ نجاة محمد محمد عبد الله الطلبي
الدرجة العلمية: دكتوراه
تاريخ الإقرار: 2005م
نوع الدراسة: رسالة جامعية
المقدمة:
سيَّر أحداث التاريخ الكثير من الشخصيات العظام. وفيما يتعلق بالتاريخ الأوربي، يعد "شارلمان" (768ـ814م) Charlemagne من أعظم تلك الشخصيات؛ إذ أمسك ذلك الجرماني المتبربر بخيوط الأحداث ليسيرها وفق مصالحه ومصالح مملكته؛ فيهادن دولة ليحارب أخرى. وينسحب من حملة ليواجه خطرا أقوى يكاد يفتك به. وتلونت سياسته بين شدة العنف تارة، والسياسة والمسايرة تارة أخرى، بدافع أوحد وهو مصلحته الشخصية ومصلحة مملكته المسماة بمملكة الفرنجة؛ تلك المملكة التي أخذ يوسعها شمالاً وجنوب، شرقاً وغرب، سعياً وراء مطامعه التي تتمثل في التربع على عرش إمبراطورية أوربية مترامية الأطراف.
ولقد وسع شارلمان طموحه أكثر فأكثر، فسعى إلي ضم الإمبراطورية البيزنطية ليعيد عقارب الساعة إلى الوراء، بإعادته إحياء الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف؛ تلك الإمبراطورية التي تمزقت تمزقاً أبدياً سنة476 م، بسقوط الإمبراطور"رومولوس أجسطولوس" (475- 476م) Romulus Augustulus على يد الجرماني "أداوكر"Odoacre، فأسدل الستار على الإمبراطورية الرومانية في الغرب، تلك الإمبراطورية التي تمزقت أوصالها من قبل ومن بعد علي يد البرابرة الجرمان.
أما الإمبراطورية الرومانية الشرقية - أي الإمبراطورية البيزنطية - فبقيت منذ ذلك الحين إلي أن تربعت على العرش الإمبراطورة "إيرين"(797ـ802م) Irène، فسعى شارلمان حثيثاً للزواج بها متستراً وراء شخص"ليون الثالث" (795-816م) Léon III بابا روما، هادفاً من زواج المصلحة هذا تكوين إمبراطورية رومانية أورو- أسيوية. إلا أن حلمه انقشع بخلعها، وخلع الأفكار الشرلمانية في إحياء إمبراطورية رومانية مترامية الأطراف، ونجاحه فقط في تأسيس إمبراطورية رومانية مقدسة أوربية الطابع.
وقد انجذبت للبحث في السياسة الخارجية لهذا العملاق الأوربي المقدس عند الفرنسيين والألمان على السواء، لكونه جرماني الأصل، ولنجاحاته المتلاحقة المتسابقة، ولمخططاته الخارجية الفذة. ويكفيه فخراً ترويض عناصر تجنح إلى شدة البربرية؛ من سكسون وفريزيين وبافار وآفار ولمبارديين ونورمان؛ ويكفيه فخراً أيضاً إعادة الُلْحَمة إلى أوربا؛ وهذا في حد ذاته يُعد معجزة تحققت في عصرنا الحديث - بعد عناء طويل - بفضل الوحدة الأوربية الساعية للتفوق على القوة العظمى الوحيدة؛ المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، مع فارق واحد هو أن شارلمان كان حاكماً أوحداً على كل الأراضي التي ضمها إلى مملكته التي تحولت إلى إمبراطورية؛ بينما الاتحاد الأوربي يتربع على كل بلد من بلدانه حاكم مستقل ومنتخب.
وبتعمقي في شخصية موحد أوربا، بعد تمزيقها إلى أشلاء على يد بني جنسه من الجرمان المتبربرين، ونتيجة الفترة الزمنية الطويلة التي عاصرها شارلمان(768-814م)، وكثرة أحداثها وتداخلها، وجدت من المفيد حقاً تقسيم البحث تقسيماً جغرافياً، حتى نتمكن من الإلمام بكافة أحداثه وحفاظاً عليها من البعثرة تارة يميناً وتارة يساراً.
من هذا المنطلق، استهليتُ البحث بدراسة تحليلية نقدية مقارنة لأهم المصادر، وانتقلت بعد ذلك إلى تمهيد كان لابد منه كمدخل للموضوع، يتناول الفترة السابقة على موضوع البحث أي مملكة الفرنجة في عهد "ببين القصير" (751- 768 م) Pépin Le Bref؛ إذ كان والد شارلمان - رغم رئاسته لبلاط المملكة الميروفنجية - قد تمكن من وضع حجر أساس الأسرة الكارولنجية بعد خلعه الملك الميروفنجي "شلدريك الثالث"(742- 752م ) Childric III، وإسدال الستار على الأسرة الميروفنجية، وتأسيسه لأسرة نسبت إلى ابنه شارلمان ــ وهي الأسرة الكارولنجية - رغم أن ببين القصير توج ملكاً سنة 751م ولكنه ُظُِلُمَ حين نسبت أسرته إلى أبنه بدلاً منه.
وبوفاة ببين القصير سنة 768م، خلفه ولديه شارلمان و "كارلومان"(768-771م) Carloman. وشاء قدر شارلمان أن يصبح ملكاً أوحداً سنة 771م بعد وفاة شقيقه؛ إذ أسرع بضم أراضى شقيقه، ضارباً عرض الحائط أحقية ولدي شقيقه في أملاك أبيهما، كل ذلك تحقيقاً لطموحاته في التربع بمفرده على ميراث والده ببين القصير، ووضع النواة الأولى لأوربا الموحدة. وهذا ما تناوله الفصل الأول من الرسالة وعنوانه:
"السياسة الخارجية لمملكة الفرنجة في عهدي شارلمان وكارلومان (768-771م )".
والملاحظ أن هذا الفصل يتسم بصغر حجمه لأسباب عديدة أهمها: قصر المدة الزمنية التي لم تتعد ثلاث سنوات (768-771م)، إضافة إلى قلة الأحداث الخارجية لكون شارلمان مقيداً بشقيقه في تسيير أمور تلك السياسة. ومن المحتمل أيضاً أن شقيقه لم يكن كثير الطموح مثله، وبالتالي ورث الشقيقان المشكلات السياسية لوالدهما ببين القصير سواء في تعامله مع السكسون و الفريزيين والبافار والآفار والمسلمين والنورمان و اللمبارديين على وجه الخصوص.
هذا بينما كان الفصل الثاني وعنوانه: " شارلمان وإيطاليا" أكثر اتساعاً من الفصل الأول، بسبب تشابك الأحداث فيما يتعلق بالمشكلة اللمباردية؛ تلك المشكلة المتداخلة التي كانت الفيصل في أن "يكون شارلمان أو لا يكون". ونجح شارلمان بحكمة بالغة بأن يثبت أنه " زعيم أوربي عملاق" يبشر بإقامة وحدة أوربية شاسعة الأطراف، إذ قضى على اللمبارديين تماماً واقتلع مملكتهم، وأيقن البابا؛ بل و البابا الذي سيخلفه أيضاً، بأنه زعيم أوربا المساند للبابوية وحامي الكنيسة الكاثوليكية. فكان على ود مع البابا هادريان الأول (772 - 795 م) Hadrien I وارتمى ليون الثالث (795-816م)Léon III في أحضانه. وأثبتت لنا الأحداث صدق ذلك.
أما الإمبراطورية البيزنطية، آنذاك، فقد أفْشَلَ مخططاتها الهادفة إلى إعادة إحياء الميت المتمثل في المملكة اللمباردية بعد أن قمع ابن
"دزيدريوس"(756-774 م) Desiderius المدعو "أدلجيز" Adalgise، فقضى على أحلامه وأحلام الإمبراطورية البيزنطية معاً.
وفي الفصل الثالث - أكبر فصول الرسالة - وعنوانه: "توسع شارلمان في اتجاه الشمال الشرقي"، فقد استعرضنا فيه حملات شارلمان المتعاقبة على السكسون، لإخضاع هؤلاء القوم المتوحشين، مستخدماً في سبيل مكيافيلليته كافة الوسائل: من قمع وإرهاب وتنصير وتهجير، وأخيراً نجح في ترويضهم بشراء ذمم الكبار من جيوب الصغار دون أن يخسر شيئا يذكر من خزانة مملكته، كل ذلك تحقيقاً لغاياته التوسعية. وكان قمعه وقهره للسكسون، درساً مخيفاً لجيرانهم الفريزيين القاطنين غرباً، فلم يطل أمر قمعهم و أذعنوا لسيادته.
ثم كان الفصل الرابع و عنوانه " شارلمان و الأقوام القاطنة جنوب شرق مملكة الفرنجة"، عالجنا فيه سياسة شارلمان مع كل من "البافار"Bavares و"الآفار"Avares، والتي انتهت بإدخال زعيم البافار المشاكس "تاسيلون"(748-788م) Tassilon أحد الأديرة، وضم أراضيه عقاباً له على مشاركته في التحالف الثلاثي الذي ضم كل من الإمبراطورية البيزنطية والآفار و البافار.
وبعد ذلك استدار شارلمان، تجاه الآفار لتأديبهم على التآمر ضده. ونجح في قمعهم وضم أراضيهم الواقعة بين نهر "الدراف"Drave و "الدانوب"Danube، كما ضم من قبل أراضي البافار.
وفي الفصل الخامس وعنوانه "حروب شارلمان في الجنوب والغرب" تناولنا فيه سياسة شارلمان تجاه مسلمي الأندلس. وتعد حروبه في تلك الجبهة بقعة سوداء في أسفل طرف ثوبه ناصع البياض، لكونه فشل في حملاته غرب جبال "البيرينيه" Pyrénées في حين نجح شرقاً حين أسس الثغر الأندلسي لاستخدامه عيناً له للتجسس على تحركات المسلمين.
بعد ذلك انقض شارلمان على "بريتاني"Bretagne و أخضعها لسيادته؛ بينما لم يهتم بإنجلترا لكونها جزيرة معزولة عن أوربا، واكتفى بتشجيع الثورات الداخلية حتى يضعف تلك الممالك الصغيرة.
ويأتي بعد ذلك الفصل السادس بعنوان: "شارلمان إمبراطوراً و علاقته بالإمبراطورية البيزنطية" استعرضنا فيه بلمحات خاطفة تتويج شارلمان إمبراطوراً، والذي كان مكافأة له على إعادة البابا "ليون الثالث" للسُدة الرسولية، وانعكاس ذلك على الإمبراطورية البيزنطية؛ إذ إن الإمبراطور البيزنطي كان يعتبر نفسه إمبراطوراً للرومان، أي إمبراطوراً على القسم الشرقي والغربي معاً. فالقسم الغربي من الإمبراطورية كان من أملاكه المغتصبة ولا بد من استعادته. وقد حاول تحقيق هذا الحلم الإمبراطور البيزنطي "جستينيان الأول" (525-567م) Justinien I وحقق بعض المكاسب، ولكنها انتهت بوفاته سنة 567م، فانفرط عقد أوربا ثانية، ليعيد شارلمان الفرنجي البربري لملمته. وكان من الطبيعي ألا تقبل بيزنطة ذلك؛ ألا أن قوة شارلمان وجبروته أتت أكلها حين ضغط عليها فاعترف به الإمبراطور البيزنطي "ميخائيل رنجابيه" (811-813م)Michel Rhangabé إمبراطوراً وذلك سنة 812م. وهكذا نجح شارلمان في أن يكون إمبراطوراً ثانياً لأول مرة في تاريخ انفصال الغرب عن الشرق منذ سنة 476م؛ إذ ظل الغرب بلا إمبراطور إلى أن توج شارلمان إمبراطوراً سنة 800م.
ويأتي في نهاية المطاف الفصل السابع والأخير وعنوانه" سياسة شارلمان الخارجية بعد تتويجه إمبراطوراً (800-814م )" أوضحنا فيه عدم تبدل سياسته الخارجية عن ذي قبل، ثم تناولنا حملاته على "بوهيميا" و "السلاف" و النورمان، وكذا على بعض جزر البحر المتوسط. ولم يفتنا تناول علاقته السلمية مع الخلافة العباسية، و أوضحنا أسبابها ونتائجها، وأشرنا سريعاً إلى نهاية حكمه.
و كان من الطبيعي أن تجمع الخاتمة ما أتينا به من جديد، والنتائج التي توصلنا إليها. وحرصنا حرصاً شديداً على تزويد البحث بالخرائط التي تتناسب مع أحداثه - ليس في نهاية البحث - حتى يسترشد بها الباحث المتتبع لفصول الرسالة.
ولإكساب البحث عمقاً علمياً، حرصنا على أن يضم العديد من الملاحق، استخلصناها من مصادر لاتينية لم تنشر بعد، وعقبنا عليها؛ وهي تلقي الضوء على القضايا والمشاكل التي تمت مناقشتها في بعض فصول البحث.
ولكون الحوليات الملكية الفرنجية تكاد تكون المصدر الأساسي في إعداد موضوع البحث؛ لذا، استخلصنا منها أربعة ملاحق توضح تماماً سياسة شارلمان الخارجية. كما حرصنا أيضاً على أن نخصص أحد هذه الملاحق، ألا وهو الملحق الرابع المتعلق بعلاقة هارون الرشيد بشارلمان، لعقد دراسة تحليلية نقدية مقارنة بين الحوليات الملكية الفرنجية وكافة المصادر الأخرى التي تناولت هذه العلاقة، مع تمحيص الكثير من المراجع الأجنبية والعربية والمعربة التي تناولت تلك العلاقة. وحرصنا أيضاً على إبداء الرأي فيما يتعلق بهذا الموضوع الذي لم يحسم بعد. علماً بأن كافة المراجع العربية أشارت إلى هذه الحوليات دون الرجوع إليها1. ولم يفتنا إعداد ملحق خاص عن تتويج شارلمان إمبراطوراً؛ ألا وهو الملحق الخامس من مصدرين آخرين، كانا أكثر تفصيلاً مما ورد في الحوليات الملكية الفرنجية.
و كان من الطبيعي أن تأتي في نهاية الرسالة قائمة المصادر والمراجع الأجنبية والعربية والمعربة. والتي حرصنا على تصوير البعض منها من المكتبة الوطنية بباريس Bibliothéque Nationale de Paris. خاصة المصادر منها، لإخفاقنا في العثور عليها، في مكتبات مصر العامرة، وخاصة مكتبة جامعة القاهرة ودار الكتب المصرية، ومكتبة الجامعة الأمريكية، ومكتبة المركز الثقافي الفرنسي بالمنيرة، ومكتبة الفرنسيسكان والدومينيكان والجزويت ومكتبة الإسكندرية ومكتبة الدراسات العليا بالإسكندرية أيضاً. وحرصنا على استخدام أكثر من طبعة للمصدر الواحد متى توفر ذلك. وسبب ذلك البحث عن مزيد من المعلومات والاختلافات. وقد أشرنا إلى ذلك في الحواشي، وقد استفدنا بالفعل من إطلاعنا على طبعات عديدة، وعلى وجه الخصوص "الحوليات الملكية الفرنجية"Annales Regni Francorum إذ أن طبعة "فريدريكوس كورز"Éd. Fridericus Kurze تعد أفضل الطبعات على الإطلاق. سعياً منا في تحري الدقة رغم ما عانيناه من تعب بسبب هذا الاختلاف.
ومما يذكر أن "كورز" عندما أعاد نشر الحوليات الملكية الفرنجية حرص على كتابة عبارة " بعد تنقيحها"Remaniement . وبالفعل أدخل الكثير من الجديد نتيجة إطلاعه على نسخ متعددة.
--------------------------------------------------------------------------------
1أنظر على سبيل المثال لا الحصر الرحيلي و بارتولد والعريني. ـ وسنشير إلى ذلك في الملحق الرابع من الرسالة. علماً بأن عادل زيتون مترجم مصدر إينهارد لم يرجع للحوليات الملكية الفرنجية الذي كان في أمسّ الحاجة إليها ليدرك أن كاتب "سيرة شارلمان" نقل عن الحوليات الملكية الفرنجية بإيجاز شديد. كذلك لم يرجع إلى غيره من المصادر المعاصرة، وترك الكثير من الجمل التي غمضت عليه ترجمتها.