الأوضاع السياسية الداخلية لليمن في النصف الأول من القرن التاسع عشر
الباحث: أ/ صادق محمد عبده قاسم الصفواني
الدرجة العلمية: ماجستير
تاريخ الإقرار: 3/6/2002 م
نوع الدراسة: رسالة جامعية
الملخص:
يتضح بعد استكمال فصول البحث و الدراسة أن اليمن- بالنسبة للأوضاع السياسية الداخلية – في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي عاشت مرحلة اضطرابات وانقسامات وضعف وصراع داخلي وفوضى سياسية ، مما جعل اليمن عرضة للأطماع الخارجية . مما أدى إلى دخوله اليمن مرحلة حرجة كان بمثابة تحول تاريخي ، مثلث فترة حكم الإمام المنصور علي بن المهدي عباس الذي استمر حوالي (35 عاماً) المنعطف التاريخي الذي أدى إلى حدوثه . وإن ملامح هذا التحول تجلتِ في السنوات الأخيرة من حكم المنصور علي ، ويرجع ذلك إلى مجموعة التراكمات السلبية التي خلفها حكمه .
فكانت من ناحية ؛ شخصية الإمام المنصور علي المولعة بتشييد الدور والقصور في صنعاء وضواحيها ، وحبه حياة المظاهر والاسترخاء والتنزهه مع الإقامة في بيوت أصدقائه وأقاربه، إلى جانب اشتهاره بزيجاته العديدة إلى درجه أنه تزوج ثلاثاً في عام واحد، وإقامته لأعراسه المتعددة حفلات يطول بعضها إلى شهر وأكثر . وقد عرفت حفلات أعراس الإمام وغيرها من الاحتفالات التي يقيمها بالبذخ والإسراف ، إلى جانب ميله إلى حياة القصور ومجالسة نسائه وجواريه .
كل ذلك لاهياً عن الحكم ومسؤولياته – إلى حد كبير – مما أدى إلى إحداث خلل في الجوانب الإدارية والاقتصادية والسياسية لحكمه . كما أدى - أيضاً - اعتماده على وزرائه إلى نمو نفوذ بعضهم – لغياب شخص الإمام – وعلى رأس أولئك الوزراء ؛ الوزير الأعظم حسن عثمان العلفي الذي ولّى أقاربه ومعارفه إدارة البلاد ثم تولية ابنه حسن بن حسن من بعده ، مما أضعف بعض سلطات الإمام وأبنائه وغيرهم من المتنفذين من آل البيت.
وأدى ترف الإمام وإسرافه على مظاهر حياته إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي للدولة . فقد تبين أن معظم صرفيات خزانة الدولة كانت تنفق على مظاهر الإمام وحياته الخاصة إلى درجة أنه – في كثير من الحالات – كان يلزم بعض كبار موظفيه وتجار صنعاء بدفع المبالغ المقررة للقبائل ، بل كان يلزمهم بتمويل بعض حملاته العسكرية .
ومن ناحية ثانية ، كان لسياسة الإمام الداخلية بالغ الأثر في اضطراب أوضاع دولته. فقد تسبب ما قام به من عزل كبار موظفي الدولة ومصادرة أموالهم – خاصة الذين تبقوا من رجال دولة أبيه – واستبدالهم بآخرين وفق سياسته المعتمدة على مبدأ المنافسة بين الموظفين في جمع الأموال ؛ بغض النظر عن الكفاءة . كل ذلك أدى إلى إضعاف النظام الإداري في البلاد . إلى جانب ما نتج عن بعض السياسات والأساليب الابتزازية والتعسفية من إثارة لأهالي ووجهاء بعض المناطق على الدولة ، على النحو الذي تبين – على سبيل المثال – أن إدارة الإمام هي السبب في خروج ابن إسحاق عن طاعة الإمام ، وقيام سعيد أبو حليقة بالتمرد على الإمام والهجوم على بعض المناطق ، كذلك قيام كل من الشيخة صالحة صاحبة الحجرية وأهالي منطقة بني سيف الأسفل وصبر والنادرة والحيمة وغيرها بالتمرد والفساد على الدولة.
وتبين أن سياسية الإمام المنصور على الداخلية كانت – أيضاً – سبباً في إثارة قبائل بكيل وخولان وزعاماتها على الدولة ، ويرجع ذلك إلى عدة أمور، إما بسبب قيام الإمام بقطع أو تأخير مقررات تلك القبائل ، أو أنه نتيجة استغناء دولة الإمام عن بعض تلك القبائل من الجيش أو وظائف الدولة ، أو نتيجة ما يقوم به الإمام من سياسة تمييز بين القبائل بتقريب قبيلة على أخرى . كانت تلك السياسة وغيرها تجعل بعض تلك القبائل تعلن (فسادها) على الدولة ، فتتمرد وتخرج من مناطقها للنهب والسلب ، محاولة الضغط على الإمام وحكومته لتسلم مقرراتها ومرتباتها ، أو إعادة رجال القبيلة إلى وظائفهم ، أو أنها تقوم بذلك حتى تحصل على مناطق نفوذ تغنيها عن مقررات ووظائف الدولة . كما أدى تقاعس الإمام وحكومته عن التصدي لحركات التمرد من البداية ومعالجتها إلى نمو وتفشي ظاهرة خروج القبائل والمناطق على الدولة . وانعكست ظاهرة هجوم قبائل خولان وبكيل ويام على الأسواق والمدن والمناطق الزراعية في زعزعة استقرار الأوضاع الأمنية ، مما أثر سلباً على الأعمال الزراعية والتجارية في البلاد . ومن ناحية ثالثة ، تسببت الأحداث الخارجية التي خلفتها الحملة الفرنسية على المنطقة إلى اهتمام الإنجليز بمنطقة البحر الأحمر من منظور تجاري واستراتيجي وخط مواصلات يصل بالبحر المتوسط . الأمر الذي جعل الإنجليز يحولون البحر الأحمر والبحر العربي في البداية – نتيجة مخاوفهم من الحملة الفرنسية – إلى منطقة عسكرية . كل ذلك تسبب في إحداث ركود في النشاط التجاري في اليمن ، وذلك نتيجة إعاقة السفن التجارية من الوصول إلى الموانئ اليمنية . كما جعل – بعد ذلك – الإنجليز يحاولون الضغط على حكام اليمن لتوقيع معاهدات سياسة واقتصادية ، وذلك بهدف إقامة علاقات منفردة ، تجيز للإنجليز التدخل في شؤون المنطقة وعلاقتها التجارية . كما أدى ضعف الدولة العثمانية وانشغالها عن المنطقة إلى نمو الحركة الوهابية وسيطرتها على معظم مناطق الجزيرة العربية . الأمر الذي هدد الأمن السياسي والاقتصادي لدولة المنصور علي ، وذلك نتيجة زحف الحركة الوهابية على المخلاف السليماني وتهامة اليمن بقيادة الشريف حمود حاكم " أبي عريش" . فنتج عن ذلك انقطاع موارد وعائدات تهامة عن صنعاء ، وهي التي تشكل أحد روافد الخزانة اليمنية المهمة . إلى جانب ذلك كلف خزانة الدولة صرفيات حربية كثيرة . الأمر الذي ساهم إلى حد كبير – في حدوث أزمات اقتصادية لدولة المنصور علي ، تزايدت نتيجتها الاضطرابات الداخلية ، فبلغت أقصى حد لها عام 1807م و 1808م. فكان الإمام يضطر بسببها إلى تغير العملة عدة مرات ، وكان الجند – نتيجة تأخر رواتبهم – يرفضون الأوامر ؛ والبعض منهم قام بالتمرد وأعمال الشغب . بل إن المؤن الغذائية اختفت من الأسواق وبلغت أسعارها إلى أعلى مستوى لها . كما كان للأزمات السياسية التي خلقها محاولة قاضي برط ( العنسي ) قتل الوزير الأعظم حسن بن حسن عثمان بالغ الأثر ، إذ جعلت دولة المنصور علي تدخل مأزقاً حرجاً . أصبح - بعد الحادث- الأعداء والطامعون يحيطون بالدولة من كل جانب . فحاول أكثر من خارج يدعو لنفسه بالإمامة ، وقامت قبائل برط بحصار صنعاء ، إلى جانب محاولة الأمير سعود بن عبد العزيز إرسال جيوشه للسيطرة على اليمن . غير أنه عندما وجد سيف الإسلام أحمد أن دولة أبيه قد أحيطت بالأعداء والضغوطات القاهرة آخرها تجمهر الجنود داخل صنعاء احتجاجاً على تأخير رواتبهم من قبل الوزير الأعظم . وفي تلك الظروف العصبية خطط السيف أحمد إلى افتعال أزمة سياسية على الوزير الأعظم كسب من خلالها تأييد الجند ، فنفذ معهم انقلاباً ناجحاً على حكم أبيه ، وضع الإمام تحت الأمر الواقع . فقبل الإمام بعد تدخل العلماء ووجهاء صنعاء أن يحكم الأمير أحمد البلاد باسمه. واتضح أن مجموعة التحولات التي حدثت أواخر حكم المنصور علي قد انعكست آثارها على الفترة التاريخية التي بعدها ؛ إذ مثلت منعطفاً تاريخياً هاماً صدر عنه مجموعة من التحولات ؛ كان من أهمها ؛ ذلك التحول الخطير الذي طرأ على حكم الأسرة القاسمية وحدد نهايتها قاضياً بذلك على مستقبلها ، وذلك نتيجة استمرار الاضطرابات الداخلية ونمو نفوذ الزعامات القبلية في مختلف المناطق ، وخاض المتنافسون على الإمامة الصراع على الحكم . وقد أدى اعتماد الأئمة المتنافسين في النهاية على القبائل في صراعاتهم إلى نتائج مهمة ، أولها: اتساع نفوذ القبائل على حساب دولة الأئمة . والثانية : تحول القبائل الشمالية عن تدعيم نفوذ دولة الإمامة القاسمية – كما كان دأبها منذ تأسست الدولة القاسمية – إلى العمل والمساهمة – إلى حد كبير - في إضعاف وزعزعة كيانها ، مما أدى إلى انهيارها في نهاية الأمر . بل إن ما حدث في السنوات الأخيرة لحكم المنصور علي وما بعده من تحولات لم يحدد مستقبل دولة آل القاسم فحسب وإنما حدد مستقبل اليمن بكياناتها السياسية . فقد أدى الضعف العام نتيجة الاضطرابات والانقسام والتفتت الداخلي إلى جعل اليمن عرضة للأطماع الخارجية (الإنجليزية – محمد علي باشا – الدولة العثمانية) . فمحمد علي باشا بعد أن قضى على الحركة الوهابية عام 1818م ، وتمرد تركجة بيلماز عام 1832م حاول التوغل في الأراضي اليمنية. غير أن الإنجليز اعتقدوا أن محمد علي يسعى إلى السيطرة على عدن ، وذلك من شأنه أن يهدد مصالحهم في الشرق . الأمر الذي جعلهم يسارعون باحتلال عدن عام 1839م ، ثم فرضوا عليه ضغوطات سياسية جعلت محمد علي ينسحب من اليمن عام 1840م. أدى انسحاب قوات محمد علي من اليمن إلى إفراغ المناطق التي كان يسيطر عليها ، مما أتاح لبعض القوى اليمنية السباق لفرض النفوذ على المناطق . فسيطر ا لشريف حسين بن علي حيدر على تهامة ، وسيطر زعماء قبائل " ذو محمد " على اليمن الأسفل ، كما كان الإمام الناصر عبدالله يتطلع إلى إعادة نفوذ الدولة على تلك البلاد . استخدم زعماء " ذو محمد " رجال قبائل برط في حكم مناطق اليمن الأسفل، غير أن استخدام العنف والتعسف عند توطيد النفوذ كان له بالغ الأثر على الأهالي ومصالحهم . الأمر الذي جعل الأهالي يضيقون ذرعاً من تلك الأساليب ، فسعوا إلى محاولة تغيير الوضع . فكان علماء الدين من الفقهاء والمتصرفة أول من دفع أهالي اليمن الأسفل للالتفاف حول الفقيه سعيد ، الذي أشعل الثورة على القبائل ، غير أن تهديد الثورة بتوسيع نطاقها خارج المنطقة ، جعلت القوى القبلية تجتمع بالإمام الهادي محمد بن المتوكل أحمد ، وغيره من أصحاب المصالح في المنطقة ، فقضت على الثورة ، وأعادت نفوذ الدولة على مناطق اليمن الأسفل ، كما أعادت لزعماء قبائل " ذو محمد " و " ذو حسين" وخولان ونهم دورهم في المنطقة . أما تهامة اليمن فقد حاول الإمام المتوكل محمد بن يحيى بن المنصور علي استعادة السيطرة عليها من يد الشريف حسين بن علي حيدر – الموالي للباب العالي – غير أن الصراع بين الجانبين قد أدى إلى عودة العثمانيين رسمياً إلى حكم سواحل اليمن عام 1849م بعد استلامها من الشريف حسين . وأخيراً أدت محاولة العثمانيين التقدم إلى صنعاء وتعين الإمام المتوكل محمد بن يحيى إلى إغضاب أهالي صنعاء والقبائل المحيطة . فأجبرت العثمانيين العودة إلى السواحل ، وفي الوقت نفسه تخلصت من الإمام محمد بن يحيى . بعد ذلك عمت معظم أجزاء اليمن اضطرابات وفوضى سياسية وأمنية ، فتأجج الصراع بين المتنافسين على الإمامة ، وانكمش نفوذ الدولة شيئاً فشيئاً . كما اتسع نفوذ القبائل الشمالية ، وتقاسم زعمائها معظم المناطق التي كانت خاضعة لحكم الأئمة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر شهدت مناطق حضرموت استمرار صراعات قبائل يافع فيما بينها على النفوذ ، أما سلاطين الإمارات الجنوبية فقد قادهم الضعف والتفكك إلى قبول عقد معاهدات سياسية مع الإنجليز ، كما كانت الفوضى السياسية التي شهدتها صنعاء قد جعلت بعض المتصارعين على الإمامة وغيرهم في النهاية يطلبون من العثمانيين التدخل . وبذلك تمكن العثمانيين والإنجليز السيطرة على اليمن .